شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    المنتخب يتدرب وياسر مزمل ينضم للمعسكر    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجربة الديموقراطيَّة الأولى في السُّودان (1953-1958م) (4-4): أساس المشكل ومكمن الخلل؟..
نشر في الراكوبة يوم 23 - 06 - 2016


++++
(الحلقة الرابعة/الأخيرة)
تمهيد
تناولت الحلقات الثلاثة الماضية التجربة الديمقراطية الأولى (1953-1958م) في السودان، مفترضةً بأنها قد أفرزت قيماً سياسيةً جديدةً، شكلت منصة التأسيس الخطأ التي انطلقت منها التجارب الانتخابية اللاحقة والممارسات الديمقراطية المصاحبة لها. ثم عضدت هذه الفرضية بجملة من الحيثيات والشواهد المستقرأ من انتخابات عامي 1953 و1958م ونتائجهما، كما ناقشت التحالفات الحزبية المتناقضة والمماحكات السياسية غير المجدية التي مهدت الطريق للمؤسسة العسكرية؛ لتكون جزءاً من الحل المرحلي عام 1958م، وطرفاً من مشكلة الحكم المستدامة في السودان. وفي هذه الحلقة الرابعة والأخيرة نحاول أن جمل العرض والتحليل في أس المشكل ومكمن الخلل للتجربة الديمقراطية الأولى، وانعكاساتهما على مستقبل الحراك السياسي في السودان.
أين يكمن الخلل؟
يُعزى خلل التجربة الديمُقراطيَّة في السُّودان إلى حزمة من الأسباب المرتبطة بطبيعة المجتمع السُّوداني، ونشأة الدولة الحديثة التي أسسها الاستعمار الانجليزي- المصري (1898-1956م)، مستعيناً ببعض قطاعات المجتمع المدني للقيام بمهامٍ وظيفيَّة محددةٍ، تخدم مصالحه الإمبرياليَّة. وعلى المدى البعيد، أفرز هذا التعاون واقعاً اجتماعياً وسياسياً متناقضاً، تجسدت تناقضاته في صراعات الانصار والختميَّة، وشعارا "السُّودان للسودانيين" و"وحدة وادي النيل"، وجدليَّة التقليد والحداثة، وإعادة انتاج القيم البدوقراطيَّة (أو القيم الطائفيَّة والقبليَّة) في مؤسسات الدولة الوطنيَّة الحديثة وأجهزة الأحزاب السياسيَّة، نتيجة لتحالف النُخْبَة الحداثيَّة والفاعلة سياسياً مع القوى الطائفيَّة والقبليَّة ذات القواعد الجماهيريَّة، بهدف دفع مسيرة الحركة الوطنيَّة في مواجهة التحديات الاستعماريَّة. وبعد خروج المستعمر أضحت هذه الثنائيات جزءاً من ثوابت الأحزاب الوطنيَّة الرئيسة، وبدرجات متفاوتة في ممارسات الأحزاب العقديَّة والحركات الجهويَّة. ولذلك يصف الصادق المهدي الأحزاب بأنها: "تشتمل على معالم تخلف، يختلط فيها الولاء الديني، والقبلي، والجهوي، والفكري، والسياسي، فهذا أمر لا مفر منه. إن السُّودان متخلف اجتماعياً، فكل أدوات العمل العام فيه تعكس هذا التخلف."
