إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دارفور مختلفة


Darfur is different
مايكل لانقلي Michael Langley
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما ورد في الفصل الثالث من كتاب البريطاني مايكل لانقلي المعنون:
" No Woman's Country, travels in the Anglo-Egyptian Sudan" عن رحلة قام بها في بداية الخمسينيات إلى مختلف أقاليم السودان استغرقت تسعة أشهر.
صدر الكتاب (والذي يحتوي على ثلاثين فصلا) عن دار نشر The Philosophical Library بنيويورك، وطبع في بريطانيا في عام 1951م.
ويغلب على محتوى وأسلوب الكاتب السخرية والتعالي والتحامل، وكثير من النقد الجارح.
المترجم
******* ****** ************
كان للخطوط الجوية السودانية أسطول صغير من الطائرات من نوع "De Havulland Doves" تقوم برحلات يومية إلى أتبرا وبورتسودان وكسلا وأسمرا (في أرتيريا). وكانت تقوم برحلات غير منتظمة أحيانا إلى الأبيض والفاشر والجنينة في دارفور. ولم تنتظم تلك الرحلات لدارفور إلا في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية حيث كانت هنالك رحلات تربط لاغوس بالقاهرة تمر عبر دارفور.
استقليت طائرة الخطوط السودانية المتجهة لغرب السودان. ونظرت وأنا في الطائرة إلى الأراضي القاحلة الممتدة تحتي في كردفان. وحمدت الله أنني لست مسافرا على الطريق البري بين الأبيض والفاشر، فهو طريق صخري وعر، وتغمره المياه تماما في موسم الأمطار. ويشتكي التجار الإغريق الذين ينقلون بضائعهم من الأبيض إلى الفاشر من أن عليهم تغيير إطارات شاحناتهم بعد كل ثلاث سفريات يقومون بها عبر ذلك الطريق! ويستخدم هؤلاء التجار شاحنات فورد أو شيفروليه، فهي – في نظرهم- الوحيدة التي لها القدرة على الانطلاق السريع، والسير والتسارع بقوة. وعلى العموم، يفضل المرء أن يكون طائرا فوق ذلك الطريق وليس راكبا على أرضه.
كنا ثمانية في تلك الطائرة: مامور سوداني، وعروس إيرلندية، ولواء في الجيش، وأحد مساعدي السكرتير الإداري لشئون الطيران مع إثنين من حفاري الآبار، ينالان نظير خدماتهما لهذا البلد مبلغ 800 جنيه إسترليني في العام، ووضعا اجتماعيا يضعهما في مصاف لا يبعد كثيرا عن مصاف المهمين من الرجال.
تساءلت في براءة: "هل سنجد ذلك المكان؟"
أخبرني مساعد السكرتير الإداري، والذي كان يجاورني في الطائرة بأن الطيار كان في رحلته السابقة للفاشر قد ضل الطريق، ولكنه عثر أخيرا – بعد جهد جهيد – على مطار مدينة الجنينة بعد مرور أكثر من ساعة من إرسال الإشارات القلقة وهو يبحث عن ذلك المطار الواقع على الحدود مع الاستوائية الفرنسية French Equatoria. وزاد بالقول بأن الطائرات الصغيرة تضل طريقها بسهولة في السودان، مما دفع بالحكومة أن تشترط على الطيار حمل راديو لاسلكي، أو أن يكون معه مرافق!
"أعتقد أن هذه هي المدينة". كنا نحلق فوق تلال منخفضة، وندور حول المدينة، والتي لم تكن إلا مجموعة متناسقة من "القطاطي" المستديرة، فوقها أسقف مخروطية من القش المسود اللون، وكأن بناتها كانوا من السحرة. لاحت لنا تلك "القطاطي" مِنْ عَلِ مثل صفوف أزرار سوداء تحيط بها الأشجار، والتي بدت شديدة الاخضرار على خلفية الرمال الشاحبة التي تنمو عليها. وهبطت بنا الطائرة برفق وكأنها ريشة نعام. وفي الفاشر يصنعون من ريش النعام منافض للغبار.
