حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجمعات الوطنية في السودان 1918-1924 (2) ..


التمهيد :
كان انتشار التعليم الحديث واحدا من العوامل المهمة في نمو الحركة الوطنية السودانية ، التي بدأت في مطلع العشرينات بصورة رئيسية بين طلاب وخريجي كلية غردون، ومدرسة الخرطوم الحربية اللتين أُنشئتا في 1902 و 1905 على التوالي. وقد أسهمت هذه الكليات بصورة مباشرة، في نمو الشعور الوطني لدى كثير من الشباب السوداني المنحدرين من أصول اجتماعية مختلفة، وكان بإمكانهم التفكير والعمل في شكل جماعي. وكانت الكليات أرضية للقاء ووعاء للانصهار، وقد نقلت الروابط التقليدية إلى الولاءات الجديدة .
ونتيجة لسياسة الحكومة في الجزيرة والمناطق الزراعية الأخرى، طرأ تحسن عام في اقتصاد البلاد، فارتفع المستوى المعاشي للسودانيين وبدؤوا يركزون انتباههم على تعليم أبنائهم. وعدّ ذلك تقدماً مهماً، وجاء دليلاً على ان الطوائف الدينية كانت غير معارضة للمؤسسات التعليمية. فها نحن نرى حسين شريف، محرر صحيفة الحضارة يقترح ان يسهم الشعب في السياسة التعليمية للحكومة، ممثلة في زيادة عدد المدارس، وفي تعليم عدد أكبر من الناس، وفي مساعدة الكبار والمعوقين، بتقديم مساكن خاصة لهم، وفي زيادة طبع الكتب الدينية، وتحسين أوضاع الجوامع(1). وقد اقترح في المقال نفسه لإنجاح المشروع، تشكيل لجنة يكون في عضويتها السيد علي الميرغني، والسيد عبد الرحمن المهدي، والشريف يوسف الهندي، ومفتي السودان ورئيس مجلس العلماء. وقد دعم القادة الدينيون البارزون الفكرة وانبثق عنها مشروع الصندوق الأهلي(2). وبعد سنتين من ذلك، انضم السادة الثلاثة في مشروع لجمع التبرعات لأغراض خيرية أيضا، كما أحيا رئيس مجلس العلماء مشروعه لجمع التبرعات وتأسيس معهد ديني يكون هو رئيسه(3).
ومهما يكن من أمر، فان زيادة إقبال الناس على التعليم، كان من شأنه أن يزعزع نفوذ الطرق الصوفية، التي كانت تستمد قوتها من الفكر السلفي التقليدي، الذي يفرض بواسطته تأثيره في بسطاء الناس، فقد استنارت الفئات المتعلمة وأصبحت رغبتها في تحسين مستوى المعيشة ديدنها المميز لها. ويتناول البحث أبرز الجمعيات العلنية والسرية التي أصبح لها الدور المؤثر في دفع الحركة الوطنية للأمام وكذلك أحداث سنة 1924 وموقف الطرق الصوفية منها ممثلة في مواقف زعمائها .
1- نادي الخريجين:
كان إنشاء نادي الخريجين في أم درمان في 1918 مثالاً للوعي الجماعي الجديد، وكانت تلك أول محاولة للسودانيين المتعلمين لتكوين رابطة غير سياسية في البدء، يتقاسم فيها أعضاؤها اهتمامات ثقافية واجتماعية مشتركة(4). وعندما أنشئ النادي الذي كان يمثل الجيل المتعلم الجديد، بدأ أعضاؤه في العمل بنشاط وصبر لانتزاع الزعامة من القادة الدينيين(5)، وان لم يكن باستطاعتهم تجاهل النفوذ الذي كان يمتلكه الزعماء الدينيون لدى الحكومة والثروة التي بحوزتهم والاتباع. من هنا فقد حاول النادي في البداية كسب مساندة القادة الدينيين، وعند عودة وفد السادة من لندن في 1919 ، لتقديمهم التهاني لملك بريطانيا بمناسبة الانتصار في الحرب الأوروبية، قدّم النادي دعوة إلى السادة الثلاثة، وهم السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي والشريف يوسف الهندي، لحضور حفلة استقبال في 21 آب/أغسطس 1919. استخدم النادي هذه المناسبة ليظهر نفسه للحكومة والناس على انه قطاع مهم من الجماعة، يساند سياسة الزعماء الدينيين الثلاثة، ويهدف إلى تنمية الروابط معهم(6)، من أجل تأمين مركز النادي، على الرغم من أنهم كانوا على وعي بالانقسامات العميقة فيما بينهم، والتي ستصبح جلية في السنوات التالية. ومع هذا لم تنقطع فكرة التعاون هذه على الرغم من وجود هذا الرأي، ففي 1920 أقام النادي لقاء لمناقشة كيفية العمل مع القادة الدينيين، ومحاولة لتحقيق مصالحة بين السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني، من اجل توحيد الرأي داخل النادي، الا ان المحاولة المقترحة باءت بالفشل(7) .
