لم أكن أنوي طرح هذه المسألة والمنطقة برمتها تشهد نفيراً للتعمير والتنمية والنهضة؛ ولكن بما أن تنفيذ هذه الشعارات يستوجب الأمن والسلامة، رأيت أن أتناول هذا الموضوع الذي بات يؤرّق الكثيرين من سكان ولاية شمال كردفان، وهي الولاية التي ظلت تنعم بالاستقرار والأمن وتماسك النسيج الاجتماعي لفترة طويلة كما يشهد بذلك سجلات الشرطة والدوائر العدلية، وواقع الحال. إلا أنني أرى الآن تحت الرماد وميض نار وأخشى أن يكون لها ضرام، لا قدر الله! فمعظم النار من مستصغر الشرر، بيد أن ما يحدث ليس أمراً عادياً بل يعد انفلاتاً كاملاً؛ إذ صارت حالات السرقة المنظمة تحدث بمعدل شبه يومي في بعض محليات وإداريات دار الريح (ودار الريح بقت مسمومة ما بتنشق بلا أم عشرة ورجال مصمومة). ففي الآونة الأخيرة تكررت حالات سرقة البهائم (الضأن والماعز) بشكل غير مسبوق وبطريقة منظمة مع سبق الإصرار والترصد وبالاستفادة من السيارات وأجهزة الاتصال المحمولة وتنسيق تام بين مجموعات النهب والسرقة التي أصبحت تهدد المواطنين بالتعدي على ممتلكاتهم حتى في وضح النهار! وذلك يعود في المقام الأول لضعف مقدرات أجهزة الشرطة وشحها وعدم توفر العناصر الكافية من أجل التصدي لهذه الظاهرة التي تفشت حتى لم يعد أحد قادراً على المبيت مطمئناً على بهائمه التي يمكن أن يفقدها في أي لحظة من نهار أو ليل. ومن جانب آخر، صارت الإدارة الأهلية عاجزة تماماً عن ملاحقة الحرامية واللصوص أو حتى الإبلاغ عنهم ناهيك عن اتخاذ إجراءات قانونية أو إدارية ضد هؤلاء المارقين من شأنها أن تردعهم عن هذه الممارسات التي لا تتسق حتى مع مفهوم "الهمبتة" التي اشتهر بها كثيرون في مختلف أنحاء السودان. فقد ورد على لسان الطيب ود ضحوية رحمه الله قوله: ماني الهوين البقول سويت وماني العند السؤال قريت إن بردن ماني البخيل صريت وإن حرن بكار ما هن صفايح زيت ولكن اللصوص الآن يسرقون حتى "عنز اللبن" ومال الأيتام من ذويهم وأقاربهم وهذا في نظري منتهى الخسة والنذالة مع العلم بأن السرقة كلها حرام ولكن ما يحدث اليوم يتنافى مع بعض مكارم الأخلاق التي أشار إليها ود ضحوية في مربوعته المذكورة أعلاه! أما المواطن، من جانب آخر، ومع علمه التام بمن يمارسون هذه الأفعال المستنكرة إلا إنه لا يجرؤ على إبلاغ الجهات المعنية؛ خوفاً من أن يطاله هذا الشر المستطير. يضاف إلى ما ذكر، انتشار الأسلحة الحديثة من رشاشات وبنادق قناصة لدى من يمارسون هذه الأفعال البشعة التي روعت أمن المواطنين واغضت مضاجعهم، دون أن يكون هنالك تحرك واضح من قبل الجهات النظامية لكبح جماح هؤلاء ولتوفير الأمن والحفاظ على سلامة المواطن وأمواله. وقد ورد في الحديث النبوي الشريف " مَنْ أَصْبَحَ مُعَافَى فِي بَدَنِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا" وهذا المتطلب الشرعي هو أحد أهم مسؤوليات الحكومة وإذا تقاعست عن الوفاء أو القيام به، فسوف تنقلب حياة الناس إلى جحيم لا يطاق! وحتى لا يكون الكلام جزافاً أذكر لكم تقريراً وافاني به أحد الإخوة من منطقة دار الريح، وأحسب أنه صادق فيما قال. وقد ذكر ذلك الشخص أنه خلال الأيام القليلة الماضية سجلت أكثر من عشر حوادث نهب أو سرقة وأن عدد البهائم المسروقة قد تجاوز مائة رأس من الأغنام ودفع أصحباها أكثر من تسعين ألفاً مقابل استردادها؛ وما هذه إلا أمثلة فقط لأن الحوادث صارت تتكرر بشكل يومي تقريباً وهنالك حالات لا يعلم بها الناس؛ لأن التفاوض يتم بين الوسطاء وأصحاب الأغنام المسروقة بسرية تامة. كما أفاد التقرير بوجود عربة ضمن المعروضات التي استلمها "الفزع" وأوصلها للشرطة في إدارية طيبة بمحلية غرب بارا، وأتضح أن العربة نفسها مسروقة! وإذا استمر الوضع على هذا المنوال فسوف يغري مزيداً من السفهاء بالاشتراك في هذا العمل الإجرامي، وقد يتحول الأمر إلى نهب مسلح مثلما حدث في دارفور تماماً. وبما أن "الجري قبل الشوف قدلة" ها نحن نتقدم بهذه المسألة المستعجلة أولاً لحكومة شمال كردفان والأجهزة الأمنية والشرطية، ومن ثم إلى المجلس التشريعي بالولاية؛ حتى يتحرى في المسألة ويستدعي المسؤولين عن هذا الوضع ويوجه بما يراه مناسباً، وبكل تأكيد لا نعشم في أي دور تقوم به الإدارة الأهلية؛ فهي من الضعف والانشغال عن راعياها بمكان، ولا تستطيع أن تحرك ساكناً، للأسف الشديد. ومما يثير الدهشة والاستغراب أن الأشخاص الذين يقومون بهذه الممارسات معروفون بأسمائهم وأماكن إقامتهم والطرق التي يسلكونها ووسائل تنقلهم لكل الناس، ولا يجرؤ أحد أن يقول شيئاً، وهذا في حد ذاته مؤشر خطير يستدعي اتخاذ إجراءات استباقية للحد من الظاهرة والوقوف في وجه هؤلاء المجرمين العتاة. والمطلوب تحرك عاجل من الحكومة للتعامل مع هذه الحالات التي تصل إلى "درجة الحرابة" وبالتالي نأمل أن تحسم بطريقة استباقية واستثنائية قبل استفحالها! [email protected]