خلال الأشهر القليلة الماضية كان بعض المستوزرين قد لوحوا ووعدوا بتقديم استقالاتهم ، منهم من ربطها بشرط معين ومنهم من حدد لها ميقاتا محددا ، الا انهم لم يستقيلوا رغم تحقق الشرط ومرور الزمن المحدد ، .. لا يبدو لي أن هؤلاء المستوزرين اللاحقين قد أتوا شيئا بدعا مما أستنه السابقون ، فقد حفلت الأضابير بالكثير من الاستقالات المضروبة ، بل الأنكى أن بعضهم يستنكر حتى مبدأ تقديم الاستقالة ويرفضها ابتداء ، من هذا النوع أذكر وزير الخارجية السابق علي كرتي الذي سئل مرة عما اذا كانت راودته فكرة تقديم استقالته. الوزير قال رداً على السؤال « لم أفكر في تقديم استقالتي لأنها هروب».. ومن قبل حين اشتدت أزمة المياه بالعاصمة، سألت إحدى الصحف مدير عام هيئة مياه ولاية الخرطوم، إن كانت لديه الرغبة في تقديم استقالته ، بعد عجزه عن حل أزمة المياه.. فكر المدير وقدر فقال: لا، لن أستقيل من منصبي، لأن الاستقالة تعني التولي يوم الزحف، هكذا قالها وكأنما هو في أتون حرب ضروس شعاره فيها «إما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا».. يهيأ لي من الشواهد عاليه ، أن الكنكشة وعدم تقديم الاستقالة سنة ماضية يحرص عليها السابقون واللاحقون ، فحتى الاستقالة الوحيدة الجادة التي تقدم بها وزير الصناعة الاسبق عبدالوهاب محمد عثمان رحمه الله لم تقبل ، وغير هذه لم يحدث أن كانت هناك استقالة بالمعنى، وإنما بدعة عرفت بمسمى «استراحة محارب» وهي فترة نقاهة يقضيها «المحارب المرهق» ريثما يتم تدبير منصب أعلى له، غير أن أغرب أنواع الاستقالات كان ذاك الذي افترعه الإمام الصادق وهو ما يمكن تسميته ب«الشروع في الاستقالة».. عقب خروجه من المعتقل على خلفية حديثه الشهير عن قوات الدعم السريع، سئل الإمام عما اذا كان ابنه عبد الرحمن الذي يشغل منصباً سيادياً رفيعاً في الحكومة قد تقدم باستقالته احتجاجاً على اعتقاله، قال الإمام «هو كتب خطاب الاستقالة وأعده لكن لم يقدمه »!... الواقع أنه ورغم شيوع هذا الأدب الراقي «أدب الاستقالة» في دول العالم المتحضر، لدرجة أنه أصبح ممارسة عادية وطبيعية يُقبل عليها برضاء نفس تام كل من ولى أمراً للناس أخفق فيه ولو بهنةٍ بسيطة في تلك البلاد، إلا أننا في عالمنا الثالث – ورغم حاجتنا الماسة لهذا «الأدب» بأكثر مما يحتاجه العالم الأول – يكاد يغيب عنا تماماً اللهم إلا من بعض «فلتات» متقطعة على فترات زمانية طويلة ولأسباب تهتز لها الجبال ويشيب لها الولدان، فساد عندنا «أدب الكنكشة» إن جازت التسمية عوضاً عن الاستقالة، بينما تؤكد عبر التاريخ أن مثل هذا التشبث بالمنصب ليس سوى ثقالة يستحق صاحبها أن يقال في حقه الهتاف الشهير « استقيل يا ثقيل » .. الصحافة