إذاً الخلل الأساس الذي أعاق التجربة الديمُقراطيَّة الأولى وأخواتها في السُّودان يرتبط ببنيَّة المجتمع السُّوداني، وتركيبة الأحزاب السياسيَّة. فالمجتمع لا يزال يعاني من ثقل المعايير القيميَّة البدويَّة، المحكومة بعقليَّة القبيلة، والمسيَّرة وفق توجهات الطوائف الدينيَّة. شكلت هذه الثنائيَّة القيميَّة القاعدة التي استندت إليها الأحزاب السياسيَّة الكبرى. وهنا بدأ التناقض بين القديم الموروث وأدبيات الديمُقراطيَّة والتعدديَّة الحزبيَّة، علماً بأن الحزب السياسي يمثل حجر الزاويَّة في أي ممارسة الديمُقراطيَّة؛ فهو في العادة يتشكل من مجموعة من الأفراد، لها منطلقاتها الفكريَّة المشتركة، ومبادئها السياسيَّة، وأهدافها الراميَّة إلى إدارة الدولة والمجتمع، وفق مرجعيَّة تنظيميَّة، تضبط حركة تفاعلها على المستويين الأفقي والرأسي، وتحدد مسارات حركتها صوب تنفيذ برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي المرتبط بتحديد دور الحزب في مؤسسات السُّلطة الحاكمة، أو المعارضة. واستناداً إلى ذلك نلحظ أن أحزاب الحركة الوطنيَّة في السُّودان قد استندت إلى ثنائيَّة القديم والحديث، عندما استأنست بتأييد القوى الطائفيَّة والقبليَّة من طرفٍ، والمجموعات الرأسماليَّة من طرف ثانٍ لتمويل برامجها وأنشطتها الحزبيَّة. وفي فترة النضال الوطني ضد المُستَعمِر كان دور النُخْبَة المتعلمة (الافنديَّة) فاعلاً في تسيير الأحزاب السياسيَّة، بدليل أن دور القيادات الطائفيَّة كان دوراً استشارياً وتشريفياً، ودور القطاعات القبليَّة كان محصوراً في استنهاض الدعم الجماهيري في البوادي والأرياف. وفي فترة التحول الديمقراطي نشب صراع سياسي في أروقة الحزب الحاكم (الوطني الاتحادي)، دفع إحدى المجموعات المتصارعة إلى الاستعانة بالقوى الطائفيَّة التي لم تكن راضيَّة عن تصاعد نفوذ الزعيم إسماعيل الأزهري، رئيس الحكومة البرلمانيَّة المنتخبة آنذاك. وبظهور حزب الشعب الديمقراطي في المشهد السياسي عام 1956م بدأ النفوذ الطائفي يسيطر تدريجياً على العمل الحزبي. وفي حزب الأمة، مثلاً، انتقل الحزب من دائرة الرعايَّة الطائفيَّة التي تبناها السيد عبد الرحمن المهدي (ت. 1959م) إلى دائرة المشاركة القياديَّة المباشرة والمتوارثة في أسرة المهدي، ابتداءً بالإمام الصديق عبد الرحمن المهدي (ت. 1962م). وفي هذه المرحلة الانتقاليَّة بدأ الخلاف بين الأميرلاي عبد الله خليل (ت. 1970م)، سكرتير الحزب، ورئيس الوزراء آنذاك، والإمام الصديق رئيس الحزب، الذي كان يفضل قيام حكومة ائتلافيَّة مع الحزب الوطني الاتحادي بدلاً عن حزب الشعب الديمقراطي الذي حظي بتأييد سكرتير حزب الأمة. وبلغ هذا الصراع حدته عندما تصاعدت معارضة الأحزاب السياسيَّة والنقابات لإجازة البرلمان، بأغلبيَّة بسيطة، لمسودة مشروع المعونة الأمريكيَّة. واستطاعت الجبهة الوطنيَّة المعارضة للمعونة الأمريكيَّة أن تهيأ الرأي العام بأن البرلمان في جلسته المزمع عقدها في 17 نوفمبر 1958م، سيطرح الثقة في حكومة الأميرلاي عبد الله خليل، ويفسح المجال لتكوين ائتلافيَّة بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي بزعامة إسماعيل الأزهري. ويُعلِّق الصادق المهدي على هذا المشهد المربك لرئيس الوزراء خليل، قائلاً:
"كان من الممكن أن يتغلب اتجاه التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي بانحياز أغلبيَّة نواب حزب الأمة لهذا الاتجاه. [...] ولكن رئيس الوزراء كان يرى أن اتجاهات النواب لن تسند موقفه. وأنه يحظى بسند أكبر في داخل القوات المسلحة، وأنها مأمونة على القيام بمهمة تأمينيَّة مؤقتة، تصرف شبح الائتلاف بين حزب الأمة والوطني الاتحادي، وتزيل المخاطر المتأتيَّة من مناورات السيد إسماعيل الأزهري؛ لذلك اجتمع رئيس الوزراء يومها بالقائد العام وهيئة أركانه، وأفضى لهم بهمومه، واتفق معهم على التسليم والتسلم، فكان سير الأحداث المعروفة من بعد ذلك."
