هذه الليلة غالبني النوم ، و هاجمني هاجس يؤرقني دائما ، أن هناك يد سلفت و دين مستحق لبني بلدي السودان ، ممن عايشت دماثة أخلاقهم ، و ثباتهم في الشدائد ، و غشيهم الوغى و عفهم عند المغنم . عندي إحساس دائم ، أن الوقت يسرقني ، و عندي رغبة شديدة في إنجاز عدة مشاريع أعتبرها مهمة قبل مغادرة هذه الحياة ، علّ هذه الدنيا تصبح مكاناً أفضل يستحق العيش فيه لأبنائنا من بعدنا . من هذه الأشياء الملحة ، هناك عدة تجارب وددت أن أسردها ، علها تعيدنا لمنبع ثقافتنا المتميزة . المشهد الأول . مدينة وارسو ، في نهاية الثمانينيات و بداية التسعينات ، المكان ، داخليات كلية الهندسة و الإقتصاد ، بجامعة وارسو ، أبطال هذه القصة ، مجموعة من الطلاب السودانيين ، أذكر منهم ، الصديق عوض جابر ، و الباشمهندس الشريف مختار ، و الباشمهندس سليمان (الزعيم) ... في ذلك الزمن ، كانت بولندا قد بدأت بالخروج من الاشتراكية ، متلمسة الدرب إلى الديمقراطية الليبرالية ، على الطراز الغربي ، لكن مكتسبات الاشتراكية و منحها الدراسية لطلاب العالم الثالث ، و من بينهم السودان ، لا تزال شاخصة للعيان ، و مجسدة في امتلاء داخليات الطلاب بشباب من عشرات الجنسيات حول العالم ، فتجد زملاء من فنزويلا ، و البرازيل ، و لاوس ، و كوريا الشمالية ( هذه الأخيرة سحبت طلابها بعد سقوط الاشتراكية في بولندا) ، وقد زاملنا طلاباَ من ليسوتو في جنوب افريقيا ، كما و زاملنا الطلاب السنغاليين ، الذين كنت اعتقد أنهم الأقرب مزاجيا إلى السودانيين ، في تلك الأجواء ، تشكل وعينا بالعالم من حولنا و صقلتنا تجارب التواصل العالمي مع مختلف الاجناس . في فترة العطلات السنوية ، كان الأصدقاء عوض و الشريف و سليمان ، يمضون إلى محطة القطارات الرئيسية في وارسو لعلمهم أن الكثير من طلاب روسيا السودانيين كانوا يعبرون عبر تلك المحطة إلى بلدان أخرى ، مثل المانيا الشرقية ، أو برلين الغربية ، و بعضهم تتقطع بهم السبل ، فكانوا كثيرا ما يصادفون شبابا سودانيين ، و يقوموا باستضافتهم في داخلياتهم ، و يكرمون وفادتهم في سكنهم الجامعي لعدة أيام ، يواصل بعدها المسافرون رحلاتهم ذهابا أو إيابا إلى دول المعسكر الاشتراكي ، أو أية وجهات أخرى ، كانت هذه الاستضافات تتم بصورة عفوية ، و بصورة عجيبة من الود و الثقة ، حيث كان هؤلاء الأصدقاء يتندرون ، الليلة نمشي ( نجكس ) لينا سودانيين من المحطة ، و نتجت عن تلك الإستضافات ، صداقات و علاقات متعددة و عميقة . المشهد الثاني مدينة خروننقن ، في الشمال الهولندي في العام 2000 . حيث تعرفت هناك على الأخ العزيز ، أحمد عبد الوهاب عبد الكريم ، و برغم فرق السن بيننا و الذي يقارب العشرين عاما ، فقد نشأت بيننا صداقة متينة خلال السنوات الست التي قضيتها في تلك المدينة الرائعة ، الأستاذ أحمد من أبناء حي الركابية في أمدرمان ، و إن كان قد غادرها مع والده مبكرا ، مستقرا في مدينة كوستي ، و كان من أصحاب الأعمال التجارية و الزراعية فيها ، الأستاذ أحمد ، رجل سوداني أصيل ، وهبه الله محبة البشر له ، و العمل من أجل إراحة الآخرين ، أناخت حكومة الإنقاذ الوطني بكلكلها على كاهله ، فآثر مغادرة