منذ 1920 بدأت تحّس آثار ثورة 1919 المصرية في السودان، إذ بدأ الوعي السياسي يتزايد في البلاد. ففي هذا الوقت المبكر بدأت مرحلة الكفاح الوطني في السودان تتبلور في اتجاهين رئيسين : التقليديين وأولئك الذين يكوّنون النخبة المتعلمة. كان التقليديون الذين يقودهم القادة الدينيون الثلاثة يدعون إلى بقاء الحكومة الانكليزية في السودان تحت وصاية بريطانيا لإعداد السودانيين للاستقلال. ولدعم هذا الرأي وشرحه بشكل واضح أمام الناس المتعلمين في السودان، كتب حسين شريف سلسلة من أربع مقالات خلال شهري آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر 1920 تحت عنوان القضية السودانية(8).
استدعت هذه المقالات ردا سريعا من الجماعة التي تمثل النخبة المتعلمة، التي كانت تساند المطلب المصري المتمثل في وحدة مصر والسودان. إذ جاء رد هذه الجماعة في منشورات سرية، ظهر أحدها - وهو الأكثر أهمية، كونه أول نداء سياسي يوزع في العاصمة والأقاليم - في تشرين الثاني/نوفمبر 1920 موقعا من قبل كاتب غير معروف دعا نفسه " ناصح أمين ". وقد أرسلت نسخ منه إلى القادة الدينيين، وإلى الشخصيات الأكثر أهمية في الخرطوم وأم درمان والأقاليم. وكانت أهم النقاط المطروحة فيه هي أن الحكومة كانت تحاول عامدة التفرقة بين القادة الدينيين لأجل مطامحها الخاصة. وأوضح المنشور أن صحيفة الحضارة هي صحيفة تسيطر عليها الحكومة، وهي بذلك مضطرة لدعم وجهة نظرها، على الرغم من انها مملوكة اسميا باسم السادة الثلاثة. وقد أنكر المنشور أيضا نزاع المتعلمين مع السادة الدينيين، وأوضحوا أن السادة ببساطة كانوا يستخدمون من قبل الحكومة، بسبب النفوذ الذي يمتلكونه مع أتباعهم(9). نجد هنا مرة أخرى ان المتعلمين السودانيين يحاولون رص صفوف السودانيين بدون استثناء، على الرغم من علمهم المسبق بمساعدة الزعماء الدينيين لسياسة الحكومة، الا انهم حاولوا القيام بالدور نفسه الذي تقوم به الحكومة، أي محاولة إبعاد الزعماء الدينيين عن الحكومة .
ثانيا : الجمعيات السرية :
تكونت في السودان جمعيات سرية في المدن الرئيسية، لغرض توعية الناس بأهمية مساندة المطالب المصرية، بلغ تعدادها للفترة من 1920 - 1924 ما يقارب أحد عشر تنظيما سياسيا. وهذه التنظيمات هي : جمعية اليد السوداء، جمعية الانتقام، جمعية وحدة السودان مع مصر، جمعية الهلال، جمعية الدفاع عن السودان، جمعية اتحاد القبائل، جمعية أبناء النيل، جمعية الأغاني الوطنية، وجمعية أبناء الجعليين القبلية، إضافة إلى الجمعيتين الرئيسيتين، ذاتي الأثر الفعال وهما : جمعية الاتحاد السوداني واللواء الأبيض. وللأهمية سنلقي الضوء على الجمعيتين الأخيرتين .
