أقرب إلى القلب: (1) أكادُ لا أصدق وأنا أدلفُ إلى مدرستي القديمة، لأراها ترفل من جديد، في حلل خضراء ناضرة البهاء، مثلما عهدتها حال دخولي إلى المرحلة الثانوية، وأنا في إهاب الصبا الغضّ، أواسط ستينات القرن الماضي. حثنّي صديقي ابن المؤتمر الوفيّ، الدكتور أسامة مرتضى لأن أزور مباني مدرسة المؤتمر الثانوية في أم درمان، بعد جهود الإصلاح والصيانة التي عكستْ تصميم رجالٍ أوفياء، تعلموا ذات يوم في فصول تلك المدرسة، ثمّ وقفوا في نفيرٍ يشبه الوطن الذي عشنا في أكنافه، جيلاً بعد جيل، ليردّوا بعض دَين المدرسة عليهم.. بعد معاينة العمل الكبير الذي تمّ في وقتٍ وجيز للغاية، مِن طلاءٍ لجدران الفصول وأرضياتها، وتركيبِ الإضاءة الحديثة ومراوح التهوية، واستبدالِ النوافذ الخشبيىة بأخرى أحدث، إلى تجهيز إذاعة داخلية، واستحداث مكتبة إلكترونية في المدرسة، أخذني د.أسامة مرتضى- ولدهشتي- إلى معلمٍ صغيرٍ بين مكاتب الإدارة. أراني جرس المدرسة الكهربائي. وقف صديقنا ناجي -وهو من جيلٍ جاء بعدنا إلى مدرسة المؤتمر-على زرّ في جدار البهو المطلّ على مكتب مدير المدرسة، على عهدها القديم، ثمّ ضغط ناجي على الزرّ، فسمعتُ على الفور رنين جرس المدرسة الذي ألهب ذاكرتي، فكأن الصول "العشا"، ضغط على زرّ الجرس، وأعادني إلى وقفتنا التي كنا نقفها يوم السبت بداية الأسبوع الدراسيّ، أمام ناظر المدرسة المربّي الرّاحل الطيب شبيكة، في عام 1965. شرح لي الصديق أسامة أنّ الجرس النحاسيّ الذي سمعته، ظلّ صامتاً لأكثر من ثلاثة عقود، ولم يفعلوا أكثر من نفض الغبار عنه، وإزالة عشٍّ قديم اتخذه الطير سكناً في فجوة وراء ذلك الجرس. كم أطربني رنين الجرس، يعيدني لأيام صباي في ذلك المكان. للنوستالجيا مذاقٌ مُنعش، بلا شك. . (2) شاهدتُ بأمّ عيني إزالة الخراب الذي كانت عليه المدرسة، وهي المدرسة التي أنشأتها الحركة الوطنية، تخليداً لدور مؤتمر الخريجين، وقد ضمّ طلائع المتعلمين الذين تصدّوا لمهمّة إنجاز استقلال الوطن، وبنائه. لم يكن مناسباً ولا مرضياً، أن نرى صرحاً من صروح الوطنية، تنقطع عنه يدُ الرعاية، ويغفل عن نصرته وإصلاحه، من تابعوا مراحل إنشاء مدرسة المؤتمر الثانوية في خمسينات القرن الماضي، على يد قاماتٍ كبارٍ مثل الأزهري ومحمود الفضلي وعثمان خاطر ودكتور علي أورو وحسن أبوجبل، ومن دعم المدرسة بعدهم. شملوا المدرسة برعايتهم فعمّروها، وأكمل من جاء بعدهم طرفاً من تلك الرعاية، بالعمران الصلب: من بنيانٍ وأسوارٍ وفصولٍ وملاعب ومسارح، كما التفتوا للبناء الناعم، بتوفير المعلمين المميّزين، وصقل قدرات الطلبة وتمتين مواهبهم في العلوم وفي الآداب وفي الفنون وفي الرياضة. (3) كيف تُركَ هذا الصرح العظيم ليد الدهر، ترميه بإهمال منظور، وبغفلةٍ عن صيانة فصوله ومسارحه وملاعبه، وقد كادت أن تصير أثراً بعد عين، وأطلالاً يبكي عليها الشعراء..؟ كيف يتراجع ذكر مدرسة الحركة الوطنية، وهي تحمل اسم مؤتمر الخريجين، فلا تتنبّه وزارة التعليم لإحيائها ولرفع اسمها، وهي الرمز السامق لبذلِ رجالٍ في الحركة الوطنية، أسهموا فما اتصلنا بإسهامهم..؟ صانوها فتغافلنا عن إصلاحهم لها، شيّدوا فشهدنا الفصول تتهاوى والملاعب تضيع والأسوار تُنتهك. بدل حلبة الملاكمة وميدان التنس وميدان كرة اليد والميدان المنجل لكرة القدم، صارت الواجهة الشرقية المُطلة على شارع الموردة، وفي المدخل الرئيس لمدينة أم درمان، ملأى بصفوفٍ من المحال التجارية المتواضعة التي أقيمت بعشوائية، حجبتْ واجهة تلك المدرسة التاريخية تماماً، لكأنك ترى أمامك سوقاً لا مؤسسة تعليمية. سترى حولك من يصينون "الرّكشات"، ومن يخيطون قمصان "على الله"، ومن يبيعون الكولا.. ولا تدهش إنْ لم ترَ مكتبة – مثلاً-أو من يبيع قرطاسية، تناسب حاجة طلاب المدرسة. . ! (4) لم يعجب ذلك الحال رجالاً ممّن جاءوا صبياناً إلى مدرسة المؤتمر منذ إنشائها وإلى السنوات القريبة، وتخرجوا منها رجالاً قويتْ أعوادهم، وذلك من حسن ما تلقوا من تعليم وما تشربوا من تربية، فملكوا القدرات الهندسية والطبية والعسكرية والمالية والقانونية وكافة المهارات المهنية الأخرى. تنادَى هؤلاء النفر الجليل-شباباً وشيوخاً-لإصلاح حال مدرسةٍ، عرفوا شموخها التاريخيّ وقد لامس وجدانهم واستقرّ، وشهدوا أياماً فيها باهرات، فعزّ عليهم أن يروها تتهاوى أمام ناظريهم. رأس اللجنة العليا لخريجي المدرسة السيد عبدالرحمن إدريس ونائبه الفريق عبدالمنعم سعد والسيد معتصم حاج التوم أمينا عاماً، وللجنة أعضاء توزّعوا على مختلف أماناتها المتخصّصة، استثمارا وثقافة ورياضة واجتماعاً وعلوما وإعلاما. ممّن تخرّجوا من مدرسة المؤتمر في سنواتها السابقة، وزراء ورجال أعمال ومهندسون وأطباء وسفراء وقضاة وعسكريون ومحامون وأدباء وفنانون، كانت لهم البصمة الواضحة في إسهامهم لبناء وطنٍ يحتاجهم ومدرسة أعدّتهم. وحين بلغ النفير أسماع جلّ هؤلاء في المهاجر البعيدة، وليس في الداخل وحده، انهمرتْ المساهمات المادية والمالية والمعنوية. ثمّة مَن أسهم بماله-عملات محلية وأخرى أجنبية-وثمّة من أسهم بتبرّعٍ عينيّ مقدّر، وثمّة من أوقف وقته وجهده، رعاية وإشرافاً ودعماً إعلامياً، لجهود إحياء مدرسة المؤتمر الثانوية. أستطيع أن أقدّر أن نفير الوفاء لمدرسة المؤتمر، قد بلغ المليار من الجنيهات أو تجاوزها. وللشهادة أقول إن كلّ جنيه ذهب إلى مصرفه، وكلّ مواد بناء وضعت إلى مواقعها، وكلّ كراسة وكلّ زيٍّ ذهب إلى طلاب المدرسة، ولم يصل إلى أذني ولا أذن غيري، من يشكّك في مصرفٍ من منصرفات التعمير والإصلاح، فذلك جهدٌ نبيل وبذلٌ مقدّر، لا ولن تصله يد المفسدين الذين نعرف. . (5) في بادرة لم يسبقهم عليها أحد، أنشأ الخريجون رابطة مسجلة رسمياً، تؤسّس لجهدهم هذا، فيكون له الثبات وتضمن له الاستمرارية والاستدامة. ولي أن أشيد بلمسة إنسانية وأسرية جمعت جلّ خريجي مدرسة المؤتمر، بمختلف أجيالهم في معايدة عيد الفطر المبارك برفقة أسرهم: من جيل الطيار سند، مروراً بجيل حسان عبدالرحمن والسر هاشم والصافي جعفر، وجيل علي يوسف الميز، وجيل مولانا حيدر دفع الله وجيل الفريق منعم سعد والفريق منصور وجيل د.أسامة مرتضى وأشقر والفاتح جبرا، وجيل ناجي، ومن جاء بعدهم. إنّ رابطة خريجيّ مدرسة المؤتمر- ورأس حربتها حالياً جيل السبعينات- قد استنّت سُنة، لو اقتدى بها كلّ من تعلّم في مدرسةٍ من مدارس البلاد، ثمّ عاد إليها بعينِ الوفاء ويد الرعاية ، فإنّ في ذلك درس يعين على إدراكنا لقدراتنا الذاتية، التي لا تحدّ، وهِممنا السبّاقة قبل العون الرسمي لفعل الخير، وفي حشدنا لبناءِ ما تهدّم من وطنٍ نحبه ونجهد لصونه. قال أمير الشعراء أحمد شوقي : الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعدّدت شعباً طيّب الأعراقِ ولقد كانت مدرسة المؤتمر، أمّاً ثانية لكلِّ من تعلّمَ فيها وتخرّج منها، وما صدر نفيرُهم الباذخ هذا، إلا عن استشعارهم لطيبِ أعراقهم وحُسن محتدهم ونبل وفائهم، لمؤسسة دخلوها صبياناً وغادروها رجالاً، يُشار إليهم ببنان العزة والتقدير.. +++++ جمال محمد ابراهيم [email protected] الخرطوم – يوليو 2016