لا ننظر كما هو ظاهر لأفكار حسن الترابي مجردة من واقعات تحققها , بل ننظر إليها كما هي متحركة وفاعلة ومؤثرة في الواقع , فما من فكرة خطرت له إلا وحاول أن يطلقها من عقال النظريات لتتجسد في أرض التطبيق والممارسة , بل نحن نعتقد أن أفكاره ليست سوى مستخلصات إدارية يومية مكتبية لا علاقة لها بالتنظير والبحث والدراسة , فالأفكار الحقيقية لمن يمارسون السياسة عمليا ليست ما يفكرون فيه , وإنما ما يفعلونه ويطبقونه أكان قريبا أم بعيدا من أفكارهم الأصلية إن وجدت . وهناك كثير من الأفكارلا يغيرها الواقع بل تقوم هي بتغييره وتحويره وإعادة توجيهه خاصة إن دعمت بقوة خارجية تتميز باستعمال القهر والقوة , ومن هذه الوجهة ننظر لأفكار حسن الترابي , وننظر لقدرتها على إصلاح ما يحتاجه الواقع إلى إصلاح , وبهذا نكتشف قوتها وتأثيرها ونعرف صحيحها من زيفها , فما من مفكر يطلق فكرة في أرض الواقع إلا وهو على يقين من قوتها وصلاحيتها وعلى يقين من قدرتها على التحقق والتجذر , وهي على هذا النسق المعبر الرئيسي عن قوته كمفكر وكقائد ديني وكمصلح اجتماعي أو العكس . حسن الترابي في حقيقته التي نستشفها وراء تكتيكاته السياسية والمصلحية وتناقضاته الملحوظة هو مفكر ( راديكالي ) ومفكر ( يومياتي ) لا يختلف إلا ظرفيا وتاريخيا عن أبي الأعلى المودودي وسيد قطب وغيرهما . ولم تكن الديمقراطية سواء تلك المعتمدة على أسس دينية إن وجدت أم الديمقراطية التعددية لها أولوية في حياته السياسية أو أولوية في حياته الفكرية أو أولوية في تناقضاته الكثيرة المعروفة والمسجلة . فلم يرتبط اسمه بالديمقراطية أو بالتنظير لها أو متابعة نقاشاتها في بيئاتها الرئيسية ولم تكن حياته السيايسة تعبيرا عنها أو تجسيدا لها . وكانت بالجملة من أبعد النظريات السياسية عن حياته العملية والنظرية ... ففي كل ما قرأناه من كتابات حسن التربي لم نر أن الديمقراطية تشكل حجر زاوية في تفكيره أو في همه السياسي , ولم نر أنها كانت في أي مرحلة من تجربته السياسية هدفا يبشر به , أو برنامجا يعتمد عليه , أو مسعى يطوره ويحاوله في حزبه كما حاول التجويد وحلقات القرءاة النصوصية للعضوية , مع أننا لاحظنا كثيرا في كتابات إسلامية أو غربية أنها كانت دائما تحاول أن تبرهن أن الديمقراطية كنظام متعدد لا يتناقض مع الإسلام الذي سادت فيه الملكيات الأحادية الاستبدادية أو أنظمة العشائر منذ لحظة وفاة النبي ( ص ) فكانت السلطة أولا وبتفكير مسبق لعشيرة النبي قريش ثم آلت السلطة فيه للملوك و السلاطين الذين حكموا حكما مطلقا حتى أوائل القرن العشرين . ففي رأي الكثيرين أن في داخل التراث الإسلامي امكانيات تؤسس لنوع من الديمقراطية يمكن أن تشكل أساسا عقليا صلبا للديمقراطية التعددية , فمبادئ الشورى ( التداول )والإجماع ( الأغلبية ) والاجتهاد (العقلنة) التي نجدها متجذرة في الفكر السياسي الإسلامي بوسعها تشكيل قاعدة انطلاق هامة لنوع مؤسس دينيا لديمقراطية إسلامية لا غبار عليها . ولكن حسن الترابي لا يضمن ذلك في مسيرة نضاله السياسية الطويلة التي بدأت في منتصف القرن السابق , لا فكريا , ولا عمليا , فهو لم يستطع أن يبلور على الأقل أي نوع ولو شكلي ولو مبدئ من ديمقراطية إسلامية ولو في داخل حزبه على كثرة تفكيره التنظيمي والإداري والهيكلي والتخطيطي , وهذا أكثر ما يقدح في أهميته كمفكر إسلامي , وكمجدد ديني , وكداعية للمستقبل أكثر من الماضي . داعية رفض الديمقراطية التعددية كما وجدها ولم يستطع أن يجد غيرها ويجدد في طرائق الحكم الإسلامي الأحادية التي اقتربت ممارستها