أ - جمعية الاتحاد السوداني:
كانت بداية نشاطات جمعية الاتحاد السوداني- التي تأسست في أم درمان في وقت مبكر من 1920 من مجموعة من طلبة كلية غردون وخريجيها هناك، اجتماعية وأدبية لكنها سرعان ما هاجمت الإدارة البريطانية ومسانديها من السودانيين
- القادة الدينيين والعلماء- في منشورات مرسلة بالبريد. كما شجعت الجمعية وساعدت بصورة سرية على عقد روابط قوية مع مصر. وكانت تنظيميا ترتكز على خلايا من خمسة أشخاص، كل خلية مستقلة عن الأخرى، وفي حالات كثيرة فان أعضاء الخلية الواحدة لم يكن يعرفهم الا الأعضاء الذين في الخلية نفسها(10). وكان عبيد حاج الأمين الذي كان رئيس الجمعية، يوجه نشاطاتها بالمنشورات السرية والكتابة إلى صحيفة الحضارة، وقد استمرت الجمعية في عملها حتى 1923 .
وبمناسبة زيارة اللورد اللنبي، المندوب السامي البريطاني في مصر، إلى السودان، بناء على أوامر حكومته في 1920، ردت جمعية الاتحاد السوداني بشكل عدائي على رد السيد علي الميرغني على خطاب اللنبي، والذي طالب فيه السيد علي الميرغني بأن يكون السودان بلدا قائما بذاته، اذ أرسل توفيق صالح جبريل، الذي كان واحدا من الأعضاء المؤسسين للجمعية، قصيدة إلى مصر انتقد فيها زيارة اللنبي(11). ولام السيد علي الميرغني والآخرين الذين تكلموا بحضرة زائرهم. وجاء رد فعل آخر للجمعية في مارس 1922 عندما كتب علي عبد اللطيف مقالا بعنوان مطالب الأمة السودانية أرسله إلى محرر صحيفة الحضارة(12)، هاجم فيه سياسة الحكومة في السودان في التعليم والقضاء والتجارة ومشروع الجزيرة، وتكلفة تعيين الأجانب كمسؤولين حكوميين. ودعا أيضا إلى أن يحكم السودان من قبل سوداني وليس بواسطة أجنبي(13). وعلى الرغم من عدم نشر المقال في الصحيفة الا أنه وصل إلى أيدي الحكومة، فألقي القبض على علي عبد اللطيف وصدر قرار بسجنه لمدة سنة واحدة، مما جعله بطلا في نظر الخريجين(14). ويبدو ان هذه الإجراءات ضد عناصر جمعية الاتحاد السوداني، وخاصة بعد سجن علي عبد اللطيف، هي التي دفعت المهتمين إلى تشكيل جمعية جديدة وباسم جديد، وربما كانت محاولة لتشتيت أنظار الحكومة عنهم .
ب- جمعية اللواء الأبيض:
أما الجمعية الثانية ذات الأثر السياسي الواضح فهي جمعية اللواء الأبيض التي تم تأسيسها في أواخر عام 1923 بزعامة علي عبد اللطيف. فقد تم تنظيمها على أسس مشابهة لجمعية الاتحاد السوداني التي حلت في الواقع محلها، وكان من أبرز أعضاء
الجمعية النشطين- فيما عدا رئيسها - عبيد حاج الأمين الذي كان موظفاً في مصلحة السجون، صالح عبد القادر، وحسن شريف، وحسن صالح المطبعجي ، وكانوا جميعهم موظفين في مصلحة البريد والبرق. وهم جميعا يؤمنون بتصعيد نشاطهم علنا ضد الحكومة، وبالدعوة إلى وحدة وادي النيل في ظل التاج المصري(15). اتخذت الجمعية شعارا لها العلم الأبيض رمزا للسلام، وفيه خريطة وادي النيل وهلال وثلاث نجوم(16). ومن الملاحظ ان شعار الجمعية هذا يظهر لنا مستوى النضج الوحدوي الذي وصل اليه أعضاؤها في ذلك الزمن المبكر من القرن العشرين.