تؤكد هذه الأحداث المتعاقبة أن المؤسسة الحزبيَّة آنذاك لم يكن لديها إيمان راسخ بالقيم الديمُقراطيَّة، فنواب الختميَّة، مثلاً، انسلخوا عن الحزب الوطني الاتحادي دون الرجوع إلى قواعدهم التي صوَّت لهم تحت مظلة الحزب الحاكم، فكونوا حزب الشعب الديمقراطي، ودخلوا في تحالف مع خصمهم التقليدي، حزب الأمة، من أجل إسقاط حكومة الأزهري. وعندما اختلفت قيادة حزب الأمة في خياراتها الائتلافيَّة بين حزب الشعب الديمُقراطيَّة والحزب الوطني الاتحادي لم تحتكم للهيئة البرلمانيَّة، بل لجأ الأمين العام للحزب إلى القوات المسلحة؛ لتكون بديلاً للنظام الديمقراطي. بهذه الخطوة غير الديمُقراطيَّة دشن حزب الأمة الطريق للقوات المسلحة؛ لتكون مرجعاً لبعض الأحزاب السياسيَّة التي اصطدمت بواقع غير ديمقراطي من وجهة نظرها. والشاهد في ذلك طرد نواب الحزب الشيوعي السُّوداني من الجمعيَّة التأسيسيَّة في 16 ديسمبر 1965م، بحجة أنهم فقدوا شرطاً من شروط الأهليَّة، وذلك بانتمائهم إلى حزب يروج للشيوعيَّة والإلحاد، وعدم الاعتقاد في الأديان السماويَّة. ويُعْدُّ هذا الإجراء غير الديمقراطي من أهم الدوافع التي قادت إلى الانقلاب العسكري الذي حدث في 25 مايو 1969م. وعلى المنوال ذاته جاء انقلاب 30 يونيو 1989م، الذي خططت له الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة ونفذته، عندما تصنَّعت غبن الممارسة الديمُقراطيَّة التي حرمتها من المشاركة في حكومة الوحدة الوطنيَّة المتحدة في مارس 1989م.
وإذا انتقلنا من المستوى القومي إلى المستوى الحزبي، نلحظ أن معظم الأحزاب السياسيَّة في السُّودان تحكمها قيم بدوقراطيَّة، بدليل أن قيادات الأحزاب السياسيَّة لا تمارس تداول السُّلطة؛ بل استنت لنفسها شرعيَّة غير ديمقراطيَّة، أعطتها ديمومة البقاء في الوظائف الحزبيَّة دون تغيير أو تبديل، علماً بأن الممارسات الديمُقراطيَّة في بلدان العالم المتحضر لا تسمح بالاستمرار في المناصب القياديَّة أكثر من عشر سنوات. ونتيجة لذلك تحولت بعض الأحزاب السياسيَّة إلى "حزب الرجل الواحد"، وأفضل مثال لذلك الحزب الاتحادي الديمقراطي، بدليل أن السيد محمد عثمان الميرغني نصَّب نفسه رئيساً للحزب دون مؤتمر عام للحزب أو انتخابات داخليَّة. وفي الديمُقراطيَّة الثالثة، كما يرى الصادق المهدي،:
"كان[السيد محمد عثمان الميرغني] ... الجهة الأكثر نفوذاً في الحزب، ولم يكن عضواً برلمانياً، ولا عضواً بمجلس الوزراء، هذه الحقيقة أدت إلى أن تتخذ الحكومة قرارات في مسائل هامة، فيطالب السيد محمد عثمان الميرغني بإعادة النظر فيها؛ لعدم اشتراكه في اتخاذ تلكم القرارات، فمثلاً قرر مجلس وزراء القطاع الاقتصادي (الاتحادي الديمقراطي ممثل بوزرائه) إقامة المجلس القومي للتخطيط لبحث وإجازة البرنامج الرباعي، لقد اتخذ هذا القرار عام 1987، ولكن المراجعات حدت بتأخير التنفيذ عاماً كاملاً. كما حدث تأخير مماثل لقرار تكوين جهاز الأمن الخارجي، بسبب إشكالات بين الحزبين كان من الممكن تفاديها."
