مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    حذاري أن يكون خروج الدعم السريع من بيوت المواطنين هو أعلى سقف تفاوضي للجيش    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    سيكافا بطولة المستضعفين؟؟؟    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    مصر.. فرض شروط جديدة على الفنادق السياحية    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    مقتل 33899 فلسطينيا في الهجوم الإسرائيلي منذ أكتوبر    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة حياة اليوزباشي عبد الله عدلان (1) كما رويت للمفتش البريطاني جورج ريتشارد بريدن


قصة حياة اليوزباشي عبد الله عدلان (1)
كما رويت للمفتش البريطاني جورج ريتشارد بريدن
The Life-story of Yuzbashi ‘ Abdullah Adlan
As told to G. R. F. Bredin
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الأول من ترجمة وتلخيص لمعظم ما ورد في مقال للإداري البريطاني جورج ريتشارد بريدن (1899 – 1983م) عن قصة حياة اليوزباشي عبد الله عدلان. وعمل السيد بريدن في السلك الإداري في مختلف مناطق السودان مثل كوستي (مديرية النيل الأبيض) والنهود وأبو زبد والأبيض (مديرية كردفان) والفاشر (مديرية دارفور) والجزيرة (مديرية النيل الأزرق) والخرطوم منذ عام 1921 وحتى تقاعده في عام 1948م. وتحتفظ مكتبة السودان بالجامعة البريطانية درام بمذكرات هذا الإداري عن سنوات عمله بالسودان ومكاتباته العديدة.
ونشرت القصة في مجلة "السودان في مذكرات ومدونات" Sudan Notes and Records في عددها الثاني والأربعين والصادر في عام 1961م.
المترجم
**** *********
صدَّر الكاتب مقاله بسطور قليلة جاء فيها:
نقلت إلى الأبيض في نهاية عام 1933م نائبا لحكم مديرية كردفان، وبعيد نهاية ذلك العام شهدت حفل استقبال في رئاسة المديرية أمه عدد كبير من الشيوخ والأعيان والضباط وغيرهم، وكانوا وقوفا في طابور طويل انتظارا لدورهم للسلام على حاكم المديرية. ومن بين كل الحضور شد انتباهي شيخ سوداني كبير كان يحمل رتبة اليوزباشي (النقيب). وكان الرجل مميزا بقامته المديدة المنتصبة ومشيته العسكرية المنتظمة (رغم أنه كان في الثمانينات من عمره). ولفت نظري أيضا بكثرة الأوسمة والميداليات والنياشين التي كانت تتدلى من علي صدره، والتي شملت "نجمة غردون" و ميداليات "حملات النيل" والتي شملت أتبرا وتوشكي وفيركيت وأمدرمان. ورأيت أن ذكريات مثل ذلك الضابط، والذي لابد أنه خاض غمرات كثير من الأهوال، واكتسب خبرات عسكرية ضخمة لجديرة بالتسجيل. فتقدمت منه وعرضت عليه أن يأتي لمنزلي في الأمسيات لتسجيل طرف من تاريخ حياته، واستأذنته في نشر ما يدلي به الي، تسجيلا وتخليدا لذكرى المعارك التي خاضها طوال سنين خدمته في الجيش. ووافق الرجل مشكورا، وبدأنا بعد تلك الأمسية في تسجيل مذكرات ذلك الضابط العتيد.
ولقد حرصت على تسجيل مذكرات الرجل تماما كما نطق بها لسانه، ولم أتصرف بأي طريقة في أقواله حذفا أو اضافة، ولم أستوثق منها بالرجوع للوثائق ومضاهاتها بما كان متوفرا عندي من وثائق أو مذكرات رسمية. ولا بد لي هنا من تسجيل إعجابي بذاكرة الرجل المدهشة وحافظته القوية، وعدم تردده أو تلجلجه أو تلعثمه وهو يروي تاريخ حياته وكأنه يقرأها في يسر من صفحة كتاب أمام ناظريه. وآمل أن أكون بتسجيلي مذكرات هذا الشيخ الكبير قد حفظت للأجيال القادمة صفحة من تاريخ السودان والحياة فيه في سنوات مضت، وكثير من ذلك التاريخ الشفاهي قد ضاع مع رحيل جل من صنعوه أو عاصروا أيامه.