واستقبلنا في المطار السيد نايتنقيل، نائب مدير المديرية، وكان قد قدم لمقابلة العروس الإيرلندية، والتي كانت قد أتت لزوجها العقيد قائد حامية الفاشر. غير أن العقيد كان في مهمة على الحدود. تولى السيد نايتنقيل أمرنا، أنا ومساعد السكرتير الإداري، وأخذنا إلى بيت ضيافة صغير يسمى "الوردية Warraddeia". وكان هنالك بيت ضيافة آخر للسيدات يطلقون عليه اسم "الوربية Warrabeia"، وبينهما ما لاح لنا من الجو وكأنه كوم هائل من صناديق التخزين المغطاة بملايات بيضاء. كان ذلك في الواقع هو مقر مدير المديرية، والذي كان من قبل سكنا لسلطان دارفور الأسود، علي دينار.
سألني نائب مدير المديرية: "ما هي مهمتك هنا؟"
وعرفت منه أن آخر زائر لمديريته كان قد أحضر عددا من البنادق لصيد المها في شمال دارفور، والتي لا تزال تلك الحيوانات البرية النادرة تعيش في أطرافها الجبلية.
"ألم يكن هنا من قبل سلطان أسود؟"
"علي دينار."
"أريد أن أعرف أي نوع من الرجال كان ذلك السلطان، قبل أن يرحل عنا الذين يعرفونه ويتذكرونه".
"وهل تعرف عنه شيئا ... أي شيء؟"
كنت أعلم أنه في ذات يوم مشهور من أيام عام 1775م "مات سلطان، وتوج سلطان، وولد آخر". كان تيراب هو ذلك السلطان الذي توفي ودفن في مقابر أسرته الملكية في ذلك اليوم، وتوج بعده شقيقه عبد الرحمن سلطانا على دارفور، وهو ذات اليوم المشهور في تاريخ دارفور (قليل الحوادث) الذي ولد فيه محمد الفضل ولد تيراب. وجعل هؤلاء السلاطين السود الفاشر مركزا لغزواتهم. وبدأ الإسلام ينتشر في ربوعها، فظهرت المساجد المبنية بالطوب الأحمر في الفاشر في ستينيات القرن الثامن عشر. غير أن النظام الإقطاعي الذي كان فاشيا في العالم العربي (وما زال في بعض المناطق إلى الآن) لم يكن معروفا في دارفور. وكان أول من أدخل النظام الإقطاعي بها هو (السلطان) محمد الفضل في ذات التاريخ الذي كان فيه نابليون يهدد تخوم الإمبراطورية التركية. وكان محمد الفضل، ذلك الذي أنجب أربعين ولدا، هو جد علي دينار.
قرأت في كتب الرحلات التي صدرت في مرحلة باكرة أن دارفور لم يطأ ثراها حين كان علي دينار طفلا صغيرا غير ثلاثة رجال بيض. وأنه سمح فيما بعد لقليل من الزوار الأجانب بزيارة مملكته الأفريقية التي يديرها بالطريقة التقليدية العتيقة. وغادر بعض هؤلاء الزوار مملكته بأعجل ما تيسر لهم، بينما أخفق الآخرون في مغادرتها للأبد.
قرأت أيضا أن تصميم علي دينار على استرداد ملكه الضائع كان متجذرا في شعورة بالظلم والضيم من حكم المهدية، خاصة حيال الأمير محمود ود أحمد، والذي مهدت هزيمة جيشه في أتبرا الطريق أمام جيوش كتشنر المتوجهة لأمدرمان.
"الخليفة يدعوك للمثول أمامه، وسيمنحك الخيول والسلاح والذخائر. وستعود سلطانا على كل أراضي الغرب، وسأسحب أنا جيشي للخرطوم". وبعد مشاجرة مع علي دينار، أرسل له محمود ود أحمد تلك الكلمات المخادعة، والتي أفلح فيها في جعل علي دينار يرضى بالسفر إلى الخرطوم (لعل المقصود هي أم درمان. المترجم) لمقابلة الخليفة. غير أن علي دينار لم ينس تلك الخدعة التي جعلته أسيرا عند الخليفة، فتوجه صوب الفاشر بينما كان الخليفة وجنده يتوجهون لكرري لملاقاة جيش كتشنر. وفي الفاشر أعلن الرجل أنه "أقوى سلطان في العالم الإسلامي".