لكن المشكلة الأساسيَّة ليست في السيد محمد عثمان الميرغني منفرداً، بل في النُخْبَة الحزبيَّة التي تقبل بمثل هذه المهانة، ولا تنبس ببنت شفة إلا عندما تُطرد من الحزب أو تُهمش، ولذلك نرى أن الانتهازيين من المثقفين السُّودانيين هم الذي أسهموا في خلق الأصنام السياسيَّة التي تُعبد في أروقة الأحزاب في السُّودان. وأصدق مثال لذلك الذين خرجوا عن الحزب الاتحادي الديمقراطي أو حزب الأمة، وشرعوا يقولون في قياداتهم الحزبيَّة ما لم يقله مالك في الخمر؛ وكذلك قيادات المؤتمر الوطني التي أفلحت في تجريح الترابي بعد المفاصلة بين القصر (الرئيس البشير) والمنشيَّة (الزعيم الترابي)، وفي المقابل طعن نشطاء المؤتمر الشعبي في أهليَّة حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي كانوا جزءاً منه، واتهموا قياداته بالفساد والظلم. ومن جانب آخر أن عدم تجدد القيادات السياسيَّة للأحزاب أسهم في تشظي البناء الحزبي، بدليل أن عدد الأحزاب المسجلة في السودان بلغ ثلاثة وثمانين حزباً، معظمها منسلخ من كيانات حزبيَّة قديمة، وليست لها خلافات أيديولوجيَّة مع أصولها، لكن انقساماتها مبنيَّة على المواقف الشخصيَّة، وغياب الممارسة الديمُقراطيَّة في أروقة الأحزاب نفسها.
على مستوى ترشيح ممثلي الاحزاب في الانتخابات البرلمانيَّة برزت الثنائيَّة المتناقضة والمضرة، كما يرى حيدر إبراهيم علي، حيث تمَّ استغلال الوسائل والأدوات الديمُقراطيَّة الحديثة؛ لتكريس بعض القيم والمضامين التقليديَّة المحافظة، ولتمكين نفوذ الطائفيَّة على المستوى الأعلى والقبليَّة على المستوى الأدنى. والشاهد في ذلك أنَّ بعض الدوائر الانتخابيَّة ظلت حكراً لأسر وشخصيات بعينها، ونذكر مثلاً دوائر الكبابيش لأبناء الناظر علي التوم؛ ودائرة الشكريَّة لآل أبوسن؛ ودائرة المساليت لآل السلطان حسن تاج الدين، ودائرة البديريَّة لميرغني حسين زاكي الدين، ودائرة البطاحين للناظر محمد الصديق طلحة. وظلت هذه الأسر والشخصيات المختارة تشكل حضوراً دائماً في المجالس البرلمانيَّة المنتخبة، والمجالس التشريعيَّة التي ابتدعتها الأنظمة العسكريَّة لتجميل صورتها السياسيَّة واكتساب نوعاً من الشرعيَّة. لا قضاضة في أن تتكرر الأسماء وتحتكر بعض الأسر دوائر نفوذها الانتخابي في سياق الممارسة الديمُقراطيَّة، فهذه ظاهرة يمكن استيعابها، لكن المشكلة تكمن في غياب البرنامج الانتخابي، ودرجة إيمان المرشح بالنظام الديمقراطي والدفاع عن مقدساته على المستويين المركزي والمحلي. لكن كثير من النواب البرلمانيين ظلوا يغيرون مواقفهم باستمرار حسب المناخات السياسيَّة، بغض النظر عن درجها التزامها بالديمُقراطيَّة. ويبدو لي أن هذه المشكلة ترتبط في بعدها الأدنى بضعف الوعي السياسي الديمقراطي للناخب السُّوداني، الذي لا يمنح صوته للخطط والبرنامج الانتخابيَّة، بل يصوت حسب إشارة الطائفة التي ينتمي إليها، أو القبيلة، أو العلاقات الأسريَّة التي تربطه بالمرشح. ونتيجة لذلك تأثرت التجربة الديمُقراطيَّة في السُّودان بكثير من القيم البدوقراطيَّة السالبة.