امتازت هذه الجمعية عن سابقتها، الاتحاد السوداني، بنشاط أعضائها، اذ لم يقتصر نشاطهم على العاصمة وانما انتقل إلى الأقاليم المختلفة، وانضم اليها أيضا عدد من الضباط والجنود والطلبة السودانيين، الذين يدرسون في مصر والذين أسسوا بدورهم فروعا لها في مصر، لتكون همزة الوصل بين الجمعية في السودان والأحزاب السياسية في مصر(17).
ان ملاحظة الحكومة الانكليزية في السودان تزايد نشاط الحركة الوطنية وانكشاف أمر تنظيمات جمعية اللواء الأبيض، دفع مدير مصلحة البريد والبرق إلى أن يصدر أمرا بإجراء تنقلات إدارية لموظفيه، شملت أبرز أعضاء الجمعية، وهو ما ساعد أعضاء الجمعية على تأسيس فروع لجمعيتهم في المناطق الجديدة كما ساعد على انتشارها(18).
ان زيادة نشاط هذه الفئة من الشباب كان لابد له أن يصطدم بسياسة الحكومة المركزية، القائمة على دعم الزعامات الدينية والقبلية. حيث استمرت جمعية اللواء الأبيض في الانتشار في مناطق مختلفة من السودان، وكان لها التأثير في الناس. وقد انعكس ذلك في تقارير مخابرات الحكومة وخلق اهتماما، بسبب الدعم الذي أبدته الصحافة المصرية لجمعية اللواء(19). كما ازداد قلق الزعماء الدينيين لأن الجمعية تحدت وهددت مركزهم. والدليل على ذلك قرار السيد عبد الرحمن المهدي القيام بدعوة إلى اجتماع في بيته في أم درمان في 1923 ، ألح فيه على الأعيان المدعوين كي يعبروا عن رأيهم في تأسيس جبهة للعمل من أجل استقلال البلاد، ورفض الاعتراف بالاتفاق الثنائي لعام 1899 لأنهم ليسوا طرفا فيه. وقد أرسلت هذه المطالب إلى الحاكم العام لكنهم لم يتسلموا ردا منه(20)، ربما لأنه طلب غير مناسب في التوقيت. وعلى الرغم من عدم استلام اي رد على مطالبهم السابقة، اتخذ السيد عبد الرحمن المهدي المبادرة ثانية ضد جمعية اللواء الأبيض في حزيران/ يونية 1924، إذ دعا إلى اجتماع آخر لأعيان البلد والإلحاح عليهم للإعراب عن آرائهم من مستقبل السودان وادعاءات المصريين(21). واللافت للنظر هو غياب السيد علي الميرغني عن هذه النشاطات المعارضة لمصر حتى ان رئيس قسم المخابرات، في إحدى مذكراته قد اشار إلى مساندة السيد عبد الرحمن للحكومة مقابل قوله عن السيد علي بأنه " بقي بعيدا وساكتا ينتظر الأحداث"(22). وفي تلك الفترة استمرت صحيفة الحضارة على نشر المقالات التي تنتقد الجمعية وشعاراتها، في محاولة للحد من تأثيرها(23).
على الرغم من نفوذ الزعماء الدينيين وهيمنتهم على الساحة السياسية الا ان دور المتعلمين بدأ يأخذ طريقه في التأثير، ففي 22 آب/أغسطس 1924 عقد اجتماع للأعيان في منزل مفتي السودان، حيث تمت صياغة التماس يعكس آراء علي عبد اللطيف لتقديمه إلى الحكومة. الا ان الرأي كان منقسماً في الاجتماع، إذ تجنب أولئك المعارضون للالتماس إعلان معارضتهم لضرورة مشورة السيد علي الميرغني، الذي كان آنذاك مساندا لموقف الحكومة، فقد ذهب إلى أن تلك الاقتراحات لم يكن يريدها الناس، كما كان كاتبو الالتماس أنفسهم - كما يعترفون - لا يريدون هذه الأمور حقا، وقد ألغي الالتماس(24). ومهما يكن من أمر، فقد كتب في الصحافة المصرية آنذاك أن السيد علي عقد اجتماعا رفض فيه قرارا مواليا لمصر، وكذلك حضر اجتماعا ثانيا رفض فيه الاعتراف بالتطلعات السودانية الشرعية. ولعل مصر في صحافتها أرادت استثارة السيد علي ومعرفة نواياه. الا أن السيد نفسه يرى أن هذه الشائعات ما هي الا محاولات للحط من شأنه في نظر الحكومة والناس، واصدر رفضا علنيا نشر في صحيفة الحضارة ينكر فيه أن اجتماعا مواليا لمصر قد عقد في بيته(25).