غير أن العالم الذي كان يدركه علي دينار كان عالما صغيرا ومحدودا. فقد قدر السلطان في عام 1914م أن ذلك العالم قد صار بين يديه وطوع بنانه، فقد صدق ما جاء في نبوءة قديمة معتمدة على التنجيم نشرت باللغة العربية بأن تلك السنة ستشهد نصر الأتراك، ووقوع مجزرة هائلة للبريطانيين في مصر، وسقوط النظام الحاكم في السودان. وشرع من فوره في إرسال خطابات إلى البريطانيين تعوزها الدبلوماسية، وذلك عن طريق حاكم كردفان البريطاني (أو كما كان يكتب: "عن طريق حاكم اللهب في كردفان")
] يمكن مراجعة المقال المترجم بعنوان "تصورات البريطانيين واستجاباتهم للسلطان علي دينار، 1915 – 1916م". المترجم. [. وأثارت طريقة ونبرة رسائل على دينار حنق السردار والحاكم العام السير ريجلاند وينجت.
وصبرت الحكومة لوقت مناسب حتى تبين لها أن أسلحة تركية قد وصلت بالفعل إلى علي دينار، فجردت في ربيع عام 1916م حملة عسكرية مكونة من فيلق الهجانة السوداني، وكتائب المشاة المحمولة سارت نحو الفاشر. وقامت طائرتان بإلقاء منشورات على تلك المدينة، وقدمت العون لاحقا لمجموعة من الجنود البريطانيين وهم يقومون بالهجوم الحربي الأخير على سلطان الفاشر.
وردا على التحرك الحكومي ضده، قام علي دينار بوضع كل أفراد جيشه، وعددهم كان نحو 8000، في مواجهة الغزاة. ولقي ذلك الجيش هزيمة قاسية، رغم أنه نجح في الحاق قليل من الخسائر في أوساط جيش الحكومة. وكان من بين المصابين ضابط طيار بريطاني شاب اسمه سيلسور، يعمل الآن قائدا لسلاح الجو البريطاني ويحمل لقب سير. وكلف الضابط هيربرت هيدليستون بملاحقة السلطان بعد انسحابه من أرض المعركة، وعثر عليه في جبل مرة.
ذلك كل ما كنت أعرفه عن علي دينار... صاحب سمعة سوداء، وذَكِر تلاشى في منتصف سنوات الحرب العالمية الأولى... له بعض الممتلكات في مكة والمدينة، وخَلَف عائلة كبيرة ممتدة في الفاشر. لا ريب أنه كان قد ترك الكثير من الذكريات في حوافظ من بقي من رعيته.
رد على نائب مدير المديرية بالقول:" وماذا عندك أيضا عنه؟"
أنقذني من جهلي إسماعيل، ضابط الشرطة الشاب، والذي قال لي بأنه سيأخذني لواحد من أشهر تجار الفاشر، وأحد أهم أفراد الجالية السورية فيها (وعددهم لا يتجاوز الثلاثين)، ألا وهو توفيق تتونجي. قدم توفيق للفاشر قبل نحو أربعين عاما، وهو الآن صاحب تجارة مزدهرة في أهم شارع بالمدينة. وجدناه في متجره يجلس أمام "طاولة النقدية" يحتسي القهوة. أشار بأصبعه لامرأة دخلت متجره لتشتري صندوق سجائر من نوع "Gold Flakes" وقال: "مر علي زمن هنا كانت مثل هذه المرأة تدخل على متجري تحبو على أربعة". كان الزبائن يطلبون الشراء بالدين، ولكن منع السلطان علي دينار كل الأهالي البيع والشراء إلا بالنقد الحاضر، فيما عدا أفراد عائلته. لم نكن نجرؤ على مخالفة أوامره، إذ أنه كان يشدد المراقبة اللصيقة على التجار الأجانب. أتذكره وهو يجلس خلف نافذة في قصره مخفيا وجهه، يراقب صُحون الأرز واللحوم وهي توزع على الناس بلا مقابل في يوم مولد الرسول. وكنا نأكل ما يقدم لنا ونحن في غاية القلق والخوف. وكان السلطان يردد دوما بأن لهؤلاء النصارى " مَعِدٌ صغيرة بشكل غير عادي". وكان السلطان يحرص دوما على دعوتنا لقصره في تلك المناسبة".