قصة حياة اليوزباشي عبد الله عدلان
والدي هو السلطان عدلان بادي، وولدت في جبل قلي بسلطنة الفونج. وكان والدي يحفظ نسبه والممتد لعشرين جيلا سابقا من ملوك الجبل. ووالدتي هي فاطمة بنت الناظر عوضين، كريمة ناظر قبيلة الهبانية بشركيلة. وأخي هو إدريس عدلان، وهو يعد السادس في سلسلة حكام المنطقة، وحكم في العهد التركي، وكان هو "المك" في عهد المهدية أيضا.
ولما زار الخديوي الخرطوم دعوا له كل زعماء القبائل وحكام المناطق لمقابلته، فأتوا من كل أرجاء البلاد وكان من ضمنهم والدي. وفي تلك المقابلة طلب الخديوي من ثلاثة من شيوخ القبائل الكبيرة أن يبعث كل واحد منهم بأحد أولاده لمصر للالتحاق بالجيش، وكان هؤلاء هم سلطان دارفور وإبراهيم صابون زعيم دينكا الكوة (kawa) ووالدي. وفي ذلك الوقت كان الدينكا يسكنون في شمال البلاد على ضفتي النيل الأبيض حتى الكوة بقرب الدويم.
ولما تلقى والدي ذلك الأمر من الخديوي طلب من عمي الكاشف يوسف (والذي كان يعمل سنجكا في جيش الخديوي في كسلا) وكنت تحت رعايته وأنا في الثامنة من العمر، أن يرسلني إلى مصر لألتحق بجيش الخديوي حينما أبلغ الثانية عشر من العمر. ومن باب التحضير لتلك البعثة، ذهبت لتلقي العلم في خلوة الفكي عبد الله مدني وبقيت فيها لعامين. بعدها طلب والدي نقلي لمدرسة حكومية في كسلا كانت تحت نظارة ضابط مصري من الباشبوزق اسمه محمد زانكلوني. وكانت تلك هي المدرسة التي يدرس فيها أبناء الشيوخ والضباط وغيرهم من علية القوم. وبما أنني كنت سأبتعث لجيش الخديوي فقد أعفيت من دفع رسوم المدرسة. ولحق بي في تلك المدرسة من الفاشر آدم بوش، ولد السلطان بوش بعد أن كان تلقى قليلا من التعليم في الفاشر. وبقيت في مدرسة كسلا مع صاحبي آدم لسنوات ثلاث. غير أن ولد زعيم الدينكا (وممثل تلك القبيلة) لم يستطع مواصلة الدراسة معنا في تلك المدرسة فبقي يتدرب مع بقية الجنود في تدريباتهم العملية.
ولما تولى الخديوي سعيد باشا حكم مصر والسودان بعد وفاة أخيه إسماعيل باشا، وجد في أوراق سلفه مذكرة عن الأطفال السودانيين الثلاثة في كسلا، فأرسل لمديرها (عبد الرازق باشا، والذي قتل لاحقا مع هكس باشا في شيكان) بأن يقوم بتعييننا جنودا في الجيش الخديوي وأن يرسلنا إلى مصر من ضمن حامية كسلا (المكونة من أربع كتائب) والتي كانت قد أكملت مدتها المقررة في السودان وتتأهب للعودة لمصر. وكان زينا الرسمي هو سترة قصيرة من الدمور الأبيض تزرر حتى العنق، و بِنطال أبيض، وحذاء (بوت) مرصع بأزرار بيضاء، مع طربوش على الرأس. وكان مرتب الواحد منا سبعة قروش ونصف في الشهر، غير أن الطعام والزي الرسمي كان يقدم لنا مجانا. وكان مرتب الجندي النظامي يبلغ عشرين قرشا تدفع له كعملات معدنية كان الجنود يطلقون عليها "أبو طير" لأنه كان مرسوما عليها صورة نسور فرنسية. وكانت مباني الثكنات (البركس) مبنية من الطوب اللبِنَ في شكل مربع لتشكل قلعة. وكانت لكل كتيبة بئر مائها الخاص بها. ويعيش المتزوجون من الضباط والجنود في بيوتهم الخاصة في المدينة، وكنا نسمى الثكنات "حي الجهادية". وكان سلاح كل جندي هو بندقية قديمة من نوع (muzzle –loading flint -locks)، إذ لم تكن بنادق ريمنجتون (Remington rifles) قد أدخلت بعد. وكان لسلاح المدفعية مدافع نحاسية صغيرة تحمل على البغال، وأخرى حديدة تحملها الجمال.
