الانتخابات الامريكية تتم في عالم ثان كأنه خارج كوكب الارض, تتم في مجتمع يعشق السوبرمان و المشاهير و نجوم السينما الهوليوودية و التلفزيون مثل الرئيس الاسبق دونالد ريجان, ولو ولد أرنولد شوازينجر في أمريكا لصار رئيسا لها و لكنه مهاجر نمساوي فاكتفي بحاكم كاليفورنيا. عرف الشعب الامريكي دونالد ترامب كرجل أعمال ناجح و نجما شهيرا علي برامج تلفزيون الواقع و قد نسبت جريدة الناس في 1998 لترامب قوله: اذا كنت سأترشح للرئاسة فسأترشح كجمهوري,هم أغبي الناخبين في البلاد و يصدقون أي شئ يرد علي قناة فوكس الاخبارية,بإمكاني أن أكذب عليهم و سيبلعون أكاذيبي كلها, أراهن علي أن الناس سيندهشون من رصيدي في الانتخابات. "If I were to run, I'd run as a Republican. They're the dumbest group of voters in the country. They believe anything on Fox News. I could lie and they'd still eat it up. I bet my numbers would be terrific." People magazine, 1998 هذا كان الوعد الوحيد الصادق الذي قدمه نجم تلفزيون الواقع الشهير قبل ترشحه ب 18 عاما فقد كذب في كل وعوده الانتخابية التي دغدغت أذهان الناخبين الامريكان و عزفت علي أوتار مخاوفهم و رغباتهم الدفينة. قدّم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بعض الوعود الغريبة والمثيرة للجدل خلال حملة الانتخابات الرئاسية، لكنه تراجع عن كثير منها أو لمّح إلى ذلك، قبل أن يتسلّم زمام الأمور بشكل رسمي في البيت الأبيض. ومن بين الوعود التي تعهّد بها ترامب:- إلغاء برنامج التغطية أو الرعاية الصحية (استنكر ترامب خلال حملته الانتخابية سياسة باراك أوباما في الرعاية الصحية، حيث وعد بإلغاء برنامج "أوباما كير" والتخلي عنه وقال "سوف نفعل ذلك بسرعة كبيرة.. إنها كارثة". وبعد فوزه بالانتخابات، كشف ترامب أنه سيقوم فقط بإصلاح البرنامج، مع الحفاظ على بعض عناصره) سجن هيلاري كلينتون (قال ترامب لأنصاره إنه سيكلّف النائب العام بمتابعة التهم الجنائية ضد منافسته الديمقراطية بخصوص البريد الإلكتروني، مضيفا أنه يريدها أن "تكون في السجن". وفي رده على سؤال حول الخطة بعد فوزه، قال "إنها ليست شيئا.. لقد أعطيناها أكثر مما تستحق") جدار المكسيك (أعلن الجمهوري ترامب أنه سيبني جدارا مع المكسيك، بعدما كشف أن عددا من القادمين من الحدود المكسيكية يجلبون المخدرات ويقومون بجرائم كثيرة. وشكك رئيس مجلس النواب السابق نيوت غينغريتش، وهو مستشار ترامب، في هذه الخطوة، حيث قال "إنه سيضيع الكثير من الوقت في ضبط وتأمين الحدود") منع المسلمين من دخول أميركا (دعا ترامب، خلال الحملة، إلى إغلاق كل أبواب أميركا في وجه المسلمين، إلا أنه تجنب، الأسبوع الماضي، الإجابة على سؤال مراسل حول ما إذا كان سيطلب من الكونغرس فرض حظر على جميع المسلمين) الضريبة على البضائع الصينية اقترح ترامب فرض ضريبة على البضائع الصينية تصل إلى 45 في المائة. ونفى كبير مستشاري السياسة، ويلبر روس، الأمر حيث قال (لقد تم تحريف 45 في المئة من قول ترامب، هذا ليس ما قاله وليس ما ينوي القيام به). الاتفاق النووي الإيراني أيضا كان احد وعود ترامب الذي قال ان (إيران هو بلد أجنبي آخر استهدفه ترامب خلال حملته الانتخابية، حيث تعهد في أكتوبر ب"تمزيق اتفاق إيران" في إشارة إلى الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى. وبعد فوزه في الانتخابات، قال مستشار ترامب وليد فارس "تمزيق هي كلمة قوية جدا.. سيقوم بمراجعته فقط"). ملف حلف