وواصل توفيق الحديث وقال: "عندما قدمت لهذه المدينة لأول مرة، لم تكن هنا أي مبان مشيدة بالطوب الأحمر، بل كانت كل الأسواق الشعبية والمتاجر مبنية من الخشب والقش. وكانت الحرائق تأتي على كثير من تلك المتاجر. لذا قمت مع أخي ببناء متجرنا بالطوب الطيني. ولم نكن نعلم أن استخدام الطوب الطيني كان حكرا للسلطان، ففرضت علينا غرامة قدرها 200 ريال (كانت تعادل نحو 40 من الجنيهات الإسترلينية). كانت مثل تلك الأشياء الصغيرة تثير غضبه. وكان يرتدي معطفا أحمرا عندما يكون غضبانا، وآخر أخضر أو أبيض اللون عندما يكون منشرحا. وكان كل من يعمل معه، سواء أكان مقدما أو شرتايا أو وزيرا أو خصيا، يعيشون في حالة رعب شديد منه. وكانوا في أشد حالات الخوف منه في أيام الجمع، فذاك كان يوم تنفيذ أحكام الإعدام. لقد شهدت كثيرا من حالات الإعدام في ذلك اليوم، وأعتدنا عليها. غير أن أكبر مصدر لقلقنا – نحن التجار- كان هو أحوال التجارة، فقد كانت غريبة متغيرة.
منع السلطان القوافل التجارية القادمة من الشرق من المرور إلى أفريقيا الاستوائية الفرنسية، والقوافل القادمة من الغرب من المرور إلى الأبيض وباقي المناطق النيلية. أما القوافل القادمة من الأبيض فقد ألزمها السلطان بالتوقف في ست محطات للتفتيش ودفع رسوم العبور (والتي كانت عبارة عن قطعة واحدة من الصابون عن كل جمل في القافلة التجارية المحملة). وعند وصول القافلة للفاشر يقوم بعض العاملين بقصر السلطان بتفتيش كل البضائع فيها وانتقاء أجودها لاستخدام السلطان الشخصي. وإن كانت القافلة محملة بالرقيق يبعث رجال قصر السلطان بالقابلات لانتقاء صغار البنات المسترقات، ويحدث أحيانا انتقاء صبية صغار ليقوم "الحلاقون" بإخصائهم، ومن بعد ذلك "علاج" جروحهم بالزيت المغلي. فقد كان هنالك سوق رائج للخِصْيان. وكان للسلطان خمسين من هؤلاء يعملون في خدمة حريمه – خصي واحد لخدمة نحو عشر نساء".
أخبرني توفيق أيضا بأن السلطان كان دائم البحث عن الأسلحة والذخائر من دون أن يكون عنده دوما ما يكفي من المال لشرائها. فقد كانت دارفور فقيرة لا تصدر غير الجلود والصمغ العربي والتبغ وحب البطيخ. وما يأتيها من بيع تلك المنتجات غير كاف حتى اليوم (أي في 1951م. المترجم) لتشييد طريق بين الأبيض والفاشر. وكان السلطان عند حصوله على قطع سلاح جديدة، يأمر بعض جنده بالصعود إلى أعلى القصر وتجريب السلاح بإطلاقه على المارة تحت القصر. وحكى توفيق لي قصة عجيبة ليدلل بها على طغيان السلطان فقال إنه أمر برجم إحدى إخواته لأنها قدمت إحسانا لإحدى المسترقات. وقال أيضا بأنه كان بالمدينة متسولة أمر السلطان بقطع يديها لأنها أبت أن تقبل بما يقدم لها من عملات رديئة سكت من العلب المعدنية القديمة، ومناقد الفحم المهملة. وقد شاهدت بنفسي بعض تلك العملات في متحف بالخرطوم. وكانت تسمي الواحد منهن قرش radina (توجد صور لعملات السلطان علي دينار في منتدى العملات والطوابع العربي http://www.coins4arab.com/vb/showthread.php?t=41748. المترجم).
وكان من عادة السلطان أن يتخذ مجلسه كل يوم جمعة تحت ظل شجرة (قيل إنها كانت تسمى "شجرة الأطرش". المترجم)، وقريبا من مقاصل الإعدام، وبجانبه "القاضي الأطرش" (هكذا أوردها المؤلف the Kadi el Atrush, or the silent judge. المترجم) ليستمع لشكاوى الرعية ويبت فيها. لقد كان السلطان صاحب عقل داهية، وله قدرة عجيبة على تجيير مصائب الآخرين (وحظوظهم السعيدة أيضا) لمصالحه الشخصية. وكان يقوم أحيانا بفتح أذنيه لطلبات الاسترحام. فقد أعطى الأمان لمن هربوا من قسوة عماله في مناطق مختلفة واستجاروا بقبر أبيه زكريا، وأمر بتوفير السكن والرعاية لهم. وكان السلطان شديد الفخر بأجداده، وكثير السخرية من معاصريه.