من ألف وخمسمئة سنة , بل عجز حينما وصل لسلطة مطلقة تقدم إليها دون برنامج متكامل كما نعلم أن يصنع بداخلها طريقا لتبادل السلطة داخل الجماعة - التي طواها تحت جناحه وحضرها لدكتاتوريته السياسية والعسكرية الشخصية - بأي شكل ديني أو غيره على الأقل مثلما حدث في إيران . وعجز من قبل ذلك أن يؤسس حزيا شوريا يتبادل فيه أتباعه المواقع والوظائف بل وظل على رأس الحزب لأكثر من أربعين سنة حتى أطاحت بكهنوته البائد مذكرة أطلقوا عليها مذكرة العشرة , ولم يجد حزبه دربا للحرية إلا بالانشقاقات , وتكوين أحزاب جديدة بزعامات جديدة , وظلت هذه النزعة الانشقاقية هي السائدة حتى بعد أن تحققت في يديه سلطة كاملة , ولكنه في هذه المرة كان هو المنشق الرئيسي من مركز الحكم الذي أقامه وسيطر عليه سيطرة كهنوتية تامة من وراء حجاب فكان ذلك سببا لإهدار قيم العدالة والإنسانية بتعداد مراكز المسؤولية والقرار والتخفي , فحاول بانشقاقه أن يطيح به ولو بالتحالف مع أعداء يختلفون معه عقائديا وايديولوجيا . وبعد أن أنشق حزبه قبل أن يحوز على سلطة دولة كاملة منذ بدايات حركة المسلمين في السودان , وجبهة الميثاق التي أسسها على أنقاض تلك الحركة , وبعد أن حاز على هذه الدولة بكل أجهزتها وكان هو المنشق الذي وقع على كاهله قدر مغادرة السلطة التي كونها ودعمها لم يستطع أيضا أن يعرف قيمة الديمقراطية فكون حزبا جديدا كهنوتيا سيطر عليه سيطرة تامة وحاول أن يدفعه لانقلاب جديد بعد أن فشلت كل محاولاته المدنية في الإطاحة بالرئيس الذي انقلب معه على السلطة المدنية التعددية في منتصف ثمانينات القرن العشرين . كان المؤتمر الشعبي الحزب الذي انتزع عضويته من جماعته المنقلبة على السلطة المنتخبة تحت اسم المؤتمر الشعبي هو آخر محاولاته في التنكر للديمقراطية وتثبيت دعائم الانقلابات العسكرية قبل وفاته بقليل . ثم تابعه في الانشقاق آخرون كونوا أحزابا لهم , وآخرون لم يكونوا أحزابا . وبرغم االانشقاقات الكثيرة لم يستطع أن يعرف أن الديمقراطية ضرورة للحياة السياسية وضرورة لادارة المجتمعات . حتى الآن أثبتت الحركات الإسلامية وخاصة التي وصلت إلى حكم مطلق كما حدث في السودان , أنها لا تعتقد في نظام ديمقراطي تعددي , حتى ولو اتفقت في العقيدة والبرامج السياسية , وانشقت من بعضها البعض , وكونت أحزابها , وكانت متقاربة في تصوراتها , وأهدافها الدينية كتجربة جماعة حسن الترابي في حكم السودان .بل وصل الحال بمفكري هذه الحركة المتأخرين وإعلامييها بأن يقولوا وينشروا ويبشروا بإن الديمقراطية لا فائدة منها في الحكم , وأنها لن تصلح الحال أبدا في السودان , وأنها نظام نشأ في بيئة مغايرة , لأنهم وجدوا أن الانشقاقات أفضل بديل للديمقراطية حينما يختلف الإخوة المتقاربون , وكانوا ومازالوا يحسمون صراعاتهم التي كان يجب أن تحسم ديمقراطيا بأساليب سرية كالنفي والاغتيال والتجريد من الوظيفة والإغراء بالمال والابتزاز . وكانوا ومازالوا يضعون كل يوم العراقيل أمام أي تبادل سلمي للسلطة وأمام أي تعددية سياسية ممكنة بالتلاعب بمكونات الأحزاب وبالتمكين الفيدرالي لحزب واحد وبإطالة أمد الحروب وبتقديم التنازلات الوطنية بلا حرج لقوى خارجية يمنونها دائما بتنفيذ أجنداتها وطموحاتها الاستراتيجية الكبيرة . فأي دولة غير ديمقراطية لابد أن تكون فاسدة أخلاقيا ولابد أن تكون أداتها في الترقي الوظيفي والتصعيد من مرتبة إلى أخرى معتمدا على الانشقاقات وتكوين الأحزاب الجديدة ولو كانت صغيرة تسمح بحرية المختلف وتعطيه المكانة التي يتصور وجوده فيها [email protected]