وتحركنا من كسلا لسواكن مشيا على الأقدام، وقطعنا المسافة في سبعة وعشرين يوما. وهنالك دبر حاكمها ممتاز باشا أمر ترحيلنا لمصر بالبواخر، فوضع أفراد كل كتيبة في باخرة منفصلة. كان أولئك رجالا صناديد بحق. ووصلنا ميناء السويس بعد خمسة أيام، وأرسلنا بعد ذلك بالقطار للقاهرة، حيث أقمنا في ثكنات تسمى "طرة الخيط"، وبعدها أرسل الأميرلاي ثلاثتنا (نحن أبناء الزعماء السودانيين) إلى رئاسة الجيش حيث وضع كل منا في وحدة معينة، فأرسلت أنا إلى مدرسة الموسيقى، وبعث آدم بوش إلى مدرسة المشاة، وبعث زميلنا الدينكاوي لمدرسة المدفعية. غير أن الأخير لم يوفق في تلك المدرسة فأعيد إلى السودان بعد نحو نصف عام. وقضيت أنا تسعة سنوات في مدرسة الموسيقى العسكرية (ولعله بهذا يكون أول دارس للموسيقى في السودان. المترجم).
وفي تلك السنوات طلب نمساوي يدعي ميتزنقر باشا (صحح الكاتب هذه المعلومة في الحاشية وذكر أن المقصود ربما يكون هو مونزينقر، السويسري الجنسية. المترجم) مساعدة الخديوي في فتح أرتيريا وضمها لمستعمرات الخديوي، فأرسل له الخديوي كتيبة نزلت في موقع بين مصوع وأقوردات يسمى سنهيت (لعلها تسمى الآن كرن. المترجم). وقام شقيق ذلك النمساوي بعد ذلك بالتقدم نحو الحبشة، غير أن الأحباش قبضوا عليه وقطعوه إلى أربع قطع وعلقوا كل قطعة في شجرة منفصلة. ولما وصلت تلك الأخبار إلى مسمع أخيه ميتزنقر باشا قرر الرجوع لقاعدته في مصوع وأرسل يستنجد بإسماعيل باشا كي يرسل له مددا من الجند. فأرسل له الخديوي كتيبة ثانية تقدم بها إلى أماديب (حيث قتل شقيقه) وأحتلها. وطلب قادة الكتيبتين منه أن يبعث في طلب الفرقة الموسيقية التابعة لفوجهم في مصر. وبالفعل أرسلت الفرقة وكنت واحدا من أعضائها عازفا على آلة البوق القبرصي. ووصلنا لمصوع وبقينا فيها لستة أشهر، وبعدها سرنا على الأقدام إلى سنهيت (حيث كان يعسكر أفراد كتيبتنا الأولى) في مسيرة استغرقت أحد عشر يوما، بينما امتطى الضباط ظهور الجمال، وهي محملة بالآلات الموسيقية. وبقينا في سنهيت لثلاثة أشهر، وبعدها مضينا نحو أماديب، والتي قضينا فيها شهرا كاملا. ثم طلب ميتزنقر باشا من مصر السماح له بالتوجه نحو كسلا، والتي كانت خارج حدود منطقته المقررة. وبعد السماح له سرنا معه لكسلا، والتي وصلناها بعد اثني عشر يوما. وهنالك أقام لنا حاكم كسلا استقبالا ضخما، وسعدت شخصيا بلقاء عائلتي من جديد. كان عمي وزوجه ما زالا في المدينة، غير أنهما أخبراني – وللمرة الأولى – بوفاة والدي، وتعيين عمي إدريس سلطانا على قلي. وبعد تلك الزيارة لكسلا عدنا جميعا مع ميتزنقر باشا لقواعده في سنهيت وأماديب ومصوع.
