نتناول في هذه الحلقة الثالثة في سلسلة مفاكرتنا مع الدكتور النور حمد مسائل أخرى حول أطروحته في تشريح بنية العقل الرعوي، مسألة أن الهجرات العربية والحكم التركي المصري 1821-1885 لاحقاً قد قطعا حبل التواصل الحضاري لمدنية الحضارة النوبية قطيعة بائنة خلفت هذه البداوة التي يحياها الناس في هذا الزمان. وقد أشكل علىّ الفهم في هذه النقطة تحديداً فالدكتور أشار من جهة إلى أن الأعراب في القرن الخامس عشر الميلادي قد اجتاحوا السودان المعروف وقتئذ حتى انحصر وجود النوبة في مناطق ضيقة على شواطئ النيل ثم زال ذلك الوجود بعد حين عند سقوط آخر ممالك النوبة بسقوط مملكة علوة: " انتشر العرب في مراعي السودان، بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، في مساحات شاسعة جدا شملت منطقة كسلا، وكل سهل البطانة، تقريبا. كما شملت سهل الجزيرة الواقع بين النيلين. كما شمل انتشار العرب كل المنطقة الواقعة غرب مجرى النيل الرئيس، من منحنى النيل، إلى المنطقة الواقعة غرب النيل الأبيض حتى منطقة الجبلين الحالية، جنوبي كوستي، بامتدادٍ نحو العمق في الغرب، شمل شمال كردفان وشمال دارفور. حصر هذا التحول ما تبقى من الحضارة النوبية على مجرى نهر النيل الرئيس، وضفتي النيل الأزرق جنوبي الخرطوم. وبعد أن انهارت المقرة، وانهارت علوة، جرى القضاء على الإرث الحضاري النوبي الذي بقي متواصلاً، رغم ما أصابه من اضمحلال. ويرى آدمز أن مجيء العرب وضع وللأبد المكانة الشامخة التي تمتع بها النوبيون بين جيرانهم الأفارقة. فقد امتلك العرب روحًا قتالية ودرجة عالية من الحراك افتقدها النوبيون. وبالتالي اختل ميزان القوة العسكرية، لأول مرة في تاريخ المنطقة. فخرجت القوة من قبضة الشعوب النهرية لتصبح في يد قبائل السهل والصحراء، (وليام آدمز، مصدر سابق، ص " 481 الحقلة الرابعة نشرت في سودانايل في أول أكتوبر 2016م). وكما ترون والحال قد آل إلى ما آل إليه وفقاً لما اقتبسناه من كلام الدكتور بأعلاه فإن أولئك الأعراب قد أصبحوا أكثرية وأن التركيبة الديموغرافية قد تغيرت ومالت لصالحهم فلم يعد هناك مجال إلى القول إننا قد تماهينا اختياراً ورغبة قد تستبطن نوعاً من الشعور بالنقص والدونية مع العرب وثقافة العرب، وأن الخديوية قد أدغمتنا قسرا في ذلك السياق ذي الخصائص الرعوية فنحن وفقاً للمقتبس (وحتى لا ينحرف الحوار إلى الجدال القديم المتجدد عمّ إذا كان السودانيون عرباً أو افارقة، فليس هذا موضع هذا الجدال) أصبحنا جزءا من ذلك الكل ولم يلحقنا به أحد. وأرى أن الاقتباس الذى ساقه دكتور النور من كلام اسبولدينق عن ثقافة إفريقية في السلوك واللباس تصبغ حياة الملوك والعامة في سنار عاصمة الفونج كما قد رآها أحد الرحالة ذكر منها لباس (الرحط) للنساء، وغيره فهو للمفارقة يتناقض مع ما ذكر آنفاً من غلبة أولئك الأعراب المتفلتين فضلا عن ان الرحط (وفي الفصحى الرهط) لباس عربي ورد في المعاجم العربية كان سائداً في أرياف السودان للعذارى حتى ستينيات القرن المنصرم. . :( وأصله من الرهط وهو جلد يقطع سيورا يصير بعضها فوق بعض ثم يلبس للحائض تتوقى وتأتزر به ) (انظر لسان العرب لابن منظور ص245) وتصلح هذه الجزئية بدلالاتها لدعم أطروحة دكتور النور أكثر من صلاحها لأطروحة اسبولدينق في أن سلطنة الفونج استمرار لحضارة