فى النص الذى نحن بصدده لا يشذ محجوب عن شغفه الأكبر أعنى الغنائية : يابا مع السلامة مع السلامة يا سكة سلامة فى الحزن المطير يا كالنخل هامة قامة واستقامة هيبة مع البساطة و أصدق ما يكون راحة ايديك تماما متل الضفتين ضلك كم ترامى حضنا لليتامى وخبزا للذين هم لا يملكون بى نفس البساطة والهمس الحنون ترحل يا حبيبى من باب الحياة لى باب المنون هنا نلاحظ تناغم الكلمات " سلامة، هامة ، قامة ، استقامة " مع المحافظة على العودة الى القافية النونية فى " يكون " و " يملكون " و " الحنون " و المنون " . يبدأ محجوب إذن بالقافية النونية لكنه فى الوسط يعرج على الميمية، يغازلها قليلا ، ثم يعرج فى خاتمة الأمر على النون فى سهولة مدهشة . و لطالما سألت نفسى عن سر هذا التمكن الكبير فى أشعار الرجل فاهتديت إلى ثلاث مفاتيح : الأول أن محجوب كان قارئا نهما غزير الإطلاع . هذه القراءات المتواترة شحذت ذاكرته , و أمدته بثراء لغوى ملحوظ يغرف منه أنى يشاء بسهولة عالية . و للإطلاع أثر آخر على شخصيته سأذكره لاحقا . المفتاح الثانى هو عشق محجوب نفسه للغناء . كان محجوب شغوفا بسماع الموسيقى و الغناء . و أذكر أنه قال لوردى ذات يوم " حينما أكتب نصا شعريا أرى وجهك بين سطور الورقة " . هذه ليست علاقة بين شاعر و مغنى فقط . هذه علاقة عشق قصية الأبعاد . سماع محجوب المتواتر للموسيقى أورث أذنيه و وجدانه قبلهما شفايفة غريبة ، و إنك لتلحظ هذا العشق الغريب للموسيقى حينما يلقى محجوب أشعاره بنفسه . بل إن الجمهور كثيرا ما يردد معه قصائده و هو يدق على طاولة أمامه أو ينقر بأصابعه على بعضها : إنتى بتى أمى أختى شيلى همى منى ختى إنتى أو حينما يترنم : يا ماشي كالطاؤوس على مكتبك محروس يا سلام .. سلام .. يا سلام على خطوك المدروس حظك عظيم يا عظيم على قمة التنظيم وعرفت ساس يسوس أهو عندك الثالوث عربية ، بيت و فلوس أما العروس على أيه ما كل ليلة عروس أنا يعني جنبك أيه لا تكيتك لى الكاب ولا لمعة الدبوس أنا يعني جنبك أيه ود المره البتعوس وتسوي طول الليل طعمية بى الفانوس أنا يعني جنبك أيه إنسان شقي ومنحوس دايما علي محبوس والتهمة إني فقير وعميل كمان للروس أو فى مثاله الصادح : عَشّه .. كلّمينا ميرى.. ذكّرينا كل سونكى أحسن يبقى ..مسطرينا نحن شعب أسطى يلا ..جيبو مونا نبنى ..نبنى ..نبنى مسرحاً..ونادى مصنعاً ..وبوسته حرب لا لا لا كبرى..اسبتالة صاله للثقافه تسرح الغزاله جنبها ...الزرافه ركَ قمرى طار قيره قيره قيره نطَط الصغار صفّق الترولى طمّن ..القطار حلقت ..وحلقت حمامة المطار كلّ طلقه..بينا نحن تبقى وفره سمسماً ..وبفره سكراً وشاى تترا سايكلينا.. جاى وجاى وجاى مافى حاجه ساى كلّو عندو دِين كلّو عندو راى بور..وبورسودان بارا.. والجنينه عبرى ..