الشمال الأطلسي (قال ترامب، في وقت سابق، إن أمريكا قد تسحب دعمها للتحالف، وأن الجيش الأمريكي مستعد للانسحاب من كوريا الجنوبية، في حال لم تدفع سيول أكثر. لكن موقف ترامب تغير بعد فوزه في الانتخابات، حيث أفاد مكتب الرئيس الكوري الجنوبي أن دونالد تعهد بالتزامه بالدفاع عن كوريا الجنوبية في إطار التحالف القائم) إعادة الإيهام بالغرق ترامب وعد بإعادة استخدام الإيهام بالغرق في التعذيب، وهي ممارسة تعتبر غير قانونية في أمريكا. (ذكر رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الجمهوري، مايك روجرز، أن تصريحات ترامب كانت مجرد "كلام حملة") التنصل من إتفاقيات حماية مناخ الارض كان ترامب أثناء حملته الانتخابية قد صرح بأن مخاطر الدفيئة و تغير مناخ كوكب الارض هي مؤامرة صينية للجم الاقتصاد الامريكي و خلق الوظائف للأمريكان, خصوصا في مجال البترول و الفحم الحجري ووصف منسوبي هاتين الصناعتين بأنهم أناس عظماء, لكنه بعد إنتخابه صرح( بأنه ربما كان للبشر دور في ذلك)!!!!!!!! فعلا بلعوا كذباته و إنتخبوه!!!!!! كانت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام في الولاياتالمتحدة مملوكة من قبل ما يقارب 50 شركة حتى أواخر القرن العشرين، أما اليوم، فقد تركزت ملكية 90 في المائة من وسائل الإعلام في أيدي ست شركات إعلامية فقط، تسيطر على معظم ما يشاهده ويسمعه ويقرأه المواطن الأميركي والأجنبي في كل يوم. يعتبر كثير من المشاهدين الغربيين والمتابعين العرب "النموذج الأميركي" مثالاً يحتذى به عن "حرية التعبير" و"الإعلام الحر" رغم السيطرة المحكمة على تدفق المعلومات داخل منظومة وسائل الإعلام الرئيسية. ويخصص المواطن الأميركي أكثر من مئة وخمسين ساعة لمشاهدة التلفاز ومائة ساعة لتصفح الانترنت شهرياً، الأمر الذي يجعل من الضروري التحقق من أصحاب رؤوس الأموال والشركات العملاقة التي تقف خلف تدفق المعلومات من قبل وسائل الإعلام، التي تصنع وتبلور بدورها الرأي العام حول الأمور السياسية المهمة التي لها تأثير مباشر وغير مباشر، لا على الولاياتالمتحدة فحسب، بل على الحكومات والمجتمعات الأخرى أيضاً. باختصار، يُقال إن الرأي العام ووسائل الإعلام يشكلان أساس "الديمقراطية التمثيلية" في الولاياتالمتحدة، حيث يحصل الأميركيون على معلوماتهم من ثلاثة مصادر رئيسية ألا وهي: الإعلام المرئي والمسموع (الإذاعة والتلفزيون)، وسائل الإعلام المطبوعة (الصحف والمجلات) وشبكة الإنترنت التي تزايد الاعتماد عليها في الآونة الأخيرة. ورغم أن الإدارة الأميركية لا تمتلك سيطرة مباشرة على وسائل الإعلام، إلا أنها تنظم المحتوى الذي تبثه شركاتها وتتحكم بملكيتها، جاعلةً إياها تضع الأجندات الأميركية كأولوية لها، وتقوم بتأطير محتوى المعلومات، جاذبةً بذلك اهتمام الجمهور نحو القضايا التي ترغب بإثارتها، ومؤثرةً في الفهم الجماهيري للسياسة الداخلية والخارجية بحسب مصالح الشركات الضخمة والسياسيين المدعومين من قبل هذه الشركات، والتي تبلغ قيمة إيراداتها حوالي 275$ مليار دولار، وهو مبلغ كاف للتغلب على الناتج المحلي للكثير من الحكومات. ونتيجةً لمعرفة الشركات الضخمة ومدرائها التنفيذيين في وسائل الإعلام بأذواق الناس ورغباتهم ومخاوفهم، نجدهم يقومون بدفع القضايا في الاتجاه الذي يخدم أجندات الشركات ومموليها. الامريكان شعب براغماتي لا يلتفت للأمس ويرفض الاعتذار عن أخطائه، أما فقه الدولة فهو النمو القوي بكل الأشكال وفي كل ميادين الحياة، مع مبدأ رفض