الوطن ملتمسا كرامة إنسانية في بلدان طالما نعتها المتأسلمون الجدد بالكفر، و هي أقرب الى روح الإسلام في الممارسة ، و حماية حقوق الإنسان من تأسلمهم القشري ، المتمثل في إطلاق الذقون ، و نهب المال العام ، و تعدد الزوجات ، و الفتك بعباد الله المعارضين لسياساتهم الخرقاء باسم الدين . على رغم كرم هولندا الحاتمي للمستجير بها آنذاك ، إلا أن كرمها إستعصم بالبعد عن منال الأستاذ احمد عبد الكريم ، و ما زادته تلك الضغوط التي إمتدت عشر سنوات حسوما ، إلا لمعانا و تألقاً ، لنقاء معدنه ، وصفاء سريرته ، و سعيه بالخير بين الناس ، أذكر أن بعض شباب تلك المدينة ، كانوا يمرون بظروف قاسية ، سواء مادية كانت ، أو نفسيه ، فيكون الأستاذ أحمد هو ملجأهم الوحيد ، و رغم ضيق ذات العيش ، يستقبلك هاشا باشا رغم الظروف ، و أذكر العديد منهم ممن أقاموا معه في منزله المتواضع حينها لأسابيع ، أو شهور ، بأسباب قد تعود لتهورهم أو نزقهم ، فكان يستقبلهم برحابة نفس ، و هو أحوج إلى من يقف معه ، أو أن يؤازره في تلك الأيام القاسية !! وكنت كل ما أجلس معه حينها أذكر معاني تلك الآية الكريمة ، كما في صدر هذا المقال . فقد كان الاستاذ أحمد ، تجسيدا حيا يمشي بين الناس لتلك المعاني السامية . في 23 مايو 2013 ، قادتني هجرتي المزمنة إلى قطر ، و بينما أنا أتابع مسؤوليات تسجيل ابنتي بسمة و هناء في إحدى المدارس ، و بعد أن أكملت بعض الإجراءات في شارع أحد ، و هو شارع فرعي من شارع اللقطة ، قررت بسذاجة أن أخرج و أسير بالطفلتين ، و كانتا في عمر خمسة و أربعة سنوات حينها ، من المدرسة إلى الشارع ، كي استقل سيارة تاكسي إلى المنزل ، و حسب معرفتي البسيطة بالمكان ، فقد لمحت سوق العلي على بعد مئات الأمتار، و بجانبي كان هناك شارعا كبيرا مليئا بالسيارات ، ذلك القرار كان خطأً فادحاً !! الساعة كانت الحادية عشرة ظهراّ ، و الحرارة تجاوزت الأربعين درجة ! ميمما وجهي شطر سوق العلي ، إكتشفت فجأة ، أن الشارع الذي كنت أسير فيه ينتهي عند جسر لا يوجد فيه معبر للمشاة ، و أن الشارع المليء بالسيارات ، هو شارع محمي بأسوار حديدية لأنه شارع سريع ، و أنا كنت أسير خلف تلك الأسوار في شارع مواز فرعي ، لا تصله سيارات الأجرة لا من أمامه أو من خلفه ، و صرت أسير مع بنيتي في شريحة ضيقة من ظل المنازل ، تتناقص جدا ، لأن الشمس كانت في تعامد كلي في كبد السماء .. و بينما أنا في مرحلة اللا عودة و اللا مسير ، و مع تزايد تذمر الطفلتين و هما تسيران على قدميهما في هذا الحر الخانق ، و ما من شخص يرأف علينا في هذا الظرف المأساوي ، إذ بي من على البعد ، أشاهد سيارة مسرعة توقفت فجأة بصورة غير متوقعة في نصف الشارع الفرعي ، و جاهد سائقها أن يرجع بها إلى الخلف إلى طرف الشارع الأيمن كي يوقفها في مكان آمن ، قبل أن تداهمه سيارة أخرى . طالعتني تلك السحنة التي لا يمكن أن تخطيء ملامحها ، بالحيل سوداني ، و بصوت ودود لكنه متوتر لحد ما ، قال ، أركبوا الحرّ.. كنت أقف في الرصيف في محاذاة الشباك الأيمن للسيارة ، في المقعد الأمامي بجانب السائق ، كانت تجلس سيدة محجبة ، وفي الكرسي الخلفي لمحت بطرف عيني طفلا صغيراً ، و