أيقظته والدته باكراً، غسلت أكمامه و قدميه الصغيرتين جيداً. البرد كان قارساً البسته زياً جميلاً؛ قيمص أبيض اللون و بنطال أخضر و حذاء رياضي أبيض للعيبة السلة. أدخلت إفطاره في حقيبته، حقيبة سوداء رُسم عليها فنان الريغي بوب مارلى ذو الشعر الكثيف تتدلي خصلته على وجهه. وضعت الحقيبة على ظهره. قالت له أذهب والدك في أنتظارك سيأخذك الى المدرسة. كان في السادسة حينها. وجد والده على أهبة الاستعداد. أشجار البان تقف شاهقة ترحب بهم. أربعة فصول في شكل طولي بمنتصف المدرسة. هنالك مكتب يتوسط هذه الفصول. دخلا المكتب، وجدا الاستاذ، شخص يشع وجهه علماً هادئ الطبع يتحدث ببطئ متوسط القوام شعره اسود تتخلله بعض الشعيرات البيضاء. أطلعهم على لوائح المدرسة و قال: أعتبر أبنك كأبني. أخذه الاستاذ الى الفصل، وجد أطفالاً في مثل سنه، فيهم من هو جالس القرفصاء واضعاً كفيه على وجهه منتطراً اولى كلمات العلم، فيهم الخجول المنزوي على الحائط، فيهم من هو المشاغب الذي كان يلعب و لا يهمه الامر كثيراً. أصبحوا فيما بعد رفقاء دربه و من أميز الطلاب. أتى الاستاذ، القى عليهم التحية، لم يردوا التحية جيداً. علمهم كيف يردوا السلام. شرع في تعليمهم أولى كلمات العلم. يقول: أ أسد، يرددون معه. ب بقر، يرددون معه. ج جرس، قرع الجرس. حس الفضول الطفولي جعلهم يبحثون عن مصدر ذلك الصوت. أخبرهم الاستاذ أن المدة المحددة للحصة قد أنتهت و عليهم أن يذهبوا و يأتوا غداً. خرج برفقة زملائه الجدد. هبت رياح طفيفة، تمايلت أشجار البان، تخوفوا أن تسقطت عليهم. سقطت أوراقها الجافة و الميتة معلنةً عن مولد أوراق جديدة. هربوا سريعاً خارج أسوار المدرسة عائدين الى منازلهم. حثته والدته في مرحلته الابتدائية على القراءة، فأصبح يشعل مصباحه الذي يتكون من فتيل يضع به قطعة قطنية صغيرة و بها مادة الجازولين، بينما يخرج جزء من القطن بفتحة صغيرة في الجزء العلوي من الفتيل ليشتعل مصدراً ضوءاً خافتاً عليه كان يقرأ دروسه أولاً بأول، كما كان والده يحفزه و يعطيه بعض الهدايا بعد كل إنجاز و اذا تفوق في نهاية العام الدراسي. ظل الوضع على هذا الحال الى أن انتقل الى المرحلة الثانوية. في هذه المرحلة تغير الكثير، أنقلبت الموازين. في يوم مشؤوم عاد إلى المنزل. وجد الكل يزرف دموعه. علم بعدها بشئ غير متوقع، علم بان والده قد توفي. بوفاة والده تغير الكثير. أصبح يذهب الى المدرسة سيراً. تلك المدرسة التي تبعد عن منزلهم مسافة نصف الساعة تقريباً. يداوم دراسته دون أي إفطار. كما أصبح ذهنه مشوشاً ببعض الافكار. أصبح أيضا غير متفوق. حاولت والداته أن تحثه مرة أخرى لكي يعود الي طبعه و يداوم على الدراسة. قدمت له كل ما تستطيع، لكنها فشلت على ثنيه. ألحّت عليه لكن دون جدوى. في أحد الايام افاق باكراً كما عودته والدته. ألقى عليهم تحية الصباح. التزم بدروسه رغم قسوة الحياة، و كل المحن و المعاناة التي يمر بها. مرت الايام والسنين، تحقق حلمه وحلم والدته و تمكن من أنهاء مرحلته الجامعيه. على أثرها أقيمت الاحتفالات، زغردت والدته و رقصت كثيراً رغم كبر سنها و ألم المفاصل الذي يصيبها اذا تحركت كثيراً. في رحلة استغرت ساعتين عاد إلى مسقط راسه الذى لم يزره من قبل. ذهب اليه بحثا عن عمل، و لكي يتعرف على معالم تلك المدينة التي وُلد فيها أبوه و أمه. المدينة تضج بالحركة ،تعرف على أقربائه. باصرار و حماس قويين، بدأ رحلته الجاده في البحث عن وظيفة. تلقى وعداً بفرصة عمل خلال شهر. مرت الايام و الشهور دون أي توظيف. خلال بحثه، وجد أحد زملائه و رفقاء دربه السابقين. تغيرت ملامحه، أصبح بديناً أصلع الرأس و ذو شارب كثيف، تظهر عليه علامات الغنى. القى عليه التحية بحماسة، لكن زميله رد عليه ببرود، بمد طرف اصابعه الممتلئة. قال له: الم تتعرف عليّ يا جميس. لا لم أتعرف عليك. انا دانيال زميلك بالابتدائية و الثانويه. ركب عربته الفارهه دون ان يعطيه اي رد. باغته أحد المارة بسؤال مفاجئ: اتعرف هذا الشخص، اتعرف جيمس؟ نعم، انه صديقي و زميلي، درس معي الابتدائية و الثانوية لكنني أذكر انه لم يكمل المرحله الثانوية. أنه المدير،، هل أنت خريج؟ أنا خريج و لكن.. mamer nhial [email protected]