حضارات سادت ثم بادت ، مقوله تواترت وستظل على لسان أجيال الإنسان أينما وجد وسيدوم تداولها أبداً ، لطالما بقي الإنسان يصبو للتطور وبلوغ مراقي الحضارة عبر مسيرة حياته الحافلة بكد العمل وعمق النظر والتفكر، إذ انه إنما ينشد لنفسه الرقي والسؤدد لطبيعة فيه جبل عليها . مع هذا فلكل حضارة دورة حياة تحف بها من ثم يلحقها الأفول عند ما تنقلب الأيام عليها، وتلك سنة مستنة منذ الأزل ، أي الحياة فالموت . فكم من حضارة فذه في واقع مضمونها وقد أصبحت خبراً من الماضي البعيد لمن يوغل في متون سير تاريخ الأمم والشعوب ودهاليز شاخص الآثار باحثاً ومتأملا، برغم أن حاضر أي أمة أو شعب لا يخلو أفق ذاكرة معارفها عن تلك الصلات الروحية مادية كانت أو فنية والتي كانت تتماهى مع جوهر ماضيها مما تحفزها لاجترارها كقيما تنبض بها جوانحه حباَ واعتزازاً ، ولعلها تتوثب بهذا لاسترجاع بعض مآثرها أن أمكنه سيما أولئك الذين نأى بهم الأفول عن مطارحهم أو أدامة المحافظة علي معطياتها المادية الأثرية لئلا تندثر . أسوق هذه المقدمة وبصحبتي كتاب بعنوان (فلاسفة مصر القديمة) تاليف / إبراهيم الزيني _ دار كنوز للنشر والتوزيع ، وقد أهداينه السيد/ أحمد يوسف عبدالمجيد - أسداه الله عني كل خير. وبإطلاعي عليه مراراً طمأن خاطري الذي ظل يوعز لي بأن تراث شعب الفور المتواجدون بأكثرهم في غرب السودان اليوم خصوصاً لغتهم هي التي أسست الحضارة الفرعونية المشهودة بها في مصر وتضوعت في آفاق العالم إلي وقتنا الحالي وهي الحضارة التي زحفت إلي الشمال من نهر النيل جنوباً أي من سودان اليوم، وهو رأى مسلم به سيما بقراءة متأنية للكتاب (السودان والإفريقانية_ 1) مشفوعة بمعرفة وفهم لغة الفور وهي أصل ما يعرف باسم (السريانية) فضلاً عن العديد من الأسفار التاريخية القديمة من بينها الكتاب المشار إليه. صحيح أن جل ألفاظ الكلمات ومدلولاتها في هذه الأسفار قد اعترتها شوائب الترجمة والنقل من حيث أن من قاموا بهذا العمل لم يكونوا من المصريين أنفسهم بل ممن كانوا يعبرون عنها بألسن أثنياتهم ، ولن يتسنى تصويب ما قاموا به لغير العليم بلغة الفور حصرياً حيث بها يمكن استنباط صواب تلك الألفاظ وفهم مدلولاتها، وكمثال علي هذا نورد بعض نماذج هذه الألفاظ وصواب مدلولاتها علها تكون قدوه للمترجمين والباحثين في مجال علوم المصريات. الجدول أدناه يوضح بعض الكلمات ومدلولاتها: اللفظ المداول صوابه بلغة الفور مدلول اللفظ بلغة الفور مصر مسري/ شهر قبطي الفيضان علما أن من أسماء مصر أ/كيمي أي الطمي ب/تامري, أي النعيم أو جم الخيرات فرعون فراون / ومصدره فررى أوونق / متمرد مخالف لإجماع رأي القوم مما به ينعت كل ما رق عنهم 2/ طاغية حينما صارت كنية للملوك هرم أوروم 1/ الشكل الهرمي لمساكن الفور قبطي قب/تي كاتم السر/ راجع كتاب عبدالوهاب النجار بعنوان قصص الأنبياء - فقره، حديث عن القبط دار أحياء التراث العربي / بيروت طيبه تى/با الموقع الذي فيه يتم تجميع الناس لاغاثتهم في أوقات المجاعات- /1/تى- القحط والمجاعة -2/با- أمكثو . لعل هذا الاسم قد نجم عن المجاعة التي جاء عنها (فقد عثر في جزيرة سهيل جنوبأسوان على لوحة جرانيتية سميت باسم لوحة المجاعة ، وهذه اللوحة ولو أنها كتبت في عهد البطالسة لكنها تحدثت عن مجاعة طويلة حدثت في مصر أثناء حكم – الملك زوسر 2900ق.م وأن هذا الملك التجأ إلي مصادرة محصولات النوبة الشمالية وإرسالها لمصر لتخفيف حدة هذه المجاعة – ص / 19: ويضيف.