اشكر للديبلوماسي النابه خالد موسى (ولا اقول تلميذي في الديبلوماسية كما وصف نفسه) على تعليقه في "السوداني" بتاريخ 9 أكتوبر على نقدي "لنهائيات جنيف" وحصادنا المر فيها حول حالة حقوق الإنسان في السودان. وأشكره على كلماته الرقيقة عني ووصفه لي بأنني أستاذه. وأحمد له توخيه الموضوعية في بعض ما قال ومفارقته لها أحياناً أخرى كما سيرد من بعد. قلت إن قرار مجلس حقوق الإنسان قبل أسبوعين بإبقاء السودان على البند العاشر من اللائحة لا جديد فيه أو تقدم يذكر يستحق الاحتفاء والتهليل كإنجاز للديبلوماسية السودانية إذ ظل هو حال السودان مدرجاً – تحت هذا البند العاشر منذ عام 2009 خاضعاً للرقابة والتفتيش الدوري من قبل مقرر دولي خاص تم تجديد ولايته مرة أخرى وسبقتها سبع مرات خلال السبع سنوات الماضية... فما هو الجديد الذي صنعته وأتت به ديبلوماسيتنا الراهنه؟؟ وأحسب أن ما جاء في فقرات مقالي حول الموضوع أوجزه أبو الطيب المتنبئ في بيت من شطرين أصدق تعبيراً من رائي: يُقْضى على المرء في ايام محنته حتى يَرْى حسناً ما ليس بالحسن وليس عندي ما أضيفه لمقالي سوى اتفاقي معك يا خالد موسى في وصفك لعمل مجلس حقوق الإنسان بجنيف بأن ظاهره حقوقي وباطنه سياسي ... نعم هذا صحيح ولكن الصحيح أيضاً بل الأصح أن الاتهام بانتهاك السودان لحقوق الإنسان لا يخلو من حقائق ووقائع تمشي على الأرض وتسعى بين الناس ولا يجدي أو يفيد الإنكار وتعليق الأسباب على شماعة المؤامرة والاستهداف فالقول إن القوى الكبرى في العالم تسعى لإدانة السودان وحده وعزله عن بقية العالم لا يقوى ولا يستقيم في ظل هذه الحقائق الماثلة أمام الشعب السوداني قبل العالم... إنه فقط منهج إنكاري تبريري وخطاب سياسي متهافت درجت عليه كل الأنظمة الشمولية في عالمنا المعاصر والسودان ليس استثناءً . ولئن اختار الديبلوماسي خالد موسى عدم التركيز في تعقيبه على ما كتبت عن "الحصاد المر" في جنيف فحسناً فعل بالاستطراد وربما الإسهاب في سيرتي السياسية والديبلوماسية ضمن حديثه عن علاقة المثقف بالسلطة... كان ذلك المثقف سياسياً وزيراً أو ديبلوماسياً سفيراً وهذا موضوع قديم متجدد عن هذه العلاقة الملتبسة وليس لدي من دلو أدلو به في البئر العميق، وكل ما عندي تعليق على ما جاء عني في مقال خالد استند فيه على كتابي:" حياة في السياسة والديبلوماسية" المنشور عام 2013. قال خالد في إشارة لشخصي المستضعف في حديثه: إان العمل تحت مظلة نظامين متهمين بالديكتاتورية (مايو والإنقاذ) ... يتطلب من المثقف وهو يجدد أفكاره نحو الانفتاح والحرية والديمقراطية وتجاوز الإرث السياسي السابق والكفران بالماضي (هكذا!) أن يقدم جرد حساب سياسي وفكري لخطأ التقديرات السياسية السابقة وجدوى المراجعات الراهنة وخارطة طريق للمستقبل..." وأضاف خالد:" لم أجد في كتاب البرفيسور حسن عابدين ما يشفي غليل الباحث عن اختياره للحزب الواحد في مايو، الاتحاد الاشتراكي، وتحالف قوى الشعب العاملة أداة للتنمية والتغيير ومنبراً للوعي والتبصير..." (وبالمناسبة يا خالد هل وجدت مثل هذا في تنظيم سياسي آخر معاصر في يومنا هذا؟ ) وابدأ الإجابة على سؤالك بسؤال مني: لمن أقدم كشف حسابي السياسي هذا؟ ومن يستتيبني من الكفران بالماضي (وهذا تعبيرك) ويمنحني صك الغفران؟ * عجبت لقولك أيها السفير النابه والكاتب المدقق أن ما عثرت عليه في كتابي "السياسة والديبلوماسية" مجرد وصف مبهم للديبلوماسية الرسالية ومصطلح الديبلوماسي الرسالي . مصدر تعجبي أن بالكتاب فصلاً كاملاً من ما يربو على 4,800 ألف كلمة في نحو عشرين صفحة (الصفحات 172-192) بعنوان: ( الديبلوماسية الرسالية...ومنها ما قتل ) استهللت الفصل ببعض التعريفات المتواترة للديبلوماسية الكلاسيكية المتعارف عليها منذ قرون والممارسة اليوم. ثم أشرت إلى دراسة الاخ الصديق الدكتور عون الشريف قاسم رحمة الله عليه عن الديبلوماسية الرسالية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه ( ديبلوماسية محمد ) ثم استطردت بالحديث عن ديبلوماسية الدولة المهدية وبإشارة خاصة لرسالة الخليفة عبد الله للملكة فكتوريا وفحواها دعوتها للدخول في الاسلام ، ثم تحدثت عن ديبلوماسية "المشروع الحضاري" الذي جاءت به ثورة الانقاذ وعراب هذه الديبلوماسية الرسالية الدكتور حسن عبد الله الترابي رحمة الله عليه ومن بعد سردت تجربة هذه الديبلوماسية – او بالأحرى تجريبها في الجزائر حيث انتدبت سفيراً فيها وشاهداً على علاقات الجبهة الاسلامية القومية مع الجبهة الاسلامية للإنقاذ الجزائرية وفي إطار الأممية الإسلامية التي ابتدعها وقام عليها الدكتور الترابي مؤسس المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي. لقد أمسكت عن ذكر كثير من التفاصيل حول هذه الديبلوماسية الرسالية في الكتاب وعدم الجهر بآرائي الشخصية وملاحظاتي ونصحي الذي لم يستبان ولأسباب تعلمها أنت تتعلق بسرية التقارير الرسمية وبالمصالح العليا للبلاد وبما يسمى أمانات المجالس هذا فضلاً عن الأعراف والتقاليد الديبلوماسية "واخلاقيات المهنة". وكدتَ تستدرجني في جانب من مقالك للدفاع عن نفسي باعتباري متهماً بمولاة نظامين شموليين: مايو والانقاذ ولكني اقول يا مولانا القاضي الديبلوماسي: انا غير مذنب (I am not guilty) ولكني لن أدافع عن نفسي أمام محكمتك! وإنما أبدي الآن رأي في قضية عامة شغلت المجتمع السياسي والثقافي السوداني لسنوات طويلة بعيدة وحتى اليوم وهي علاقة المثقف بالسلطة وهي القضية التي سبر أغوارها بالكتابة المتعمقة كثيرون من الجيلين السودانيين المتعاقبين وبعض الأعلام المعاصرين ممن ذكرت أنت كالدكتور منصور خالد وأذكر انا الدكتور عبد الله علي إبراهيم وصديقي الدكتور إسماعيل حاج موسى في كتابه (المثقف والسلطة) الخ.. بل إن الشعر السياسي تناول هذا الموضوع ومنه رائعة نزار قباني "السيرة الذاتية لسياف عربي." طال هؤلاء المثقفين الاتهام بموالاة النظم الشمولية طمعاً في المال والجاه والوجاهة والشهرة ...