بالرغم من أن ثمة قرار قد صدر قاضياً برفع سن التقاعد الى خمسٍ وستين عاماً ميلادياً ، إلا أن المتابع يلحظ بوضوح أن الناس لم تعر هذا القرار اهتماماً كافياً ، ولم يجد القرار حظه من التداول والنقاش من أهل الرأي والاختصاص النقدي ، وكأنه قد صدر مؤقتاً للأخذ بأيدي فئات محددة وانقاذهم من عطالة معاشية قادمة ، أو لتنفيذ مهام لا يدركها الانسان العادي . من جانبها فقد تكون الحكومة قد أدركت عبر قرون استشعارها الأخطبوطية، أو ظنت خيراً عبر حدسها وفراستها الخاصة بأن العامل السوداني الحكومي ، سواء كان نظامياً أو مدنياً ، لا تصيبه الشيخوخة أو ( قرف المهنة ) أو العجز الجزئي حتى ولو تجاوز سن الستين ، ولذا قررت رفع سن التقاعد إلى هذا العمر الخريفي في كل شئ . من الناحية التاريخية فقد تدرجت سقوفات الحد الأعلى للمعاش ، منذ أن كانت خمسٍ وخمسين عاماً في بواكير التحاق الناس بالخدمة الحكومية في الربع الأخير من القرن العشرين ، ووقتها لم تعرف أجساد البشر أمراض السكري والضغط والسرطانات والغضاريف والزهايمر واستبدال الركب ، ثم نمت وأصبحت ستين عاماً ليغرق الكل في أمراض الشيخوخة ، وأخيراً أثمرت لتصل الخمسة والستين عاماً والله وحده الذي يدرك مآلات المستقبل . ومن يدري أسرار المستقبل !!؟ ، فلربما أتى على الانسان حين من الدهر ، وهو يرى بأم عينيه السلطات المختصة المستقبلية ، وهي تقرر بأن السقف الأعلى للتقاعد قد تم نزعه نهائياً ، وأن التقاعد يجب أن يكون عند بلوغ الشخص مرحلة ( الخرف الموثق ) أو يلتحق بالرفيق الأعلى أو المصيبتين معاً . هذا بلا شك مُنتج ومُبْتكر من ابتكارات ومنتوجات الأنظمة القابضة ، والمتمكنة من مفاصل الدولة وأعناقها ، والتي تؤمن بأن الموظف أو العامل الراضع من لبن التمكين ، يجب أن يكون راكباً على حصان الوظيفة من المهد إلى اللحد . بالتأكيد فإن القرار لا يصب في مصلحة جيوش الشباب ، والخريجين المنتظرين والباحثين عن الوظائف الحكومية ، والمتطلعين لخدمة البلاد والعباد ، وكما نعلم فهم مسلحون بكل مقومات الوظيفة العامة من تأهيل علمي عالي ، ومواكبة علمية مستمرة ، وشباب وفتوة وصحة وحماس ووطنية مرجحة . من الناحية الأخرى فإن التقاعد نفسه وبمعناه السامي يعتبر حقاً مكتسباً للانسان ، يجب أن يقاتل أهل الحصافة دونه لينالوا أفضاله ، وليتحرروا من قيود الوظيفة بعد كل هذه الرحلة العملية المضنية والمسؤولية العظيمة الشاقة . يا سبحان الله !! لقد كان الأمل أن يحتج المتقاعدون السرمديون الجدد على هذا القرار ، ويعترضوا عليه علناً ، بتنظيم المظاهرات وتسيير المواكب والاضراب عن الطعام ، لأنه سلبهم متعة الاستمتاع بحياتهم الجديدة ورفاهية أسرهم لبقية أيامه بجوارهم ، وللأسف رحبوا جميعاً به كمُكْتَسبٍ جديد وهللوا وكبروا ، ونحروا الذبائح وتقبلوا التهاني بمناسبته ، وهم يعلمون بأن الزمان ليس هو الزمان ، والصحة ليست على ما يرام .. . نعم ، نحن لا نريد لجيوش العطالة بأن تزيد جندياً واحداً بقرارات إحالة العاملين إلى التقاعد ، ولكن نعتقد أن سن التقاعد الجديدة فيها إهدار لقيم الوظيفة ، مع التضييق على فرص القادمين ، وأن سن الستين مناسبة ليستريح العاملون ويتفرغوا للحياة القادمة ، المكتنزة بالمسؤوليات الاجتماعية والتربوية والأخلاقية نحو أسرهم ومجتمعهم ، ولا أعتقد أن الوطن سيستفيد من عطائهم شيئاً جديداً مع احترامي لهم ولشيخوختهم المؤكدة . قد لا يصدق البعض بأننا نموت حزناً ، عندما تطرق مسامعنا أخبار إحالات زملائنا للتقاعد بمختلف الأسباب، ولو كان الأمر بيدنا لما تمنينا أن يذهب الزملاء في إجازاتهم النهائية متقاعدين ، ومبتعدين عن المهنة التي اختاروها منصة انطلاق لخدمة الوطن ، ولكن ماذا يفعل الناس مع هذه السنن الكونية الماضية ؟ والتي أساسها وأسُّها التدافع والاحلال والابدال السلس !!. نقول كل ذلك وفي أنفسنا شفقة مؤكدة على الأحوال المعيشية والصحية والنفسية الرديئة ، التي تلازم المتقاعد حتى وفاته بسبب تنصل الدولة عن واجباتها نحوه ونحو أسرته لما بعد التقاعد . [email protected]