نلحظ أيضاً أنَّ البنيَّة الحزبيَّة في السُّودان قد كرَّست للولاءات القديمة، بدليل أن مناطق نفوذ الختميَّة في الشماليَّة وكسلا كانت تشكل الدوائر الانتخابيَّة المضمونة للحزب الوطني الاتحادي، وحزب الشعب الديمقراطي، والحزب الاتحادي الديمقراطي، وكذلك الحال بالنسبة لحزب الأمة الذي كان يعتمد على طائفة الانصار في دارفور وكردفان والنيل الأزرق (الأوسط). وأكثر جهويَّة من ذلك أن الأحزاب الجنوبيَّة حصرت نفسها في فضاء جنوب السُّودان، والاهتمام بقضاياه المطلبيَّة المرتبطة بتقاسم السُّلطة والثروة والتنميَّة المتوازنة مع الشمال؛ لكن حصيلة ذلك تجسدت في سلسلة من الاتفاقيات والعهود المنقوضة، التي أفضت إلى جرائر الحروب الأهليَّة، وشكلت أيضاً عائقاً سياسياً للتحول الديمقراطي، وفي خاتمة المطاف قادت إلى انفصال جنوب السُّودان عام 2011م.
كل هذه الشواهد تشير إلى مواضع الخلل التي عاقت تطور التجربة الديمُقراطيَّة في السُّودان، وبذلك مهدت الطريق لتدخل القوات المسلحة عن طريق انقلابات عسكريَّة حزبيَّة، بلغت أكثر من عشرة انقلابات. نجحت منها ثلاثة انقلابات، استطاعت أن تحكم السُّودان لأكثر من أربعة عقود من الزمن، فارضةً مبدأ الوصايَّة السياسيَّة على المجتمع والرأي العام، دون الاعتراف بحق الشعب في اختيار ممثليه في المؤسسات التشريعيَّة والتنفيذيَّة.
وبموجب ذلك ساد مفهوم السُّلطة الاستيلائيَّة القائم على منطق القوة والغلبة دون الاعتبار برأي الأغلبيَّة الاجتماعيَّة قبولاً أو رفضاً.
ويظهر ذلك في حيثيات اتهام الديمُقراطيَّة بالفشل في البيان الأول الذي أصدره الفريق إبراهيم باشا عبود (1958-1964م)، بقوله: إنَّ البلاد قد "وصلت إلى حالة سوء، وفوضى، وعدم استقرار للفرد والمجموعة، وقد امتدت هذه الفوضى إلى أجهزة الدولة، والمرافق العامّة دون استثناء، كلّ هذا يرجع أولاً وأخيراً لما تعانيه البلاد من الأزمات السياسيَّة القائمة بين الأحزاب جميعاً... ونتيجة لذلك وهو المسلك الطبيعي بأن يقوم جيش البلاد ورجال الأمن بإيقاف هذه الفوضى.. ووضع حد نهائي لها.. وإعادة الأمن والاستقرار لجميع المواطنين والنزلاء، والحمد لله قد قام جيشكم المخلص في هذا اليوم السابع عشر من نوفمبر 1958م بتنفيذ هذه الخطة السلميَّة المباركة التي بإذن الله ستكون نقطة تحول من الفوضى إلى الاستقرار.. ومن الفساد إلى النزاهة، وإني واثق بأن كل مخلص لهذا البلد سيتقبلها بصدر رحب."
وتجددت هذه الاتهامات والوصايا في البيان الأول للعقيد أركان حرب جعفر محمد نميري (1969-1985م)، الذي أكَّد فيه بأن هَمَّ الأحزاب السياسيَّة لم يكن "إلا أن تتسلل إلى مواقع الحكم، ثم تمسك بزمام السُّلطة لمصلحتها الخاصَّة دون اعتبار لمصلحة الشعب، فعمَّ الفسادُ والرشوة أجهزةَ الدولة".