ثم أخذني ضابط الشرطة إسماعيل لداره (يسمونه "دردر" وهو بناء من طين حول محيط القطية) للقاء أحد وزراء علي دينار السابقين. وكان ذلك الرجل من المسترقين السابقين، ويسميه الناس هنا "جراب الراي (الرأي)". كانت أرضية الدردر من الأسمنت. أما الأثاث فقد كان متنافرا من أنواع عديدة. فبعض قطعه كانت خشبية قديمة وعجيبة الشكل، وبعضها الآخر من الحديد. قال لي إسماعيل إن اسم الرجل الحقيقي هو "مجوك" وهو اسم مشهور عند الدينكا. كان مجوك شيخا كبيرا أسودا، له لحية بيضاء، وعظام وجه بارزة، مع عينين تشعان بالحكمة. وكان جنود الزبير قد استرقوه في إحدى غزواتهم على "الرنك" في تاريخ لا يزال يذكره جيدا ... عام 1874م. وسبب تذكر مجوك لذلك التاريخ هو أنه صادف تاريخ سقوط السلطان إبراهيم قرض في دارا.
"هل تتذكر سلاطين باشا؟"
أجاب مجوك بسخرية:" كان واحدا من الذين أتوا في رفقة عدد من الرجال، وحكم لفترة من الوقت، ثم ذهب بعيدا".
"وهل تذكر ملازم المهدي، الخليفة؟"
"كنت جنديا في جيشه. وحاربت مع الأمير محمود ود أحمد في معركة أتبرا. أمطرنا العدو بوابل من الرصاص ولم نستطع أن نقترب منه، وحدث نفس الأمر في أمدرمان. فقدت في تلك المعركة الأخيرة حصاني ورمحي. وبعد المعركة رافقت على دينار في رحلة عودته لدارفور، وطردنا منها "أبو كودة". وهزم أحد قوادنا، عبد الكريم؟ (Kariam) إبراهيم بوسةBusa (لعل المقصود هو "بوشة. وكان كتشنر قد اختار إبراهيم ود علي (ابن قرض) ليحكم دارفور".
وأكمل مجوك حديثه: "ولما أصبح علي دينار هو سلطان دارفور أديت له قسم الولاء لأبقى عبدا مخلص الخدمة له، وألا أخونه أبدا. كنت في البداية مكلفا بجمع المُكُوس والزكاة- الجمال 10، الأبقار 8، والغنم والمعز قرش أو قرشين. وإذا نقصت مؤونة الجنود من الطعام يقول لي السلطان: "مجوك... اركب حصانك واذهب إلى مساعدي، أيهم أوفر محصولا فخذه منه، وخذ منه كذلك ما تجده عنده من أفضل الملابس". وأقوم بتنفيذ الأمر وأمضي من الفاشر لكتم إلى نيالا لأجمع "العيش" والملابس للجنود. وكنت كما ذكرت لك تحت أعين السلطان. وعينني وزيرا وكان يستدعيني صباح كل يوم. وعندما كان يريد توبيخ أحد الكبراء كان يكلفني بالقيام بذلك. كان علي دينار لا يقرأ ولا يكتب، وكان يكلف "فكي" بالقيام بتلك المهمة – ولكنه يستطيع أن يقرأ مضمون ما يكتب باسمه في وجوه الذين كانوا من حوله. وكان كثير الشك في قائده عبد الكريم. وحق له، فقد اكتشف السلطان مؤامرة لقتله في أحد أيام الجمع، وأتهم قائده بالضلوع فيها مع سبعة آخرين، ولكنه آثر ألا يقتله لأنه كان أفضل قواده، وقطع رؤوس ستة من المشاركين في تلك المؤامرة، وقتل السابع دقا في هَوْن كبير. وكنا نظن بأن ذلك عقاب مناسب للخيانة، وأن المؤامرة قد انتهت. ولكننا كنا على خطأ. فقد أسرت زوجة عبد الكريم للسلطان بأنها زوجها يخزن كثيرا من الأسلحة والذخائر في بيته. وهنا أظهر السلطان دهاء ومكرا عجيبين. قام بدعوة عبد الكريم لتناول الطعام معه. ووضع اللحم في المائدة ولكن من غير سكاكين لتقطيعه. وهنا سأل