المحظوظون فقط هم أولئك الذين يقرأون ما يُكتب عنهم وهم يمشون بين الناس ملء حياتهم، فقد درج حملة الأقلام على الكتابة عن خاصتهم من الناس ومن يعرفون من العامة بعد فراقهم بدافع الحنين غالباً أو لأنهم فقدوا ما كان يملكه أولئك من حِراكٍ وأدواتٍ معرفية وخبراتٍ حياتية أثرت في من حولهم، رحل الكثيرون من رجالات ونساء بلادي وغيرهم كُثر من دول شتى دون أن يكرمهم أحد ولو بكلماتٍ يقرأونها في حياتهم لتطييب الخواطر ومعرفة قدرهم عند الناس، ثم أتى بعدهم من يكتبون ويملأون الصحف والأسافير بغزلِ الكلمات لتعديد مآثرهم بكلامٍ كان سيكون له معنى إن قرأهُ أصحابه عندما كانوا يعيشون الحياة معهم على سجيتها...!! لذلك عندما يكتب الصحفي بصدقٍ عن إنسان بدافع الحب والمعرفة ويعكس كل ما عرف عنه من قيمٍ إنسانية نبيلة للعامة في وجوده يكون قد زرع هذا الشخص فيهم ومعهم أبنائهم إن هم حذوا حذوه وأخذوا ما إكتسب من خلق وعلم ومعرفة وتجارب في الحياة، عندها فقط تبقى أمانة الكلمة هي التي تجعل الناس يقرأون ما يدون الكاتب ويريدونه أن يواصل كتاباته لأنهم يعرفون أنه لن يخذلهم...!! وفي هذا العالم البَرَاح كثيرون هم من تسعد بوجودك بينهم أو من تتواصل معهم عبر كتاباتك أو حين تقرأ لهم وأنت بعيد فتتعمق المعرفة وتبقى الصلة بتواصل اللقاءات أو تبادل الرسائل أو الكتابات عنهم أو في مواضيع شتى، مثل هؤلاء الأحباء يتركون في دواخلك أثراُ ودافعاً للكتابة ومعنى للتدوين والتوثيق لتشرك به قراؤك..!! ولما كان الأقربون أولى بمعروف الكتابة لذلك دوماً ما أكتب عن بلدي وخاصتي والأحباء من أبنائها لأنها وأهلها هم الأصل وما دونهم من الناس الجميلين الذين ألتقيتهم ذات مرة ومرات في الدروب، إنما هم تصاريف الزمن وأقدار جمعتني بهم ظروف الحياة في قطارها ومحطاتها الكُثر..!! لذلك يعجبني إبن"الحتة" عندما تجتمع فيه محبة الناس الذين يذكرونه بالخير وتحمل مشاعرهم له كل تقدير ونظراتهم إعجاباً، وعندما أكتب عن "عبدالله العقيد" إنما أكتب لهؤلاء الذين يعرفونه أو سمعوا عنه وما تحمله مشاعرهم تجاهه، أكتب لأسرته الصغيرة التي جعلت للحياة معنى في دواخله، أكتب لأهله وأخوانه الذين وقف بجانبهم فبادلوه الحب حباً والجميل وفاء، أكتب لأبيه الذي أحبه وشجعه على التعليم حتى أصبح مفخرة له وهو في مرقده الأبدي مطمئناً على الحال، أكتب لأصدقائي ومعارفي وقُرائي الذين لم يلتقوا به أو يعرفونه أو يسمعوا عنه ليعرفوا واحداُ من أبناء حتتي، وفي النهاية أكتب عنه وله شخصياً ليقرأ ويعرف معزته في قلوب كل هؤلاء مجتمعين. يقول عنه أخوه الأكبر حمد إنه بدأ ينمو صبياً لكنه نحيف الجسم هاديء الطباع لا يقوى على شيء حتى إنزعج والدنا على مستقبل أيامه لذلك كان هاجسه أن يقف بجانبه يشجعه ويدفعه دفعاً لتكملة تعليمه حتى يلقى وظيفةً مريحة دونما حوجة إلى أشغال البلد المتعبة في الزراعة أو التجارة، وأن عبدالله لم يخيب ظن والده فيه فقد كان دائماً من ضمن أوائل الفصل الدراسي في مرحلتي الوسطى والثانوية الشيء الذي كان مصدر فخر للوالد ما جعله يحتفظ بنتائج إمتحاناته المشرفة في جيبه حتى يطلعها على كل من يجالسه ويلاقيه من أهل البلد...!! في العام 1953 كان موعده مع صرخته الأُولى في الحياة بريفي أرقو محلية البرقيق في قرية الكفاح المُسمَى الجديد لقريتي"الحفيرة والكُيد" نفس التراب الذي أنجب شاعرنا الراحل محي الدين فارس، شب عن الطوق إلى أن بلغ سن المدرسة وتم قبوله في مدرسة بيوض الصغرى ويقول عن تلك الفترة: "لم يكن التعليم سهلاً ومتاحاً في ذلك الوقت وقد كان الدخول من المدارس الصغرى للمدارس الأولية لا يقل صعوبة عن دخول الجامعة، كانت المدارس الصغرى حتى الصف الثالث فقط