وفي تلك الأيام شب تمرد في زيلا وبربرة (وهي الآن أرض الصومال) فأرسل ميتزنقر باشا جنودا من حامية سنهيت لقمع ذلك التمرد. وأتت تلك التعزيزات أولا لمصوع، حيث انضمت فرقتنا الموسيقية لها بعد أن أودعنا آلاتنا الموسيقية أحد المخازن. وسافرنا بالباخرة نحو مدينة في أرض الصومال لم أعد أذكر اسمها الآن. وفور وصولنا هنالك أقمنا لنا "زريبة" ضخمة، واستدعى ميتزنقر باشا شيخ القبيلة المحلية للمثول أمامه ولكنه أبى. غير أن ذلك الشيخ المتمرد ورجال قبيلته اقتحموا "الزريبة" بغتة عند منتصف الليل وقتلوا ميتزنقر باشا. ولما دوت صفارة الإنذار قمنا بالإحاطة بالمهاجمين ولم تصمد سيوفهم طويلا أمام نيران بنادقنا. وعند الصباح تمكنا من نقل جثمان ميتزنقر باشا إلى الشاطئ لحمله لسفينتنا الراسية هنالك، حيث قام قبطان السفينة (والذي لا أعلم إن كان فرنسيا أم بريطانيا) بأداء نوع من الصلوات المسيحية على الجثمان ثم نقله إلى مصوع حيث أنزلنا النعش وواصلنا السير إلى سنهيت.
وبعد ذلك قضيت في سنهيت أربعة أعوم مع الكتيبة الأولى، ثم عدت لمصر في رفقة زميلين آخرين لتلقي مزيد من الدراسة الموسيقية حتى نصبح رؤساء للفرق الموسيقية العسكرية. وقضيت عاما كاملا في مصر قبل أن أعود سنهيت، بينما بقي زميلي في مصر.
وكانت الفرقة الموسيقية العسكرية في كتيبتنا مكونة بالكامل من السودانيين، وكان رئيس الفرقة من أبناء دارفور واسمه كنجاري، بينما كان البقية من مختلف القبائل مثل النوبا والدينكا والشلك وغيرهم.
وقضيت خمسة سنوات بين كسلا وأماديب وسنهيت، رقيت خلالها إلى رتبة الأومباشي (العريف) وأخيرا رتبة الشاويش (الرقيب). وكانت فرقتنا الموسيقية تعزف في الاستعراضات الرسمية وفي حفلات المواطنين الخاصة.
وكانت الحكومة تقوم بجمع الضرائب من المواطنين بواسطة موظفين يرافق كل منهم جندي، وكان الجندي يرافق الموظف جامع الضرائب ويجوبان معا الأحياء من بيت لبيت. وكان يحق لكل جندي مرافق لجامع الضرائب أن يحصل على واحد في المائة مما يتم جمعه من ضرائب. وكان ذلك عملا مربحا جدا للجنود، إذ لم يكن يتلقون أي مرتبات في موسم جمع الضرائب، وكانوا يعتمدون في معيشتهم على ما يستقطعونه من ضرائب المواطنين. ولم يكن يسمح للجنود بالتقاعد، فكان مفروضا عليهم مواصلة العمل حتى يقع الواحد منهم (مريضا أو معاقا أو ميتا)، وعند الإصابة بمرض أو إعاقة تمنعهم من العمل الشاق يعطون عملا "خفيفا" مثل الاهتمام بحدائق منازل كبار الضباط. ولا يوجد في قاموس الجيش آنذاك شيء اسمه "إجازة".
وكانت إدارة البلاد عسكرية بالكامل. فالضباط هم من يتولون القضاء وتنفيذ العقوبات. وكان الشيوخ المحليون (وبعضهم سودانيين وبعضهم أحباش) يرفعون القضايا للضابط المسئول للفصل فيها. غير أنك قد تجد في بعض المناطق المستقرة بعض الموظفين الحكوميين المدنيين.