شابا في مقتبل العمر ، تمتمت ممتنا شكراً .. و فتحت الباب الخلفي و دلفت إلى السيارة مع إبنتي ، حيث تعانقنا مع هواء مكيف السيارة و لسان حالنا يلهج لقد نجونا ... فجأة ! انطلق الرجل بسيارته بسرعة كبيرة ، و بينما أنا اتحدث مع الشاب الجالس في الكرسي الخلفي مع الطفل ، لاحظت أنه يمسك رأسه بانزعاج واضح ، و لفت نظري على الفور ، انتفاخ و خدوش على رأس الطفل ، ففهمت فورا توتر الرجل الذي تبين انه والد الطفل ، تحدث الرجل معتذرا ، "معليش يا أستاذ .. لكن الشافع ده وقع من فوق الدولاب قبل شوية ، و رأسه اتعوق و نحنا مودينه الطوارئ ..". حينها أسقط في يدي !!؟ هذا الرجل يحمل طفله في حالة طارئة ، منطلقا إلى المستشفى ، لكنه يأبى أن يخلف طفلتين غريبتين عنه في هذا الحر الخانق ، و مرة أخرى تذكرت معاني الآية الكريمة في صدر هذا المقال ، و بينما كانت إطارات السيارة تنهب الطريق ، كنت بصورة تلقائية أفحص الطفل ، و نظرت إلى بؤبؤ العينين ، فوجدته طبيعياً ، و عند تغطية العين بيدي ، وجدت البوبؤ يضيق تلقائيا مع الضوء ، و سألت الرجل إن كان الطفل قد تقيأ بعد سقوطه ؟ و عندما أجاب بالنفي ، أخبرت والد الطفل أن يقود السيارة بهدوء ، و إنني طبيب ، و بعد فحص مبدئي ، أن الطفل بخير ، و من الأفضل أن يوصله المستشفى آمنا ، بدلا من أن يتسبب في حادث .. حينها تنفس الرجل الصعداء ، و أبطاء من سرعة السيارة ، و نطقت أمه التي لم تتكلم منذ أن دخلنا السيارة متمتمة ؛ الحمد لله . وصلنا قسم طواريء الأطفال بمستشفى حمد العام بعد عشرة دقائق ، و بينما ترجل الرجل و زوجته من السيارة ، مصطحبا الطفل ، أصر الرجل أن أخاه سيوصلنا بالسيارة إلى وجهتنا ، و تبادلنا أرقام التلفونات ، وقد أوصلنا الشاب الخلوق مشكورا إلى باب منزلنا ، و رفض الدخول لأنه يجب ان يعود مسرعا إلى المستشفى ، كي يقف بجانب أخيه و ابن أخيه في تلك المحنة . بعد عدة ساعات ، إتصلت على الأب ، و علمت أن الطفل قد تمت مراقبته في المستشفى لفترة قصيرة ، و بعد الفحوصات ، تبين أنه سليم ، و ان الورم في جبينه ورم خارجي ، و لم يتأثر دماغه مطلقا ، و خرج متعافياً إلى المنزل . المواقف أعلاها ، هي جزء بسيط من الكثير، قامات عالية من الإنسانية في بلدنا السودان ، و قد ذكرتها في هذا الموضوع ليس من باب التفاخر الأجوف ، بل جزءا من العرفان بالجميل لشعب عملاق ، يحمل الكثير من أصائل الطباع ، لكنه مبتلى بنخبة قصيرة النظر ، سامته سوء العذاب في الدنيا ، مع أن الله حباه بأرض معطاءة ، و كريمة ، و بأنهار جارية ، و طبيعة رائعة . لكن من الأهمية بمكان أن يستبين السودانيون الفرق الشاسع بين طبائعهم السمحة و سوء سلوك أولي الأمر منهم، و أن لا يسمحوا باستغلالهم من باب التدين الكاذب أو الولاءات الطائفية أو الأيديولوجية التي اثبتت فشلها عبر التجارب العملية منذ الاستقلال و إلى الآن، عزاؤنا أنه رغماً عن عنت الأيام ، و جور الزمن ، أن ليل بلادنا البهيم قد قارب على الإنجلاء ، و أن صباحها سيكون أكثر إشراقا من ظلام ليلها البهيم ، في اتساق كامل مع معدن إنسانها النقي . أمجد إبراهيم سلمان [email protected] Whatsapp 0097433199921 8-09-2016