بالرغم من أن الايمان بالله و كتبه و رسله يستلزم الايمان بالغيب و التسليم إلا أن الله سبحانه و تعالي لم يحرمنا نعمة الفهم عنه,و بالرغم من إيماننا بأن الله سبحانه و تعالي هو خالق القوانين و القادر علي خرقها و إجتراح المعجزات بمشيئته إلا أن هناك كثير من القصص الدينية المشتركة في القرآن الكريم الخالي من التبديل و غيره من كتب الديانات التوحيدية المبدلة ؛ قد تم تأويلها بصورة غير منطقية لغويا و عقليا و علميا مقارنة مع آخر المكتشفات العلمية. المشكلة الرئيسية التي تواجه الباحث في القرآن الكريم أن كل الناس سواء كانوا مؤمنين أم غير مؤمنين يعارضون أي محاولات جدية لتأويل القرآن الكريم إذا أتت بغيرما انطبع في أذهانهم و هذا خطأ كبير,سمعت في عدة مقالات لي كلمات مثل هذه: تخريجات أم تهافت أم تأملات شخصية و تلفيق!!!! صراحة التلفيق صعب هذه الايام فالناس أذكياء و متعلمون و المعلومات متوفرة لكل طالب علم؛ فبإمكانك أن تخدع كل الناس بعض الوقت أو بعض الناس كل الوقت لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. أرجو أن أوضح فيما يلي القصة الحقيقية من وحي اللغة العربية و اللغات الاخري و الكشوف الجغرافية و الاثرية و نصوص الآيات القرآنية و لطولها و دحضا للملل فستكون في ثلاث مقالات و مسارات: عمر سيدنا نوح ,كيف حدث الطوفان و أين ,كيف بني الفلك و ماذا حمل علي ظهره . عمر سيدنا نوح: غالي أهل التوراة في ذكر أعمار وأحجام أجساد ذرية آدم الاولين إلي درجة اسبغت الخرافة علي تلك المرويات , مما يقودنا يقودنا إلي تحليل معني السنة و العام في القرآن الكريم حيث ورد في القرآن الكريم (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) العنكبوت/14 مفسري القرآن ذهبوا إلي نوح عاش وسط قومه 950 سنة أو عام و لم يلحظوا الإشارة الذكية للسنة و العام, من المعلوم أن القرآن الكريم كتاب الله المعجز ليست فيه كلمة مزيدة أم في غير موضعها مطلقا. و لنفهم هذا الامر جيدا فعلينا الرجوع للماضي السحيق بداية قصة البشرية مع التقويم ,فقد كان كل البشر لا يعلمون شيئا عن التقويم الشمسي لعدم إمتلاكهم الإمكانية الفنية لمعرفة لك و اقتصروا علي إستخدام القمر و لا نقول التقويم فكلمة تقويم شاملة لتعيين تأريخ محدد يبدأ منه العد ,قال تعالي (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) 5 /يونس (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)96/الانعام (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) 39/يس (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) 5/الرحمن عدد السنين هو عدد الوحدات الزمنية التي يستخدمها الناس في زمن ما لحساب الزمن و كانت في ذلك الوقت وحدات بسيطة بدورات القمر فكان الشهر يعتبر (سنة) أما الحساب فهو العد ماقبل حدث معين أو بعده و لمن إطلع علي قصة (الجذور ) للكاتب الامريكي الافريقي أليكس هايلي يجد انه تعب تعبا شديد لتتبع جذور اسلافه حيث قابل الحكماء المؤرخين ذوي الذاكرة الشفهية و لم يكن لديهم تقويم فكانوا يحسبون للوراء بالشهور القمرية و باحداث معينة مثلا سنة الفيضان ,سنة القحط,سنة الحرب و هكذا,كلمة الحساب ايضا تشمل مقارنة الشهور القمرية بدورة الشمس و هو مرحلة متطورة ما بعد العد و تؤدي لمعرفة التقويم. فكان الشهر في البداية وحدة زمنية بالنسبة لشعوب كثيرة, و يتضح لنا في قصة سيدنا يوسف أن السنة كوحدة زمنية كانت الموسم الزراعي والمجتمع البشري أصلا بدا كمجتمع رعوي متنقل مع بداية أستئناس الانسان للحيوان ثم نشات الحضارة عند إكتشاف الزراعة و إستقرار الناس في مدن,كان المجتمع و الحضارة المصرية مجتمعا زراعيا بإمتياز, لكن هذا لا يعني أن المصريين لم يعرفوا التقويم الشمسي بل عرفوه لكنهم كانوا يزرعون ثلاث مواسم في العام و الزراعة كانت قوام الحضارة المصرية و مصدر ثروتها و كما قال المؤرخ اليوناني هيرودوت مصر هبة النيل, قال تعالي ((قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ))/يوسف (49) لاحظ الفرق بين سنة و عام في الآية الأخيرة, ثم عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون تعني أنهم سيزرعون محاصيلهم الموسمية ثم العنب الذي سيتم عصره,إذن العام فيه عدة سنين أي مواسم زراعية. هناك قرينة أخري و من القرآن و هي إستخدام جملة لبث فيهم وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) صيغة "لبث في" غالباً ما ترد لتتبع بالمكان، قال تعالى وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) أما لبث الزمانية، فترد دونما تحديد: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وترد متبوعة بتعبير يدل على الزمن: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا النازعات (46) وفيهم تعني حسب حسابهم للزمن و الذي بالنسبة للبشر يكون مقدرا تقديرا . السنة في سورة الكهف (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) الكهف/12 (وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) الكهف/21 (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) الكهف/25 أي أن الهدف من معجزة أصحاب الكهف هو تعليمي :الاول خاص بالحياة الروحية لإثبات أن الله يبعث الموتي و الثاني دنيوي لتعليمنا الفرق الطفيف بين السنة القمرية و السنة الشمسية حيث أن 300 سنة قمرية تساوي 309 سنة قمرية و لأن الناس كانوا يقدرون السنة تقديرا فلم يستخدم القرآن لفظ(عام) و إنما استخدم لفظ(سنة) و الملاحظ أن السنة القمرية اسهل إستخداما خصوصا للأولين الذين لم يتقدموا كثيرا في الحضارة و معلوماتها. البابليون هم اقرب أناس لقوم نوح عليه السلام و لم يتفق علماء الآثار علي الطريقة التي كانوا يقدرون بها السنين حيث عثر علي لوح بالكتابة المسمارية فيه اسماء الملوك الذين حكموا و مددهم كالآتي:- مدينة أريدو، حيث حكمها ملكان، استمر حكمهما لمدة 64000 سنة ,ثم انتقلت الملوكية إلى مدينة بادتيبيرا، وحكمها ثلاثة ملوك لمدة 180,000 سنة (المصدر يقول 108,000 سنة ) وانتقلت فيما بعد إلى مدينة لارجو وحكمها ملك واحد لمدة 28000 سنة, ثم سبار حيث حكمها ملك واحد لمدة 21,000 سنة, وأخيراً مدينة شوروباك والتي حكمها ملك واحد لمدة 18,000 سنة . إذن في فترة ما قبل الطوفان كان هناك خمس مدن حكمها ثمانية ملوك في 240,000 سنة. ثم حل الطوفان كما ورد في الوثائق السومرية، .. ثم عادت الملوكية مرة أخرى إلى مدينة كيش الرافدية,حيث حكمها 23 ملكاً بعد الطوفان لمدة 24,150 سنة ,ثم دُمرت كيش وانتقلت الملوكية إلى آل مدينة إيأنا- دولة أوروك أو أوروخ حيث حكمها 12 ملك لمدة 2,310 سنة,ثم دمرت أوروخ وانتقلت الملوكية إلى أور حيث حكمها 4 ملوك لمدة 177 سنة. يلاحظ في الجزء الاول من الجدول ما قبل الطوفان أن هناك شططا في حساب مدد الملوك الذين حكموا و فجأة نجد في السطر الاخير تحولا دراماتيكيا حيث رجع الحساب الي المنطق حيث صار متوسط مدة الملك حوالي 44 عاما. بالرغم من أن علماء التاريخ لم يصلوا إلي سر هذا التفاوت فهناك عدة سيناريوهات :الاول انه اثبتت الكشوف الاثرية ان المدونين الاوائل في تلك الحقب التي كان يسود فيها تعظيم الملوك و الاسطورية كان لديهم ميل نحو تضخيم مدد الملوك بزيادة صفر أو صفرين و قد وجدت شواهد علي ذلك في بعض التاريخ الفرعوني ,و السيناريو الثاني هو أن حساب السنين (المقدر) كان يتم بالقمر حصرا في البداية أذ يحسبون الشهر وحدة زمنية(سنة) و لم يعرفوا الحول أو العام في ذلك الزمان, فإذا أزلنا الصفرين من بداية الجدول و قسمنا علي 12 و هو عدد الشهور القمرية في السنة أو العام لصار الامر منطقيا,كذلك لو ذهبنا إلي منتصف الجدول و ازلنا صفرا و قسمنا علي 12 لصار الامر منطقيا ايضا و لكن يلاحظ في آخر الجدول كما أسلفت أن هذه العادة تركت و حسبت الاعوام بصورة طبيعية وواضح أن في تلك الفترة عرف الناس العام أو السنة الشمسية. إذن فعمر نوح عندما كانوا يقدرون الزمن تقديرا بالقمر كان = 950 /12 = 79عاما و بعدها إكتشف الانسان السنة الشمسية فحسب باقي عمره الذي قضاه بالاعوام و كانت 50 عاما بعد إكتشاف السنة الشمسية و الجملة 79+50= 129 و ذلك أمر طبيعي لاعمار ذرية آدم في تلك الايام و قد اثبت علماء الصحة البشرية مؤخرا أن الانسان لو عاش حياة صحية يمكن أن يصل متوسط عمره ذلك إعجاز قرآني لا شك فيه إذ أعطانا معلومة لم يك ليتيسر لأي أحد عند نزول القرآن أن يصل إليها بوسائل ذلك الزمان لولا الكشوف الاثرية الحديثة التي أماطت الثام عن أطنان من الالواح المسمارية المطمورة تحت ركام من التراب و الاحجار في العراق و فكت شفرتها. البحث السالف ليس محاولة للغوص في القرآن لنفي المعجزات المثبتة أو نفي طلاقة القدرة الالهية التي لا تحدها حدود لكن يجب التفرقة بين المعجزة و الاشياء التي يمكن التوصل إليها ببراهين منطقية ,المعجزات ليست كل شئ فالسنن الكونية المضطردة بثبات منذ بلايين السنين هي المعجزة الحقيقية فالكون لو بني علي المعجزات لدبت فيه الفوضي و الاضطراب و الخلل. البشر يحبون المعجزات يستوي في هذا المؤمنين و غير المؤمنين إذ يشعر المؤمنون بالامان أكثر مع المعجزات و لو كان نوح عليه السلام عاش بصورة إعجازية كل هذه المدة( 950 عام)لما بقي في قومه كافر و لآمنوا كلهم أجمعين و كما اسلفت لم يحاول أكثر المفسرين التفكر و التدبر في معني ألف سنة إلا خمسين عاما و إرتاحوا لفكرة اللبث الطويل مثلما حصل مع أصحاب الكهف. [email protected]