مجرد انتهازيين.. يغسلون أيديهم من النظام كما وصفتهم أنت متى ما توقفت الدنانير.. وهذه كلماتك ! إلا انك لو عدت لقراءة كتابي الذي اتخذته شاهداً عليَّ بمنهج الاستدلال بالحذف أو راجعت بضع مقالات لي بعنوان الجمهورية الثانية نشرت عام 2011 وورقة أخرى اسميتها "البراءة من الشمولية" وثالثة عنوانها :"ثورة مايو من الداخل " وفيها نقد موضوعي لمسار الثورة وأنا جزء منها آنذاك عام 1980 ثم مقال آخر منشور نفس العام بعنوان "ثورة داخل الثورة" وكل هذه المقالات لم تخلو من نقد ذاتي بلا مواربة او تبرير.. فكتبت ذات العام ما يلي "خرجنا على مايو ومنها بعد نحو ثمان سنوات من التأييد والمشاركة بروح ملؤها المسؤولية والقناعة وربما التجرد والنزاهة لا نادمين على قول أو فعل يشين ولا معتذرين عن خطيئة أو ذنب في حق آخرين... كنت في رحاب مايو أبن عصري وأسير شعارات زماني راقت لنا في ربيع أعمارنا، براقة تخلب الألباب: الاشتراكية، الوحدة العربية، الوحدة الأفريقية، تحالف قوى الشعب العاملة...والوحدة الوطنية.. لا للطائفية والتوريث. ولا للرأسمالية ولا للشيوعية ولا للإلحاد." .. وقلت في صفحة 137: "الأنظمة الشمولية تلد الدكتاتور وهذا ما حدث في الثلث الأخير من عمر ثورة مايو بعد أن تحولت كل المؤسسات التشريعية والسياسية والتنفيذية بل والخارجية لمؤسسة الرجل الواحد نصفق له ونهتف باسمه وننصاع لقراراته والهاماته! قال نزار قباني عن الدكتاتور: أيها الناس.. أنا الأولُ و الأعدلْ.. والأجملُ بين جميع الحاكمين وأنا بدرُ الدُجى وبياض الياسمين.. كلما فكرتُ أن أعتزل السُلطة، ينهاني ضميري من تُرى يحكم بعدي هؤلاء الطيبين؟ .... منذ أن جئتُ إلى السلطة طفلاً لم يقل لي مستشار القصر (كلا) لم يقل لي وزرائي أبداً في الوجه (كلا) لم يقل لي سفرائي أبداً في الوجه (كلا) إنهم علموني أن أرى نفسي إلهاً وأرى الشعب من الشرفة رملاً * شهادتي على التاريخ المايوي مجروحة بالضرورة يا خالد اذ شاركت في سرائها وضرائها وفي ما أصابت وما أخطأت وفي التصفيق والهتاف لها وفي بعض الأحيان الصراخ في وجهها أو في الدعاء عليها أحياناً.. وكل هذا لا يعفيني من المسؤولية العامة ومن عبء الامانة وأوزار الممارسة وأخطائها و إن برئت ذمتي من انتهاك حق خاص أو عام أو نفع خاص اغتصبته وحزت عليه بغير حق.." أقول قولي هذا لا دفعاً لاتهام كما اسلفت ولكنه رائي في علاقة مثقف "افتراضي" بالسلطة. ختاماً فهل لي من عتاب لك يا خالد ..يا من وصفتني ب "استاذك" ووصفت نفسك بتلميذي : فقد كتبت في خاتمة مقالك ما يلي: " نؤمن أن الديبلوماسية السودانية لها قضية عادلة في حقوق الإنسان ولن تنكسر لها قناة أمام التحديات وعواتي الرياح لأنها ما تعودت أن تغسل يديها إذا ما توقف رنين الدنانير." حزنت وأسفت لما جاء في هذين السطرين الأخيرين لافترائك الكذب بالإيحاء الخبيث إنني من الغاسلين أيديهم من الديبلوماسية بعد توقف الدنانير! +++++++ حسن عابدين – سفير سابق [email protected]