والمدارس الأولية عبارة عن صف رابع تسمى بفصل "الرأس" الذي يؤهل لدخول المتوسطة، ولقلة المدارس الأولية كان التنافس بين تسعة مدارس صغرى يأخذون من مجموعها طلاب فصل واحد للمدرسة الأولية في جزيرة بدين"..!! نجح عبدالله العقيد في تلك المنافسة الشرسة وذهب إلى مدرسة بدين الأولية ليسكن في داخليتها مُحاطاً بالنهر من كل جانب، وما هدأ من روع غربته والحنين إلى الديار إلا وجود أخاه عوض وبعضاً من أولاد البلد، بعد فترة في بدين تحول الى مدرسة أرقو الشرقية الأولية التي تفوق منها في الإمتحان النهائي ودخل مدرسة أرقو المتوسطة ليكمل فيها سنواته الأربعة بنجاح ويذهب إلى الخرطوم لدراسة الثانوي بمدرسة الخرطوم التجارية العليا، أكمل دراسته فيها ومنها إلتحق بجامعة الخرطوم عن جدارة وأخذ مقعده بين طلابها في كلية الإقتصاد، في تلك الفترة كان للتعليم قدسيته ولجامعة الخرطوم بريقها وخصوصيتها وشهرتها والحلم الذي يراود كل طالب وولي أمر لدخولها لما لها من مكانة وطنية وعالمية معاً، وقد كان خريجوها يطلبون لسوق العمل عندما يصلون إلى سنواتهم النهائية، لذلك عندما أنهى العقيد دراسة الإقتصاد كانت الوظيفة تسعى إليه بإنتظاره في بنك الخرطوم، عندها حقق رغبات والده وظنه الطيب فيه وأثمرت جهود دفعه للدراسة بكل ما سعى إليه ليكون مرتاح البال في مرقده الذي ذهب إليه في العام 1977 ذات السنة التي تخرج فيها، ولسوء القدر لم يحظى معه بإحتفالية ذلك التخرج، لكنه كان قد إطمأن على الإبن الذي خاف عليه يوماً من تعب الحياة الذى لن تقدر عليه نحولة جسمه...!! في تلك الفترة ومنذ دراسة الثانوي كانت الخرطوم هي حياته التي وجد فيها نفسه طالباً وموظفاً وإجتماعياً فوجد في محجوب حمد وشباب ود رحمة صديقين مقربين، عاش حياته بين أهله وإستمتع بها مع أقرانه، ويقول عن علاقته بمحجوب وشباب" كانت علاقتي وثيقة بمحمد احمد رحمة(شباب) ومحجوب حمد لذلك كانت تحدث بعض الطرائف بيننا، محجوب كان معاه عربية الشركة وكنا راكبين نحن الثلاثة وكنت أنتهز هذه الفرصة للتدريب على قيادة السيارة وخاصة كنا في إنتظار الفيزة للسعودية(فعلا جينا بي فيزة واحدة) وأنا سايق طلع راجل من شارع فرعي بالإمتداد وتووف بالخوف دخلت يميني في"الكوشة" رغم إن الراجل كان لسة بعيد، ولما سألني محجوب ده شنو العملتو ده؟ قلت ليه: يا الزول يا الكوشة..!! وما زلنا نرددها ونضحك من الأعماق"، كما يقول أيضاً عن أول أيامه بالمملكة التي أتاها في عام 1980"أول سنة إغتراب دار حديث بين الأخوان عن المقارنة بين التعليم في السودان والسعودية وكان تعليقي على النقاش(القاعد منو لامن يدخل أولادو المدارس؟) وفعلاً كان وضع الموظف بخير في السودان وإعتقدنا بأننا حنأخد سنتين تلاتة ونشتري أشياء أساسية ونرجع السودان، والآن دخل أحفادنا الكي جي"الروضة" والإبتدائية والأبناء الموجودين هنا ما عايزين يرجعوا والكملوا الجامعات عايزين يجوا وكلهم ما عايزننا نمشي، ماشين لمنو الأخوان والأولاد هنا والكهرباء والموية قاطعة هناك وتبقى الساقية مدورة، ومداعبة رفاق الدرب المحببة كل ما نلتقي ناس النقاش الأول عن التعليم(قال راجع السودان قال) ما قلتوا دينكا...!! في أكتوبر 1981 عاد إلى السودان في أولى إجازاته السنوية وكان عاماً مختلفاً له مذاق وطعم خاص في حياته، حيث التلاقي والموعد مع فتاة أحلامه، المرأة الذهبية التي تقل مثيلاتها من النساء في زماننا هذا، كانت فاطمة رحمة هدية السماء له، في تلك الليلة الخالدة صدح وتغنى العملاق عثمان حسين بأجمل ما عنده من أغنيات إلى ساعات الفجر الأولى ليبارك لهما مشوار الحياة الذي بدأ من هناك برباط التوحد فترافقا به بعد إنتهاء الإجازة إلى المملكة التي أصبحت