القبول بالخسارة، إلا في الرياضة. هم ليسوا أخيار العالم، لكنهم أدركوا ما قدمته لهم الحرب العالمية الثانية من فوائد، فحينها كانت كلمتا الكوكاكولا و"أوكيه OK" المصحوبتان بدماثة الأميركي وانفتاحه غير المتعجرف، مدخله للهيمنة على عالم اليوم. فالثقافة الناعمة، من رقائق القمح Corn Flex الى البط دونالد Donald Duck (لا دونالد ترامب)، كانت أدوات الأميركي التي وظفت بإتقان. وبالعودة للبراغماتية الأميركية، يخطئ من يعتقد من العرب أن الصدمة التي يعبر عنها الرأي العام الأميركي "السياسي" في مرشح الرئاسة الجمهوري قد تمثل صحوة سياسية أخلاقية، مع أننا نتمنى ذلك. فالمرشح ترامب نتاج ثقافة وأخلاقيات المؤسسة المالية والتشريعية الأميركية بالإضافة إلى تليفزيون الواقع Realty TV. فقد قرر الأميركان منذ نهاية حرب فيتنام ألا يثقلوا ضمير المشاهد الأميركي بمشاهد الحرب، خصوصا الخاسرة منها، لما لذلك من أضرار داخلية وخسائر معنوية خارجيا. لذلك كانت سينما الثمانينيات رومانسية مغامرة بأفلام مثل إنديانا جونز ومغازلة الجوهرة Romancing The Stone وانطلاق تليفزيون الواقع. أما سياسيا.. فقد مثل دخول الريغانية انطلاق عهد المحافظين الجدد، ومبادئ تلك المدرسة تتسق ومبادئ دونالد ترامب من مغامراته في بناء الثروة عبر السندات عالية الخطورة Junk Bonds، إلى عالم كازينوهات المقامرة والعقار، ومن ثم تلفزيون الواقع. فعند بدء برامج تليفزيون الواقع كان المحافظون الجدد هم من يحكم الولاياتالمتحدة، وقناة "فوكس" كانت سيدة الإعلام لدرجة أن مقدمي برامجها مثل أورايلي وغلن بك يكذبان على الهواء دون الحاجة للاعتذار من المشاهد الأميركي. فغزو العراق أظهر حقيقة قناعات المحافظين الجدد السياسية. وإذا كان عمال السخرة الصينيين ثاني أكبر وصمة عار في التاريخ الأميركي بعد استعباد السود، فإن ما حدث للعالم منذ غزو العراق والحرب على الإرهاب لم يمثلا "نزهة في الحديقة" حسب التعبير المجازي الأميركي. المفارقة في مشهد الانتخابات الأميركية هو تعامل ترامب مع عموم الناخبين بازدراء، وكأنهم المتبارون في برنامجه الشهير "المتأهل أو المتدرب" Apprentice . فذلك الافتتان بشخصيته المتنمرة لدى العموم ربما نتاج طبيعي لأسوأ فترتي رئاسة مرت على الأميركان خلال الست عشرة سنه الماضية. فأميركا اليوم تظهر عدائية غير معهوده للداخل والخارج، وتتنصل لكل عهودها على الرغم من تاريخها الحافل بالخطايا والإنجازات الإنسانية العظيمة. و انتخاب دونالد ترامب يشبه إلى حد بعيد رغبة الأميركان في جعله "صندوق بندورا" الذي سيحوي كل خطاياهم في التصالح مع أخطاء وخطايا إرث المحافظين الجدد والأوبامية المهادنة. هذا الصهير البشري هو الذي أنتج أقوى إمبراطورية عرفتها البشرية قسوة وطموحا، قدمت للبشرية الكثير من العلوم، من الطيران إلى أول قلب صناعي وأشياء أخري كثيرة تجل عن الحصر. ولأن الشعب الأميركي يعيش في مجتمع يسير بخطى سريعة جداً، بحيث يتوفر له وقت ضئيل للقراءة واستكشاف الحقائق، ولأن منتجي وسائل الإعلام على دراية تامة بهذا الأمر، فقد أصبح من السهل التأثير في الرأي العام وخيارات الشعب السياسية وغير السياسية، الأمر الذي قد يدفع الشعب الأميركي لقبول بعض القرارات التي لم تكن تحظى بشعبية كبيرة سابقاً، والتي تؤدي لآثار كارثية على الشعوب الأخرى، فلطالما كان للتأثير السيكولوجي لوسائل الإعلام اليد العليا في صنع الرأي العام وصبغ الشرعية الشعبية على القرارات الحاسمة والحساسة. [email protected]