وفي سنواتنا تلك خضنا عددا من المعارك مع السكان المحليين مثل قبيلة الماريا (الحمرة والزرقة) والذين كانوا يسكنون في المنطقة بين أسمرا وسنهيت على ضفتي خور يسمى بركة، وهو يجري من كويفت حتى سنهيت. وكان هؤلاء الناس يرفضون دفع الضرائب، وعندها نذهب إليهم لنأخذ منهم الضرائب المفروضة على مواشيهم بالقوة، ولكن إن قاومونا نستخدم معهم السلاح، وكانت قوة نيراننا هي المنتصرة دوما. وبعد عام من تلك الهجمات انصاعوا لنا وصاروا يجلبون بأنفسهم لنا في أسمرا ما هو مفروض عليهم من ضرائب. وشاركت كذلك في حملة ضد قبيلة كشتان (Kushtan) التي كانت تسكن بالقرب من عدوا لامتناعهم عن دفع الضرائب المقررة، ولمهاجمتهم غدرا جنود حملة سيرها إليهم علاء الدين باشا والأمير حسن وهم نيام، وقتلوا أكثر من نصفهم، بينما أنسحب الباقون لسنهيت. وللانتقام منهم أرسلت حملة مكونة من 32000 جندي من مصر تحت قيادة الأمير حسن (ابن إسماعيل باشا) إضافة لأربعة ألف جندي كانوا أصلا في أرتيريا. وكانت الكتيبة الثانية (والتي كنت أحد جنودها) من ضمن هؤلاء. وسار جيشنا عبر الحدود الحبشية إلى مركز قيادة الكتيبة الأولى في "مدن" (جبل ود مدن Jebel Wad Medin) حيث صار عدد أفراد جيشنا 32 الفا. وحاول قائد جيش الأحباش التفاوض مع قائد الجيش المصري بقيادة الأمير حسن، إلا أن المفاوضات بينهما لم تكلل بالنجاح، فبدأت الحرب بين الجيشين باقتحام جنود الأحباش وهم على ظهور البغال للزرائب التي كان جيشنا كان قد أقامها. ولكننا واجهناهم بقوة نيران ضخمة استمرت لساعات. وعند المساء كانت مساحات كبيرة أمام الزرائب تكتظ بتلال من جثث جنود الأحباش. وفي اليوم الثالث للقتال أمرنا بالخروج من الزرائب والتقدم للاشتباك مع العدو. فقمنا بفتح نيران بنادقنا على العدو والصديق دون تمييز، وكانت النتيجة مقتل عدد من جنود العدو، ومن رجالنا أيضا! وأصبت في تلك المعركة بضربتي سيف ورصاصة في فخذي. وكان الأحباش يستخدمون بنادق تشعل بالكبريت يطلقون منها طلقات مصنوعة من الحجارة وخشب الأبنوس. وعقب ثلاثة أيام من المعارك لم ينجح أي من الفريقين في التقدم أو هزيمة الطرف الآخر. وأخيرا اتفق الطرفان على إيقاف العدائيات. وأنسحب الجيش المصري بعد أن ترك جرحاه في رعاية الأطباء. وبالنسبة لي فقد طلب مني الأطباء أن أبقى لاستخراج رصاصة الأبنوس من فخذي إلا أنني رفضت، وبقيت الرصاصة حتى الآن في جسدي، وهي لا تؤلمني إلا عندما تمطر السماء وتزداد رطوبة الجو. ومات كثير من الجرحى الذين تركهم الجيش المصري خلفه، وكان منهم قائدنا محمد علي باشا، ودفن في أرض المعركة. ولما برئت جروحي عدت لسنهيت حيث أقامت فرقتنا الموسيقية عددا من العروض في أجزاء مختلفة من أريتريا انتهت في كسلا. وقبل وصولنا لكسلا سمعنا بظهور محمد أحمد المهدي ودعوته للناس للانضمام إليه. وفيما بعد وعقب هزيمته للجيش التركي في أبا وقدير واستعداده لحصار الأبيض أعلن أنه المهدي المنتظر، ودعا الشيوخ وزعماء القبائل لنصرته. فأرسل الأتراك كتيبة مكونة من جنود مصريين وسودانيين بقيادة محمد باشا من الشرق في مصوع دخلت السودان عن طريق كسلا. ولقيت تلك الكتيبة جنود المهدي في "أم دام" بكردفان فهزمت وقضى جنود المهدي عليها تماما. بلغتنا أنباء تلك الكارثة في سنهيت، فبدأ الناس هنا في الثورة ضد الترك. وكان الترك قد منعوا حلقات الذكر، فأحتج سكان سنهيت على ذلك فأرسلت لهم الحكومة كتيبة لإخماد ذلك التمرد غير أنها أبيدت تماما. وفي تلك الأيام وصلت كتيبة جديدة لسواكن وبعثت لسنهيت إلا أنها لقيت نفس المصير. وشب بعد ذلك تمرد في كسلا، ولكن الترك أرسلوا قوات للمدينة بقيادة راشد باشا نجحت في إخماده. ثم ترك راشد باشا عددا من جنوده في المدينة ورجع إلى مصر. عاد بعد ذلك الهدوء للمنطقة لعدة شهور. وفي تلك الأيام قتل هكس باشا في شيكان وسقطت الأبيض في قبضة المهدي، وبدأ في التحرك نحو النيل.