وتكررت الاتهامات مرّة ثالثة في البيان الأول للعميد عمر حسن أحمد البشير (1989م)، والذي يقول أحد مقاطعه: "إن قُواتكم المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلَّتْ تقدم النفس والنفيس حمايَّة للتراب السُّوداني، وصوناً للعرض والكرامة، وترقب بكلِّ أسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة.... لقد عايشنا في الفترة السابقة ديمقراطيَّة مزيفة، ومؤسسات دستوريَّة فاشلة، وإرادة المواطنين قد تمَّ تزييفها بشعارات براقة مضلله، وبشراء الذمم، والتهريج السياسي، ومؤسسات الحكم الرسميَّة لم تكن إلا مسرحاً لإخراج قرارات السادة، ومشهداً للصراعات والفوضى الحزبيَّة، وحتى مجلس رأس الدولة لم يكن إلا مسخاً مشوهاً، أما رئيس الوزراء فقد أضاع وقت البلاد وبدد طاقاتها في كثرة الكلام والتردد في السياسات والتقلب في المواقف حتى فقد مصداقيته."
وبموجب هذه التهم المتشابهة والنزعة الاستعلائيَّة أعطت القوى الانقلابيَّة- باختلاف توجهاتها السياسيَّة- نفسها حق الوصايَّة على الشعب السُّوداني، معطلةً الحياة الديمُقراطيَّة في كافة مناحيها.
ومن زاويَّة أخرى يرى المراقب الحصيف أن ضعف المجتمع البنيوي التقليدي هو السبب الأساس الذي ساعد على نمو سلطة الاستيلاء في السُّودان، التي سعت إلى قتل إمكانيات التغيير والإبداع في المجتمع، بل دمرت وسائط وعيه، وجعلته عاجزاً عن إفراز عناصر قادرة على التغيير، بل نشأت أجيال لم يكن لها وسائط فاعلة لبث الوعي الديمقراطي وثقافة الديمُقراطيَّة. وبذلك أسهمت عقيدة الغلبة والاستيلاء في إخلال توازن القُوى السياسيَّة، وتحجيم أداء مؤسسات المجتمع المدني بألوان طيفها المختلفة، تلك المؤسسات التي كان يفترض أن تكون إحدى الأدوات الفاعلة في تثقيف مسار الديمُقراطيَّة وإحكام الرقابة عليها. بيد أن هذه الآليات المساعدة لترسيخ قيم الديمُقراطيَّة وثقافتها-سواء كانت صحافيَّة، أو إعلاميَّة، أو نقابيَّة-قد فقدت جزءاً كبيراً من حيويتها المهنيَّة؛ لأنه أُعيد تنميط معظمها تبعاً لمؤسسات الدولة الحاكمة، وبذلك أضحت متنازعة في ذاتها بين قياداتها السياسيَّة المتحالفة مع النظام الحاكم، وكيفيَّة تحقيق أهدافها المهنيَّة المنصوصة في أوامر تأسيسها. والشريحة الكبرى من الأجيال الشابة الصاعدة، التي تمثل 43% من سكان السُّودان، تفتقر إلى أشكال التأطير الثقافي والسياسي التي يمكن أن تفعَّل دورها في تثقيف مسارات الحكومة أو المعارضة، بل إن الأجيال الشابة نفسها أضحت من ضحايا الاستغلال السياسي، التي يُسهل توظيفها عن طريق السُّلطة الحاكمة؛ لأن معظم قطاعات الشباب أضحت تعتقد أن سلطة الاستيلاء الحاكمة بأدواتها الأمنيَّة قد أضحت تسيطر على الوظائف العامة، وسبل كسب العيش الخاص. وبذلك تحولت شريحة كبرى من الشباب إلى صفِّ العوائق الأخرى، التي أبطأت خُطى التحول الديمقراطي المنشود في السُّودان؛ لأن مصالحها الشخصيَّة أضحت مقدمةً على المبادئ العدليَّة والنظرة الاستراتيجيَّة للقضايا الوطنيَّة العامَّة.
+++++
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.