- أتحدت مصر اتحاداً كاملاً في عصر – خع سخومى / كس كومي ، أي ماذا أدركنا – وكان هذا الاتحاد قبل عهد الملك- زوسر/سوسر،أي وضاح الجبين- الذي حبس خيرات بلاد النوبة وغلاتها لمعبد –خنوم /كونوم أي، صومعة الغلال) رب الشلال الأول وحامي منبع النيل ، و ينسب إلي زوسر فتح الإقليم المعروف باسم (دوديكا شين /دودى كيسينقو / أي مجمع السهرة /2) الكرنك كرى- ن- ك ندخل ونضع فيه/أي انه كان معبداً يضع الناس فيه هبات القرابين أو التقدمات التي كانوا يجلبونها وهو على غرار معبد - ن- ك/ فصار يعرف في السودان باسم معبد النقعه ابو الهول أبا وولا بمعني أبو الأحياء – أبا/ الأب مجازاً ، وولا / جميع الأحياء بالعودة لكتاب – فلاسفة مصر القديمة / فقد جاء في –ص/6( وان الدلائل تؤيد رأي من قال أن هؤلاء المصريين الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ المدفونين في أقدم الجبانات نجد أن أجدادهم كونوا أقدم مجتمع عظيم علي الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاء ثابتاً من الموارد البرية من نبات و حيوان ، على حين أن اكتشافهم المعادن فيما بعد وتقدمهم في اختراع (أقدم نظام كتابي) قد جعل في أيديهم السيطرة علي طريق التقدم الطويل نحو الحضارة. من ثم بوسعنا أن نكتشف علاقة الفور بهذا التقدم الكتابي من حيث أن أي حرف أبجدي خصوصاً اللاتيني أو العربي إنما يشكل في ذاته كلمة منطوقه ذات مدلول معرفي مما يدل علي أنهم قد اغترفوا من ثقافة ذلك المجتمع ومثالاً على ذلك . A/ بمعنى, هو - B/ بمعنى, أنتم C-/ بمعني, البحر - D/ بمعنى, الذي يترسب في الأسفل كمثال – دي/أي ، الرماد -E/ بمعني, التعجب- L/ بمعنى, جاء K-/ بمعني, موجود. أ / بمعني, خلقت ، فعلت ، كما في أمون / وافر النعم – آمين الشكر والحمد ب/ بمعني 1/ ضعوا الشيء 2/ حرف عطف كمثال- ب ئن با- أي أفعل مثل ت/ بمعنى النعم والخيرات و به يعرف فصل الحصاد باسم / ت. ر/ بمعنى, الراحة س/ بمعنى, الساعة 2/ حين من الوقت أو الزمن م/ بمعنى, الأم- 2/ الخال شقيق الأم- 3/ صغير الماعز. بالاستطراد فيما أورده الكتاب أيضاً في ص/ 116- حيث فيه ملخص لقصيدة ( عازف الغيتار- ص /19) جاء فيها (ما أسعد هذا الأمير الطيب والمقدر الجليل قد وقع ، تذهب أجسام وتبقي أخري : منذ عهد الذين كانوا من قبلنا . والملوك الذين وجدوا في الزمن الغابر راقدون في أهرامهم : و الأشراف قد دفنوا في أهراماتهم كذالك : والذين بنو بيوتاً قد أصبحت مساكنهم كأن لم تكن : فماذا جرى لهم؟ لقد سمعت أحاديث – أمحوتب , وهاردرف– الذين يتحدث بكلماتهما في كل مكان : ما هي مساكنهم الآن ؟ جدرانها دمرت ومساكنهما لا وجود بها كأن لم تكن قط). و إذ تعود الذاكرة بي إلى أيام الطفولة تتداعى في ذهني ترنيمة كان المسنين من كبارنا يرتلونها علينا في أماسي قريتنا ( جلدو) في السفح الغربي لجبل مرة خصوصاً في ليالي شهر رمضان علي إيقاع قرع كأس يكفونه في وعاء (قصعة) مليئة بالماء وهم يرتلونها ونحن نردد معهم بصوت جميل يسمو بنا إلي العلياء حيث تقول كلمات الأنشودة: سايي أوروما جوتومو / أي بقيت الأهرامات المشيدة سايي دنينق تونقا / أي ، بقيت مساكن الدنيا سايي أوروما كولونقو / أي ، بقيت الأهرامات أطلالا خاوية سايي ن كوا اكينقبا/ أي ، بقيت مهجورة من سكانها بمضاهات قصيدة عازف الغيتار مع أنشودة تراث الفور يتضح أنهما يتناولان موضوع واحد مما يدل على أنهما قد كرعا من نبع تراث ثقافي مشترك رغم الاختصار الشديد الذي يميز ترنيمة الفور و أحسب أن الفرق بينهما هو أن عازف الغيتار وثيقة القصد منها تعريف تالي الأجيال بذروة التطور الفكري والديني والثقافي الذي بلغه المصريون بينما جاء اختزالها لتكون سهل التلقين لجميع الناس مما يسهل حفظها و ترديدها عن ظهر قلب في مناسباتهم