السلطان من حوله: "هل نأكل اللحم دون تقطيعه؟". عند ذلك أسرع عبد الكريم بإدخال يده في حزامه لاستخراج سكينه (وكان حمل أي سلاح في حضرة علي دينار من الممنوعات). فقام حراس السلطان بالانقضاض على الرجل بسيوفهم وقتلوه. كانت تلك في نظر السلطان ورعيته محاولة من ذلك القائد لاغتيال سلطانه. غير أنها كانت أيضا نقطة تحول في حياته. فقد أحزنته تلك المحاولة وصيَّرته رجلا غليظ القلب. فقتل الكثيرين ممن كان يشك في ولائهم له. بل لقد جلدني ذات مرة لاتهامي بالغش في حسابات بيت المال. غير أن القدر أمهلني لأعيش حتى أشرح لسيدي السلطان بطلان ذلك الاتهام. صدقني السلطان وأهداني بقرتين وجرتي عسل وسمن. وكان ذلك السمن من أجود الأنواع، فقد كان من عادة السلطان أن يجلس في حوض طيني ضخم مملوء بالسمن المصفى حتى صدره، لإيمانه بأن في ذلك صلاح البشرة ومنع أمراض العظام".
وواصل مجوك في الحديث عن صحة سيده فقال: "لقد كان سيدي في تمام الصحة. وكانت شهيته للطعام عالية، ويحب جدا تناول الخصي المفرومة. وعندما يزور حريمه ليلا، كان يستمتع بدخان الطلح (ونبات آخر من نوع الأكاشيا سماه الكاتب The whistling tree. المترجم). وكانت له عُشّة كبيرة يجلس فيها أحيانا مع مجموعة مختارة من حاشيته للفُرْجَة على الإماء وهن يرقصن. وكان يهب أي قائد من قواده من يرغب من إمائه".
سألت مجوك عن سر انفضاض الناس عن علي دينار في آخر أيامه فرد قائلا بعد أن وضع ذقنه على عصاه وأغمض عينيه وكأنه يستعيد ذكرى تلك الأيام: " بعد حادثة القائد عبد الكريم، بدأ قادة السلطان ومعاونوه يفقدون الثقة في سلطانهم. فصاروا يخبؤون المحاصيل وأبقارهم. بل صاروا يسرقون الهدايا السلطانية (من ريش نعام وعاج وإبل) التي كان سيدي علي دينار يبعث بها إلى قادة وزعماء الطوائف الدينية مثل السيد علي الميرغني والشريف الهندي والمجمر". وشرح لي مجوك أن المجمر هذا كان رجلا مشهورا في أم درمان بعلاج المجانين، وما زال على قيد الحياة.
وواصل بالقول: " قادتنا كانوا يحرسون ويرعون سراية السلطان بالفاشر دون مقابل. ومع مرور السنوات بدأ هؤلاء القادة في التطلع للخرطوم من أجل حكومة أفضل، بينما توجه السلطان نحو مبايعة الخليفة في إسطنبول. وفي سنوات الحرب كان يتمنى انتصار الأتراك والألمان. كانت تلك سياسة خاطئة. كان مستشاروه يقدمون له نصائح متضاربة، ولم تكن لهم مشاعر صادقة نحوه. وفي النهاية احتلت الفاشر وفر السلطان – وسرت إشاعات عن مؤامرات لقتل سلطاننا. طلب مني المشاركة في القبض عليه، ولكني كنت قد أقسمت على الولاء والإخلاص له فرفضت عرضهم. قالوا لي: "يا عبد. عد إلى الرنك إن كنت تريد أن تحافظ على حياتك؟". لم أفعل ذلك طبعا ولكني ذهبت للإنجليز لأفاوضهم على استسلام سلمي لحكومة الخرطوم. ولكن فات وقت المفاوضات، فقد وردت الأنباء للفاشر بأن السلطان قد قتل – أفتقده كثيرا، كما نفتقد دوما الذين نحبهم – والذين نكرههم كذلك".
نهض مجوك على قدميه وقال في حسرة بائنة: "أنا عبد عجوز فقد سيده". ومضى مثقل الخطو إلى خارج الدردر.
