رحيلٌ صامت..هادئ.. وسريع لقد إختارت نغم أن تعيش وأن ترحل بذات الطريقة.. في صمت وفي هدوء..فلطالما كانت قليلة الكلام والضوضاء وكثيرة العمل والحركة ولكن في صمت كذلك.. نحن الذين كُنا نأتي دواماً للزيارة كانت فقط تأتينا للسلام وتجلس هُنيهةً ثم تنصرف لواذاً دون أن يلحظ إنصرافها أحد.. وعندما كنتُ أتصل بالتلفون -قبل عصر الجوال- وكان وقتذاك يجيب علي التلفون أيُّ شخصٍ متواجدٍ إلي جواره لا أذكر أنها أجابت علي التلفون إلاّ مرةً واحدة وسألتني: كيف عاملين مع البلد ديك يا بشير؟ ثم أعطت سماعة الهاتف لغيرِها ربما دون أن تستمع لإجابتي.. هل كانت دائماً تحاول أن تُعطي الفرصة لغيرها؟!...أو هل كانت تحاول أن تؤثِر الآخرين علي نفسها؟!.أم هل كانت تعلم يقيناً أن السكوتَ من ذهب؟!..هذا غالباً ما يرجَّح في سلوك الناس الذين يؤثرون الصمت..فهم لا يشتكون حتي لا يزعجوا الغير بشكواهم..وهم لا يتألمون حتي لا يكون ألمُهم سبباً في ألم الآخرين ثم هم يلوذون بالصمت خوف ألا يضايق كلامُهم أحداً..ولقد كانت نغم تفعلُ ذلك كلَّه !! لم يكُن ورم المرئ لديها وليدَ شهرٍ أو شهرين أو ثلاثة..ولأنه في كل مراحله لا يسبب إلا صعوبةً في البلع فقط ولهذا فلم يكن هذا العَرَض مما يمكن أن تشكو منه نغم ولو إستمر لسنوات !! صعوبةٌ في البلع؟ حسنٌ فلتبلع علي مهل وحسب..وهكذا ظل الورم ينمو بلؤمٍ شديد طوال أعوام دون أن يلحظه أحد ودون أن تشكو هي من عرض صعوبة البلع المتدرج.. غالباً أنها ظلت تبلع بصعوبة متزايدة ولكنها لا تشكو.. وهذه هي طبيعتها.. وربما لو كان هذا الورم لدي شخصٍ آخر كثير الشكوي والتذمّر لأمكن إكتشافه في وقتٍ أبكر مما أُكتشف لدي نغم !!* عندما إطلعتُ علي تقرير عينة الأنسجة الذي أرسله لي أخي عبد القادر لم يسعني إلاّ أن أقول لا حول ولا قوة إلا بالله..وفوراً أرسلته إلي أخي د.غانم وكان تعليقه بكلمةٍ واحدة gloomy وهي كلمةٌ إنجليزية معناها شديد السواد.. ثم لاذ بالصمت!! فطولُ المرئ كله يتراوح بين الأربعين والخمس وأربعين سنتيمتراً وكان الورم قد غطي حوالي الثلاثين سنتيمتراً منه وأغلق المجري تماماً في هذا الجزء المتورّم من المرئ..ثم إن الورم وبعدما أكمل مرحلة التسلل الهادئ اللئيم طوال سنوات بدأ الآن المرحلة الشرسة الفتاكة بكل أسف.. ومثلما لم يكن الأطباء في مصر متفائلين نسبةً للمرحلة المتقدمة التي بلغها المرض فإن كلّ المستشفيات هنا والتي حوّلنا إليها التقارير لم تكن متفائلةً كذلك..وتحدثتُ إلي أخي عبد القادر وشرحتُ له بعضاً من جوانب الصورة القاتمة ولم أستطع أن أقولَ له كل ما أعلمه..ولكني قلتُ له أن ثمة أمل..وهو أملٌ عندنا عليه دليلٌ وبرهان.. وهو التداوي بالأعشاب..فنحن علي معرفةٍ تامة ولصيقة بمن إستخدمها وما يزال يعيش بين ظهرانينا وقد كان يعاني ذات الورم..ورم المرئ..وقلتُ له أنني كعشّاب لا أشك في نجاعة هذا العلاج ولن نخسر شيئاً بتجريبه..وقد كان.. غير أن نغم الحبيبة في الجانب الآخر كانت علي ما هيَ عليه.. لم تغيّر من طبيعتها شيئاً.. كانت قد إختارت ورتّبت سلفاً الطريقة التي ترحل بها..نفس الطريقة التي عاشت بها بين الناس..طريقة الصمت والهدوء وعدم إزعاج الآخرين..حتي أنها لم تُرِد أن تزعج أحداً أنها تعلم شيئاً عن مرضِها.. تركت الأعشاب والمحاليل والأدوية وراءها.. وتركت كذلك الحزن والأسي والألم ..لم تأخذ معها شيئاً سوي محبة الناس..ولم تُزعج أحداً بالوداع.. وفي هدوء شديد وفي صمتٍ حذِر ودون أن تحسّس أحداً تسلقت السلم من داخل غرفتها وصعدت إلي السماء بغير أن يشعر بها حتي من كان ينام إلي جوارِها في ذات الغرفة !! رحمها الله رحمةً واسعة وأنزلها منازل الصديقين والشهداء والصالحين وربط علي قلوب والديها وإخوانها وأحبابها برباط الصبر والتسليم..وأرجو أن يتقبّل أحبابُها جميعاً تعازيّ القلبية الصادقة.. د.بشير إدريس محمد.. أمريكا.. [email protected]