داراً وسكناُ وحياة نبتت ونمت فيها ستة شجيرات يتفيآن بظلالها اليوم، الأبناء هم نعمة الدنيا وأجمل ما رزق الرحمن، وهناك أتت سحر المهندسة التي تخرجت من جامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا.. قسم كهرباء، الأستاذة سماح خريجة تقنية المعلومات من جامعة النيلين، الطبيبة سلمى خريجة جامعة أفريقيا العالمية، المهندس مدني عاصم خريج جامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا، طبيبة الأسنان سارة خريجة جامعة أفريقيا العالمية وآخر العنقود عادل حيث يدرس اللغة الإنجليزية بالهند إستعداداً لدراسة الهندسة بإحدى جامعاتها. لقد ورث عن والده الإهتمام بالتعليم لذلك كان حريصاً على تعليم أبنائه والوقوف بجانبهم مؤمناً بقول الشاعر: العِلمُ يرفعُ بيتاً لا عِمادَ لهُ والجهلُ يهدمُ بيتَ العزِ والشرفِ ومع ذلك تجتر ذكرى وفاة والده في عام تخرجه من الجامعة قبل أن يفرح به ويحقق حلمه الذي لم يكتمل أحزان السنين...!! حيث يقول"كان والدي رغم أحواله المالية المتواضعة حريصاً على مقابلة الضيوف وإكرامهم وكنت أتمنى أن يعيش أيامنا بعد أن كبرنا وإغتربنا وتحسنت أحوالنا المادية، وهو حلمي الذي لم يتحقق حيث توفي عام 1977 وأنا في السنة النهائية بالجامعة" في العام 1987 عُين مديراً مالياً لشركة "بسكويت ديمة" حديثة التأسيس، ولأمانته وثقة إدارة الشركة به وبإمكانياته طالبته بإحضار أربعة مناديب مبيعات للشركة يكونون محل ثقة من أهله، عندها أتى بأخوانه محمد، قاسم، أبراهيم ومعهم هاشم أبوزيد، وفي سنوات لاحقة أتى أصغرهم الفاضل ثم لحقت بهم أمهم وعاشت بينهم إلى أن رحلت إلى جوار ربها في رياض نجد. في العام 1994 إنتقل للعمل بإدارة شركة التصنيع الوطنية في الرياض وهي واحدة من أضخم شركات البتروكيماويات بمجمعاتها في مدينتي الجبيل وينبع الصناعية، حيث صقل العلم بالعمل والخبرات التدريبية التي بعثته إليها الشركة في دورات الى كل من الإمارات"11 مرة"، مصر، تركيا وماليزيا، مع مواصلة عملة الإداري بالشركة العملاقة لمدة 20 عاماً، ومن ضمن إجازاته زار كل من الأردن وقطر والعراق وسوريا للترويح ومعرفة معالم البلاد وثقافات الشعوب كما ذهب للدنمارك في العام 2002 لزيارة شقيقته هدى حيث تقيم بمرافقه السيدة بت رحمة في حله وترحاله دوماً. ولأن وراء كل نجاح أم حنون وإمرأة مُحبة كانت فاطمة رحمة"المرأة الذهبية" تتجلى بأصلها الكريم وطبعها الذي تربت عليه في بيت الضيافة والكرم، حيث منزل الوالد رحمة محمد علي بمحطة سبعة في الإمتداد الذي ظل داراً مفتوحاً ومضيافاً ومرحاباً على الدوام كما عهدناه، من هناك عرفت "بت رحمة" كيف تدير خاصة بيتها وكيف تستقبل ضيوف زوجها بترحاب وبشر، عرفت كيف تكون ساعداً لأبو أولادها حتى يشقون طريقهم بنجاح في الحياة، عرفت كيف تكون عوناً وسنداً له طوال مشوار الحياة،إنها الأصيلة التي تتواصل مع أهلها وأرحامها وتشاركهم أجتماعياتهم بجهدها المعنوي والفكري والمادي جنباً إلى جنب مع العقيد أبوعاصم الرجل الذي أحبه كل من عرفه وتعامل معه ، فهو إنسان يخجل التواضع من تواضعه والبساطة من بساطته، إبن القرية الذي لم تغيره تصاريف الزمن وراحة المسعى، فحملها في دواخله ومظهره وحديثه وتعامل بأخلاقها وأدبها مع كل الناس صغيرهم وكبيرهم فبقي كما هو لم تغيره المدائن ولم تبدله بشاشة الأيام، رجل محب للخير الذي غرسه فيه والده فأحب أهله وعشيرته ودوماً ما يقف بجانبهم في كل ملماتهم، يسعى لعمل الخير أينما وجد وأحتاجه الناس فيه، إنه الأستاذ عبدالله العقيد محمد حمد توده إبن البلد الأصيل، الإنسان والزول الجميل بجمال النفس والروح فيه. ...أبوناجي... تورنتو – كندا مايو/ 2016 [email protected]