للنجاح و للفلاح لفظيا نفس المعني في المعاجم و هو الفوز، مع فرق دقيق، ان النجاح يكون في امر وشيك الحدوث و فيه انقضاء. اما الفلاح ففيه شقٌ، كما شق الارض، و فيه بقاء و نماء و انتظار ثمار مستقبلية. و لم يرد لفظ النجاح و مشتقاته في القرآن و لا مرة، في حين ورد كثيرا لفظ الفلاح ومشتقاته مثل افلح و مفلحون و كل يوم نسمع ( حيَ علي الفلاح) خمس مرات. سمعت مرة داعية في برنامجه التلفزيوني يعطي الشباب فكرة لكسب الحسنات، بأن يسلموا صباحا علي عشرة اشخاص فتلك مئة حسنة. و آخر يحث علي عمل الخير قائلا ان الحسنات (تلاقيط)، تلقط من هنا و هناك لجمعها. فكأنهم ظنوا ان امتحان يوم القيامة هو كإمتحانات الدنيا لنيل الشهادات، فتجدهم يعِدون انفسهم (بتلقيط) بعض المعلومات التي شاع انها من الاسئلة المتكررة او طريقة معينة قد تكسبك درجات اعلي. و هي طريقة قد ينجح فيها الممتحَن نجاحا باهرا و هو خفيف الوزن من المعرفة في المادة المقررة، في حين يرسب من ثقلت موازينه من المعرفة في هذه المادة، لأن الممتحِن مهما كان فطريقة قياسه للمعرفة قاصرة فيظل امتحانه قاصراً و ظالماً للمعرفة و العارفين، و تنزه الله و موازينه الحق عن هذه الطريقة الساذجة لوزن اعمال الناس. و اذا عدنا لمعني الفلاح، فكأنه تعالي يشبه النفس بالارض، فالقيمة الصالحة تبقي و تستمر إن شُق لها في النفس مجري، تجري فيه مولدة و رافدة الاعمال الصالحة، كما تجري مياه الري في الارض التي اعدت للزرع و الطرح بالشق و الحرث. إن الاعمال الصالحة في شكل الحركات و الاقوال هي ما تعكسه مرآةٌ ، لما يجري في النفس من قيّم و ليس العكس. و مشتقات الفلاح وردت كثيرا في القرآن في صيغة (أولئك هم المفلحون) او (لعلكم تفلحون) و تعرض الآيات صفات و اعمال المفلحين، و لكن الفعل (أفلح) و هو فعل ماضي يدل علي تمام فعل الفلح او الفلاح قد ورد في الآيات: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) ) من سورة الشمس و (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)) من سورة الاعلي ، و ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) . . . . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) ) من سورة المؤمنون و هي مكية اي ان الزكاة المقصودة هي تزكية النفس لأن إيتاء الزكاة فرض في المدينة . ربط تعالي و تبارك الفلاح بتزكية النفس و التزكية معناها التطهير و النمو و الزيادة. و التطهير هو ازالة الشوائب و الادران و بعدها تكون الزيادة و النماء في الحميد من الصفات، فتزكية النفس تكون حرثا بازالة الصفات السيئة و زيادة الصفات الحميدة بشق جداول للقيّم الحميدة فيها لأن الزيادة مع العلات و الشوائب هي (الربا). فان حدثت تزكية النفس سلمت القلوب و قامت الجوارح (الاطراف و اللسان) باعمال خيّرة كفعل انعكاس لما في النفس من خير. فالنجاح في الامتحان قد يكون (بتلقيط) الدرجات للفوز بعدِها و حسابها الكثير مما يقول اللسان او تصنع الاطراف و لكن الفلاح يكون بتنقية النفس وشق جداول للقيّم الفاضلة، كالعفة، التقوي، النفع، الحب، التسليم، الزهد، العدل . . الخ ، فتغذي الجسد فتخرج افعاله و اقواله بتلقائية تعكس ما يجري في النفس من جداول القيم. و ظني أن جداول القيّم هذه هي الباقيات الصالحات، لأنها المنبع في النفس الذي تنبع منه كل الأعمال الصالحة تبقي و تنمو و تزيد الي يوم الحساب و هو ما يضمّن في معني التزكية فتبقي علي الحسُن و تغسل السيئ، لأن القيمة الصالحة الباقية ينبع منها ما لا يعد من الصفات و الأعمال التي تثقِل الميزان الحق. ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) ) من سورة مريم و قوله تعالي ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) )من سورة الكهف. فالمراد ليس الإكثار في حد ذاته من الاعمال لأن ميزان الحق لا يُثقِل الكثرة بقدر ما يُثقِل القيمة الخيّرة النابعة من النفس الزكية. و الّا لكان المتصدق بألف ورقة خير ممن تصدق بورقة جنيه واحد. و لا يمكن لشخص نصيبه من قيمة السلام انه يسلم علي عشرة كل صباح ان يزن سلامه اكثر ممن اجتهد في نفسه و شق فيها مجري للسلام فسلم الناس من لسانه و يده. و لا يمكن لشخص يقرأ كل يوم ألف مرة لعشرة اعوام ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)) من سورة النور و هو لا يزال كل يوم يُذكر نفسه بإساءات الناس اليه و يدعو عليهم بالشر و ينتظر ان ينتقم منهم و تزن قراءته في ميزان الحق اكثر من رجل قرأها مرة واحدة، فاجتهد و زكّي نفسه بشق جدول يجري منه العفو قيمة يسقي منه المسيئين اليه و لا يَذكر من قولهم او فعلهم شيئا. و رجل كل حين يحاسب نفسه و يذكر ذنبه و يطلب من الله مغفرته خوفا و خشية هل يستوي مع رجل جل عمره يعد علي سبحته قائلا (استغفر الله) و لا يكاد لسانه يتبين الحروف و قد يصل عدد قوله المئات في اليوم الواحد و في احيان اخري الآلاف .و لا يمكن ان يستوي رجل صلّي فرضه فقط و حافظ علي ما قال من دعاء في صلاته بقية يومه في طلب الهدايا والصراط المستقيم و رجل يكثر من الصلاة في يومه ثم يخرج بعدها في سبل لا تتوخي الهِدايا و لا الاستقامة. ما تخرجه البنوك من اوراق نقدية لا بدّ أن يعادل ما في خزائنها من احتياطي ذهب و الا اختل النظام المصرفي. و ان كثر الورق المطبوع و زاد عمّا في (نفوس/خزائن) تلك البنوك من قيمة الذهب حدث ما يسمي بالتضخم و هو كثرة المال المتداول بين الناس مع غلاء الاسعار فلا يستفيد صاحب المال الكثير من عدده الكبير لأنه كالرغوة منفوخ يشغل حيزا كبيرا و لا يثقُل في الميزان. و هو حال كثير من الناس هذه الايام يحتفلون بالأعمال الكثيرة و الاقوال المتكررة التي لا تنبع من قيّم في نفوسهم فتخف موازين ثرواتهم العددية في التجارة مع الله و يغذي كثير من الشيوخ و الدعاة هذا المنهج ناسيين اهمية تزكية النفوس و بقاءها في الميزان الحق و النفوس هي التي تكسب و تظلِم و تُجزَي يوم القيامة ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15) ) سورة طه، فهلا رحمنا الدعاة من هذا المذهب الساذج في الدعوة كأنهم يضعون لنا(Spotting ) (سبوتينق) لامتحان يوم القيامة ان حفظناه و كررناه ضمنوا لنا النجاح. فوحدة القياس بين النجاح و الفلاح كإختلاف الدنيا و الآخرة. [email protected]