وفي تلك الأيام سمعنا – ونحن في كسلا- بوصول جنود بريطانيين إلى سواكن. ووصلتنا من مصر شحنات ضخمة من الأسلحة عبر ميناء سواكن، وتقرر إرسال كتيبتين من كسلا إلى الخرطوم لحراسة تلك الشحنات من الأسلحة، وكنت من ضمن أحد جنود احدى الكتيبتين. ولم نلق أي مقاومة ونحن في طريقنا للخرطوم. وعند وصولنا للمدينة بلغنا أن الخديوي كان قد أصدر أمرا بالسماح لكل عسكري (أو مدني) يرغب في الخروج من السودان بأن يفعل ويتجه صوب مصر، إذ أن القاهرة قد تخلت رسميا عن السيادة على السودان. وقمنا بتسليم الأسلحة التي أحضرناها لقائد الخرطوم، وقام غردون شخصيا بالتفتيش على كتيبتينا وسجل اسمائنا جميعا ليوصي الحكومة بمنحنا (هذه) الميدالية.
وكنت قد رأيت غردون باشا مرتين في حياتي في كسلا. كانت الأولى عندما قدم لكسلا من سواكن ، وكانت الثانية عندما أتى لكسلا وهو حاكم عام البلاد. وفي الحالتين قامت فرقتي الموسيقية بالعزف له على مدى ثلاث ليال. وترك لنا غردون باشا في زيارته الأولى شيكا بمبلغ مائتي جنيه، وفي المرة الثانية منحنا شيكا بخمسين جنيها لتقسيمها على أفراد الفرقة. وزارنا أيضا في كسلا سلاطين باشا وعزفنا له غير أنه لم يترك لنا شيئا.
وانضمت كتيبتانا القادمتان من كسلا إلى جنود حامية الخرطوم التي يحاصرها جيش الدراويش والذي كان يعسكر بعيدا على شاطئ النيل الأبيض، وعلى مقربة من الكوة. وسمعنا في تلك الأيام أن الترك والمصريين قد أخلوا مديرية دنقلا وعادوا لمصر. وكذلك فعلوا في كسلا، وكان يرافق الجنود المنسحبين السيد محمد عثمان (والد السيد علي الميرغني). غير أن الجنود في الخرطوم وبربر وسنار ظلوا في مواقعهم.
وبعد أيام من وصولنا للخرطوم أرسل غردون باشا رسولا للمهدي المتقدم نحو المدينة برسالة يقول له فيها إنه لن ينسحب من الخرطوم قبل أن تصله أوامر بذلك من مصر، فقتل المهدي حامل تلك الرسالة.