سألت إسماعيل: "ما مصدر عيش هذا الرجل؟"
أجابني: "يعيش على قصصه".
كان مجوك ما زال عبدا لنظام تمت إزالته. وإلى الآن هنالك قليل من العبيد الذين كانوا – باختيارهم – يظلون عازفين عن التخلي عن ذلك النظام، إلى أن يموت سادتهم. حينها يتقدمون لمفتش المركز بطلب للحصول على "شهادات حرية". وكان أصدقاء مجوك (وعدد من نساء السلطان الأسود السابقات) من ذلك النوع.
وجدت من بين مقتنيات السلطان في قصره قائمة بأولاده، وبلغ عددهم 120. كان من بين هؤلاء ولد اسمه يحيى. ذهبت مع إسماعيل نبحث عنه فوجدناه يشتغل في وظيفة عمالية في مستشفى الفاشر. جلس معنا ذلك الرجل الشديد السواد، المحمر العينين، القوي البنية، تحت ظل شجرة، وقال لنا بأنه بقي من بين ثلاثة أبناء لرعاية والدته. ذكر لي بأنه لم يضرب في حياته غير في أيامه في المدرسة الخاصة التي كان يدرس بها في قصر والده. وأضاف قائلا: " كنا نحن 100 من التلاميذ، بعضنا أبناء السلطان وبعضنا الآخر أبناء القادة. وكان والدي أحيانا يبعث ليحضرني من الفصل، وكان ذلك يعني أن علي مرافقة والدي في رحلة صيد، حيث كنا نذهب للصحراء ونحن نحمل السجاد والخيام محملة على الجمال. وكنت في نهاية اليوم أتناول الطعام مع والدي من ذات الصحن. كان الوالد يحسن تربيتي، وكان يريدني أن أفلح في الحياة وأن أتعلم ركوب الخيل وألا أخشى أحدا من الناس".
قال لنا: "لقد ظللت أعمل في المستشفيات في العشرين عاما الماضية، وعملت قبلها في الجيش، ولم أترق حتى إلى رتبة وكيل عريف. مرتبي الآن يقل عن 40 ج في العام، أدفع منها 6 ج ايجارا سنويا لبيتي! لقد صرت أدفع إيجارا لما كنت أملكه. هذه البلاد بأسرها كانت ملكا لعائلتي. لقد علمت من أحدهم إنها أكبر من إنجلترا".
كان يحيى قد بلغ سن الختان وحفظ شيئا من القرآن عندما فر والده السلطان من الفاشر.
"كان بإمكانه أن يفر بسلام. نصحه أحد الفقهاء (الفكيا) بأن يلبس زوجاته ملابس الرجال، وأن يتخفى هو في ملابس راع للإبل ويخرج من الفاشر دون أن يثير شكا عند أحد من الناس. ولكنه رفض ذلك، وأصر على البقاء في دارفور لأن كثيرا من أفراد عائلته كانوا مرضى. كنت مصابا بالحصبة ومتعبا جدا. كان ذلك هو سبب عدم وفاتي بجانبه في كولمي بجبل مرة. إن لوالدي ماض قد لا يناسب هذا العصر. وأنا جزء من ذلك الماضي، ولكني بقيت هنا من أجل والدتي".
وأشار يحيى لناحية قصر والده وسألني: "توجد صورة لوالدي في ذلك القصر. هل رأيتها؟
وفي ظهيرة ذلك اليوم كنت مع نائب مدير المديرية. رأيت على حائط مكتبه حربتين ودرقة معلقتان خلف ظهره. وعلى حائط آخر في المكتب علقت صورة (رسمية) للسلطان المقتول. لقد قتل برصاصة اخترقت جبهته من على بعد 600 ياردة، وهو يعدو على ظهر حصانه بين التلال في صباح يوم باكر من أيام نوفمبر 1916م.
أخذت تلك الصورة (الرسمية) في المكان الذي قتل فيه، وهي للسلطان راقدا على "عنقريب" فرش عليه سجاد. لا تدل ملامحه على أنه كان رجلا ضعيفا أو منغمسا في الملذات. كان يشبه يحيى في صفاته الجسدية. وبشخصية (فذة) سيطرت على تاريخ دارفور الحديث، لا غرابة في القول بأن "دارفور مختلفة" بالفعل.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.