الدينية. ولعل مما يشير لهذا الاختزال ما جاء (إلا أن عدداً كبيراً من الأفارقة كانوا يرثون موتاهم بأبيات تخضع لمقاييس مبنية علي النبرة عوضاً عن الأوزان المبنية على التفريق بين المقاطع القصيرة والطويلة -3) لقد تسربت إلى العالمية العديد من أدبيات ثقافة تراث الفور ، حيث منها القصص والروايات فأضحت منسوبة لغيرهم كمثال: كليل ن دمنه فأصبحت تعرف باسم ( كليلة و دمنه) لأبن المقفع وهي قصة ذكر عنها الأستاذ المعلم إبراهيم سنين عبدالمالك ، عليه الرحمة ، قال بأنه عندما كان طالباً بمعهد بخت الرضا للمعلمين طالبهم مدير المعهد ( مستر قريفث)- وهم على أهبه السفر لقضاء فترة الإجازة مع ذويهم ، بأن يعود كل طالب ومعه قصة من واقعهم الاجتماعي ، لذا حكت جدته له بالقصة التي عاد بها للمعهد وحينما عرضها للمدير أعجب بها كثيرا وقال له أن هذه القصة هي التي تعرف عالمياً باسم ( كليلة ودمنة ) لذلك منحه جائزة عليها من ثم بحوزتي نسخة منها بخط يده برغم الاختصار في موضوعها مقارنة بما جاء في كتاب ابن المقفع 2- كوى جى / أي الطفل جي وتعرف هذه القصة في التراث العالمي باسم (جحا) وهي قصة متداولة في كل مجتمعات الفور وبوسع أي فرد منهم سردها إذ جرت العادة على هذا السرد للأطفال حالما يحل مساء كل يوم وهي لطول حبكها تنقسم إلي فقرات إذ كثيراً ما يغفو النوم أجفان هؤلاء الأطفال أثناء استماعهم لفقرة أو فقرتين لذا تعد في حبكها أطول من مما يريده الكتاب. زاينو زاينو وهي في الأصل رواية عن سيدنا يعقوب عليه السلام كما وردت في العهد القديم للكتاب المقدس ولعلها التي صارت تعرف باسم ( زيون Zion) كما في التراث الديني لشعب إسرائيل 4- تلو تلو / أو ، سيل سيل وهي تمثلية يقوم بها الأطفال للأنس في أمسيات الليالي و بها يشيرون إلي اعتلاء / رم سي -رمسيس للعرش / وكذلك - امون رى / أمون رع - وبيده العصا / واسي - ويعرف أيضا باسم لم بيه / أي ، الم به ، وهي أيضا العصا التي كان يحمله النبي موسى عليه السلام. 5_ اتون مانى بمعني (احتفالات النار) وهي تمثلية تقام في نهاية العام الجاري مما يصادف شهر نوفمبر من السنة حيث يقومون بإطفاء النار في كل المواقد ثم يولدون نار جديد فوق أي جبل بالقرب من القرية مما يهرع الناس لجلبها إلي مساكنهم وأيضا تفريغ المياه القديمة وغسل أوعيتها ونثر ما بقي منها علي الأرض وجلب مياه جديدة من الأودية والآبار والأنهار لملأها مرة أخرى. 6_ باين دو / أي ، السيد تيتل (دو) وهي قصة تحكي عن حدث الطوفان ، وسميت باسم ( دو) لانه اقدر حيوان على عبور تيارات المياه الجارفة علما بان كل قصص الفور تجسد بأسماء مختلف الحيوانات. 7_ باين دقل / أي , السيد القنفذ (دقل) وهي قصة تروي عن قحط ومجاعة ضربت قديما أرض نهر النيل جنوباً وشمالاً مما يرجح بأنها المجاعة التي دفعت لهجرة يعقوب عليه السلام وبنيه من جبل مرة بدارفور إلى مصر في الزمن الذي ألقى فيه يوسف في الجب ، ويعتقد أن هذا الجب يقع في الطريق الذي يعرف باسم - درب الأربعين - حيث فيه توجد عشرة آبار وهي تقع بين دارفور ومصر. المراجع : 1/ عبدالهادي الصديق - السودان و الأفريقانية / سلسلة دراسات إستراتجية /مركز الدراسات الإستراتجية - الخرطوم - من ص 47_71 2/ الدكتور شوقي الجمل / تاريخ سودان وادي النيل، حضاراته وعلاقاته بمصر من أقدم العصور للوقت الحاضر – الجزء الأول – ص/،19,20 - الناشر مكتبة الانجلوا المصرية. 3/ شارل أندرى جوليان تعريب محمد مزالي/ البشير بن سلامة - تاريخ إفريقيا الشمالية / الدار التونسية للنشر – ص/ 290. بقلم / زكريا سيف الدين شمين [email protected]; [email protected]