وبعد أيام وصل للخرطوم رسل من المهدي برسالة تفيد بأنه سيهاجم الخرطوم إن لم يستسلم غردون له. زاد غردون بعد ذلك الانذار الدفاعات عن المدينة فأقام أسوارا حول القصر والسوق وبعض الأبنية الأخرى، وحفر خندقا، وشيد تلا منه يمكن التحصن واطلاق الرصاص. وكانت دفاعات الخرطوم قبل ذلك ضعيفة للغاية، ولا تشبه تلك التي كنا قد أقمناها في كسلا. وتقع التحصينات التي شاركنا في اقامتها في ما يسمي الآن "ثكنات حي عباس". ولم نكن نواجه أي نقص في الذخائر. وكانت المواد الغذائية التي تقدم لنا في تلك الأيام شحيحة، ولكننا لم نتعرض للجوع، فقد كان كل جندي منا يمنح قدحين ونصف من الذرة كل خمسة عشر يوما، مع قليل من لحم البقر. وكان المتزوجون منا يعطون ما يحصلون عليه لزوجاتهم ليقمن بالطبخ، أما العزاب فكانوا يعيشون في "ميز" يقوم فيه آخرون بطبخ طعامهم. وكان الجنود قبل وصولنا للخرطوم يمنحون أوراقا عليها توقيع غردون عوضا عن الأوراق المالية المعتادة. ولكن حتى هذه الأوراق توقفت بعد وصولنا فصار الجنود لا يتلقون أي مرتبات.
وبعد ثلاثة أشهر من وصولنا الخرطوم بدأ جيش المهدي هجومه النهائي على المدينة. وحدث أول هجوم في فجر أحد الأيام ضد كتيبة مصرية كانت تعسكر في منطقة المقرن، ففر المصريون مع أول صيحة عليهم. وهاجم الأنصار أيضا جبهتنا ولكننا صمدنا وظللنا نطلق النار عليهم إلى أن صارت بنادقنا شديدة الحرارة ويصعب علينا الإمساك بها. فأندفع الأنصار عبر دفاعاتنا بأعداد ضخمة وقتلوا كل من وقف أمامهم. الحياة عزيزة ... لذا رمى كثير منا بأنفسهم وسط القتلى والجرحى وتظاهروا بالموت، بينما أندفع الدراويش نحو المدينة بأعداد مهولة. واستباح الدراويش المدينة لعدة أيام وقتلوا سكانها إلى أن أمرهم المهدي بالتوقف. وجمع الناجون من جيش الحكومة، وكنت منهم، في معسكرات خاصة بأمر من المهدي، وجمعت منا ملابسنا العسكرية وصرف لنا زي الدراويش المعروف. ونظمنا في طوابير ثلاث، أحدها لمهاجمة بربر، والآخرين لمهاجمة سنار وكسلا. وقضينا في الخرطوم ثلاثة اشهر قبل أن يبعث بنا لمهاجمة تلك المدن. وسلمنا نحن الجنود القادمين من سنهيت للأمير الحاج محمد أب قرجة لمهاجمة كسلا. ومضينا نحو تلك المدينة، ودخلناها من منطقة في الغرب بين بوابة القاش وبوابة القاضي. وكانت كسلا حينها مدينة شديدة التحصين، فهي محاطة بخندق وسور عليه مدافع منصوبة.
وكان في حراسة ذلك الجزء من السور عدد من الجنود من قبيلة .... (من شمال السودان) فقام قادتنا برشوتهم ليفتحوا لنا أبواب السور ففعلوا. وكنت مع أول الداخلين للمدينة في منتصف الليل، وتوجهنا رأسا للمديرية، فلقيت هنالك عددا من زملائي السابقين والذين كنا قد تركناهم في المدينة. وقمنا بإرسال عدد من الجنود لإيقاظ المسئولين الأتراك من نومهم وكان منهم الأميرالاي أحمد بيه أفاد ونائبه البمباشي حسن أغا. وأيقظنا أيضا كبار التجار والمقاول الإغريقي الذي كان يعمل متعهدا للجيش. وأحضروا جميعا وبقية سكان كسلا نيام، وبدأ قادتنا يفاوضونهم على الاستسلام بالحسنى. ولكن رفض جميعهم الاستسلام فقطعت رؤوسهم في الحال. وانتظرنا حتى بزغ الفجر. وعلم الناس أن جيش الدراويش في المدينة، غير أن أحدا من جنود الحكومة لم يطلق رصاصة واحدة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.