ولاّ واو حاجه مش كويسه كلّ زول براو هذه الغنائية التى تجعل كلمة مثل " تترسايكلين" كلمة شعرية ترتاح بين ذراعى النص فى استجمام لا متكلف !! المفتاح الثالث يعود إلى أسلوب محجوب الشعرى فى التأليف . لم يكن محجوب يكتب قصائده على الورق كما يفعل معظم الشعراء ، بل كان يؤلف القصيدة بأكملها فى ذهنه و هذا هو السر فى أن الرجل كان يلقى القصائد من الذاكرة . هذا الأسلوب فى الكتابة جعل الرجل يمسك بمقود الكلمات و يوجهها أنى شاء وهى ذلول طائعة تتبختر أمامه فى جلال و جمال . تطالعنا بعد ذلك إحدى ملامح محجوب الشعرية : المزج الوسيم بين المفردات العامية و الفصحى فى سهولة عجيبة : راحة ايديك تماما مثل الضفتين ضلك كم ترامى حضنا لليتامى وخبزا للذين هم لا يملكون بى نفس البساطة والهمس الحنون تدخل يا حبيبى من باب الحياة لى باب المنون روحك كالحمامة بترفرف هناك كم سيرة وسريرة من حولك ضراك والناس الزين خليتم وراك لاحظ ورود عبارة فصيحة كاملة مثل " خبزا للذين هم لا يملكون . كلمة " ضلك " العامية تجاور عبارة أنيقة الفصاحة مثل " كم ترامى " . ثم لاحظ عبارة " الناس الذين " مع عبارة " خليتم وراك " . هذه الميزة – أعنى أثر اللغة العربية الفصحى - ربما تعود إلى ما أثرته سابقا عن بذخ قراءة عرفه محجوب شريف . و ربما لقناعة مترسخة فى تلافيف لاوعى الشاعر أنه ينتمى إلى الفضاء الانسانى الأوسع من القطر السودانى الضيق . بلى . ألم يتغنى محجوب بآمال عراض للبشرية كلها حينما حل القرن الواحد والعشرون فى رائعة : تلفون العالم حول إتنين تلاتة اصفار البرد هناك مستنى و الشمس على استنفار فهنا يخاطب الأوربى و الأمريكى و سكان ألسكا ممن يعيشون فى المناطق الباردة مثلما يخاطب سكان المناطق الحارة فى افريقيا وغيرها . و فى رائعة " البديل " تغنى محجوب : وطن لى السلم أجنحتو ضدّ الحرب أسلحتو عدد ما فوقو ما تحتو مدد لى الأرضو محتلة و سند لى الايدو ملويّه ميزة المزج بين العامية و الفصيح نلحظها لدى شعراء سودانيين آخرين أبرزهم الثلاثى الذى تغنى له " عثمان حسين " و أعنى بهم " حسين بازرعة " : كانت لنا أيام فى قلبى ذكراها لا زلت أطراها و العظيم "عوض أحمد خليفة ": كم مرة كم حاول يفرق بينا ظالم أو عذول كم مرة قالوا جنيت عليا بدلت ضو أيام ليلى لكنى يا زينة العذارى أنا ما بغير حبى قول تلقانى دايما فى رجاك و غناى فى حبك رسول و " صلاح أحمد محمد صالح " : فحاول أنت انساهم و لا تحفل بذاكرهم و قول لى الماشى يغشاهم فراقكم لينا أمرو مريب شى آخر يستوقفنى كثرا فى شعر محجوب ألمحه فى المقطع الأول من "يابا مع السلامة " و هو الإستخدام المتكرر لكاف التشبيه . صحيح أنه أحيانا يستخدمه كلمة تشبيه عامية سودانية مثل قوله : إنتى دايما زى سحابة الريح تعجل بى رحيلا لكنه غالبا ما يستخدم الكاف للتشبيه : روحك كالحمامة بترفرف هناك و لاحقا فى النص نفسه نطالع : الدفو والنداوه والسنا والعبير كالغزلان هنالك فى الوادى الخصيب فى رائعة "وطنا " نذكر له : مداين تعاين كأم العروس هذا الملمح يضفى مسحة فصيحة محببة على نصوص الرجل ....... يتبع [email protected]