وهكذا ففي 1924 بدأت ثلاثة تجمعات سياسية في الظهور: الجماعة التقليدية الموالية لبريطانيا، والمعتدلون الذين يساندون بريطانيا لكنهم يريدون تطورا تدريجيا نحو حكومة ذاتية واستقلالا نهائيا، والجماعة المتطرفة المعادية لبريطانيا والموالية لمصر.
ثالثاً : أحداث عام 1924 :
ان أحداث عام 1924 التي قادتها جمعية اللواء الأبيض، التي كان شبابها الواعي يراقب الأحداث في مصر الممثلة في المفاوضات المصرية –البريطانية، أو ما يسمى بمفاوضات سعد – مكدونالد، التي كان من أسباب فشلها مسألة السودان، إضافة إلى دوافع الصراع الوطني، وأهمها مشروع الجزيرة واحتكار الحكومة لبيع السكر ومسألة التوسع في التعليم. ان هذه العوامل جميعها كانت كافية لدفع الجمعية للقيام بعمل ضد الحكومة. وفي الأشهر الثلاث حزيران/يونية وتموز/يوليو وآب/سبتمبر كانت هناك زيادة مفاجئة في الاحتجاج ضد الحكومة الانكليزية في السودان، إذ نظمت المظاهرات في العاصمة والمدن الرئيسية، مثل بورت سودان والجزيرة وشندى والأبيض وعطبره والفاشر(26). وكرد فعل للحكومة اتخذت خطوات لقمع نشاط الجمعية وذلك عن طريق إلقاء القبض على رئيسها وإيداعه السجن. إلى جانب قيام الحكومة بإصدار بيان للأهالي توضح فيه استمرار سياستها في تدريب السودانيين تدريجيا ليتمكنوا من إدارة شؤونهم الداخلية وكذلك إقامة مجالس استشارية وإدارية(27).
وعلى الرغم من هذا، كان إجراء اعتقال علي عبد اللطيف قد استفز طلاب المدرسة الحربية وفوج السكك الحديدية المصري في شهر آب/سبتمبر، فكان استمرار المظاهرات دليلا واضحا على دقة تنظيم جمعية اللواء الأبيض. وهي مظاهرات حظيت بتعاطف واسع داخل البلاد(28).
وبعد اغتيال السير لي ستاك، حاكم عام السودان وسردار الجيش المصري، في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1924، وإصدار اللنبي إنذارا لحكومة سعد زغلول الذي نتج عنه انسحاب الجيش المصري من السودان في الأول من كانون الثاني/يناير 1925. أدركت جمعية اللواء الأبيض أن حظها من النجاح قليل، ما لم تكسب مساندة الزعماء الدينيين، فاستعرض قادة اللواء الأبيض أسماء السادة الثلاثة السيد عبد الرحمن، والشريف يوسف، والسيد علي، فاستقر رأيهم في شهر حزيران/يونية على أن أقلهم تعاطفا مع الحكومة هو السيد علي، بسبب خلافه مع الحكومة حول بعض أراضيه. على أية حال، فأن السيد علي لم يكن هو الآخر مستعدا لإعطاء الجمعية دعمه في وقت كانت المفاوضات مستمرة فيه بين مصر وبريطانيا، إذ كتب في الشهر نفسه هو والشريف يوسف إلى الحاكم العام مقدمين دعمهما الكامل للحكومة القائمة(29).
ومما يدل على قلق الحكومة تجاه سياستها الاقتصادية الداخلية واستخدام أعوانها من الزعماء الدينيين، ومدى تأثير المتعلمين الذي اتضح أكثر، مما جعل البريطانيين يلجئون إلى اتخاذ خطوات لشرح سياستهم في احتكار بيع السكر ومشروع الجزيرة، الذي ما تزال تساور الناس الظنون بشأنه، والتحدث إلى الزعماء الدينيين قبل وضع الميزانية لتلك السنة(30). وفي لقاء مع
مايكل، السكرتير الإداري، أعرب السيد علي عن قلقه من أن سياسة الحكومة قد تستخدم من قبل المحرضين السياسيين الذين يستفيدون من الانتقادات الموجهة إلى احتكار السكر والضرائب ، فكان رد مايكل هو أن الحكومة يجب أن تشرح سياستها بصورة واضحة وألا تستغل السيد علي والسيد عبد الرحمن ليفعلوا ذلك، مما يجعل الزعيمين يفقدان شعبيتهما(31). يبدو أن رأي السيد علي قد جاء مطابقا لرأي مدير قسم المخابرات عندما علق في أحد تقاريره قائلا : " ان أفضل أصدقاء الحكومة هم دافعو الضرائب وأسوأ أعدائها هم أولئك الذين يتسلمون الأجور منها أي مسؤولو الحكومة والضباط السودانيون في الجيش المصري "(32) .
على أية حال ، نتج عن فشل الجمعية في كسب دعم أي من السادة الثلاثة محاكمة ساخرة في أيلول/سبتمبر 1924، عقدت في سجن الخرطوم، حيث كان يعتقل علي عبد اللطيف ومعظم السجناء السياسيين. وقد حاكموا السيد علي وحكموا عليه بالسجن لمدة 20 سنة ونفيه إلى مكة عند إطلاق سراحه. كما حوكم الزعماء الدينيون الآخرون بطريقة مشابهة وحكم عليهم أيضا(33). وطبقا لتقرير القاضي بشأن نشاطات هؤلاء السجناء السياسيين فأنهم كانوا يخططون أيضا للحط من قدر الزعماء الدينيين في نظر الحكومة ، بتوريطهم في المسؤولية عن المظاهرات التي حدثت(34) .
على أية حال ، لم يكتف البريطانيون بمطاردة المتعلمين وزجهم في السجون وانما تعدى ذلك إلى اتخاذ عدة إجراءات؛ ففي مجال التعليم تم إغلاق مدرسة العرفاء التي كانت تؤهل معلمي المدارس الأولية، وخفض عدد التلاميذ الذين كانوا يقبلون سنويا في كلية غردون، اضافة إلى عدم السماح بفتح مدارس جديدة في البلاد. بل والأنكى من ذلك تم سحب المقاعد الدراسية للطلبة وجعلهم يجلسون على الأرض واستخدام الطلبة في أعمال تنظيف سكنهم الحكومي في محاولة لإذلالهم(35). وكذلك تم تحريم قراءة الصحف المصرية وعدّ ذلك جريمة يعاقب عليها القانون. أما ما يخص المتخرجين العاملين في وظائف الدولة فقد حرم عليهم ممارسة الكتابة إلى الصحف، سواء في مسائل السياسة أو في الأمور العامة بدون إذن مسبق من الحكومة .
الخلاصة:
مع جرأة الشباب المبكرة آنذاك فإن الجمعيات السرية واللواء الأبيض لم تستطع تطوير نفسها إلى حركة شعبية واسعة. ولعل السبب الرئيسي يعود إلى ان البريطانيين استطاعوا جذب الزعماء الدينيين الذين كان لهم النفوذ الروحي والسياسي الكبير في البلاد، فضلا إلى سياسة الحكومة في كسب شيوخ القبائل، أصحاب النفوذ في الأقاليم للسيطرة على أتباعهم، نتيجة لتركيبة المجتمع السوداني آنذاك. فقد وقفت هاتان الفئتان علنا ضد الجمعيات الوطنية. يضاف إلى هذا كله، عدم تمكن الحركة الوطنية المصرية من القيام بالدور المطلوب آنذاك، وذلك لرضوخ مصر للسيطرة البريطانية على الرغم من إعلان استقلالها منذ 1922 .
لقد أطفأت جذوة النضال الوطني لحركة 1924 نتيجة لشراسة البريطانيين، الا ان الذي لا يمكن إنكاره هو أن الحركة كانت ذات أثر كبير في بلورة الصراع الوطني في فترة الأربعينات .
++++++++
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.