دويلات النوبة المتمدينة ذات الطابع الإفريقى التي انهارت. أما المسألة الأخرى والتي لي فيها نظر فتتعلق بفحص مقولة أن الخديوية المصرية هي العامل الآخر الذى عمّق غراس البنية الرعوية بعد تدفقات البدوان العرب على السودان : تتحدث الأطروحة عن أن الخديوية المصرية قد الحقت السودان بالإسلام السلطاني المشرقي بمحاربتها للتصوف الذى كان يركز على التربية وحسن السلوك. نتفق مع الدكتور النور في أن الحكم التركي - المصري الذى توطدت اركانه منذ العام 1801 وحتى 26 يناير 1885 باجتياح ثوار المهدية للعاصمة الخرطوم كان حكما غاشماً غزا السودان من أجل الذهب والمقاتلين لتحقيق طموحات محمد على باشا في تأسيس إمبراطورية على أنقاض الدولة العثمانية وكاد ينجح في مسعاه لولا تصدى الدول الكبرى لذلك الطموح سيما وقد لاح ضعف الدولة العثمانية (الرجل المريض) وأن تجديدها و إزالة عللها على يد هذا الألباني الألمعي يفوت فرصة الاستيلاء على ممتلكاتها الممتدة في الشرق الأوسط, وهو ما وقع بالفعل بعد ذلك. ولكن يكاد يجمع الباحثون على كون التركية السابقة هي التي ابتدرت الحداثة في السودان فهي التي قسمت البلاد إلى مديريات وربطتها بالتلغراف لأول مرة وجاءت بالمراكب التي تعمل بالبخار وشرعت في إقامة خط حديدي وافتتحت مدارس على النمط الحديث للتعليم النظامي وألحقت السودان بمراكز الحضارة الحديثة. والمجيء بعلماء من الأزهر من المذاهب الثلاثة المالكي والحنفي والشافعي لم يكن بغرض مجرد إلحاق السودان بما عليه الحال في المشرق العربي فالإسلام الصوفي الذى كان سائداً إبان حكم دولة سنار كان خليطاً من الوثنيات الإفريقية القديمة والخرافات ويكفي فقط الاطلاع على طبقات ود ضيف الله للتيقن من ذلك وأن ذلك الإسلام لم يكن ليصبح قاعدة يقوم عليها نظام أو حداثة من أي نوع. يقول قابريال ووربيرغ إن الصوفية في القرن السادس عشر قد كانت في حالة جزر شديدة (تراجع) إذ خالطتها العديد من الخرافات لذلك سهل جداً تمثلها وتشربها في مجتمع سنار المسلم اسميا ( أو قل سطحياً) .( راجع كتابه ص1Islam, Sectarianism and Politics in Sudan since the Mahdiyya وهو ما ذهب إليه جي. سبنسر ترمينقهام من أن السلطنة نفسها أسسها مسلمون يمكن اعتبارهم كذلك اسمياً. وله عبارته المشهورة بأن السودانيين تقبلوا الإسلام بكلياته لكنهم أقحموا فيه أعيادهم ورقصوا فيه وخلطوه بغير قليل من وثنياتهم! (أنظر ص x في كتابه Islam in the Sudan صحيح أن التركية رمت إلى إقامة مؤسسة دينية هرمية تسيطر على النشاط الديني في البلاد تدرأ بذلك قيام الثورات والاضطرابات ضدها لكن ذلك قد بذر بلا شك بذرة الإسلام السنى الأقرب إلى نصوص العقيدة الإسلامية المعروفة بالضرورة عبر المذاهب الإسلامية الأربعة المعروفة ( ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في القرن السابع الميلادي). وما أحسب أن ذلك قد كرس ووطد أركان العقلية الرعوية المجافية للحداثة لأن الحداثة قامت في مجتمعات إسلامية تنتم لواحد من تلك المذاهب التي أتت بها التركية ودعني لأجل المفاكرة ولا أقول الجدال استثنى كل العالم العربي وأشير إلى ماليزياوتركيا واندونيسيا وحتى الهند فهي ليست مشمولة على كل حال فيما استدل به الدكتور النور على غلبة العقل الرعوى. ولقد سار الحكم الثنائي الإنقليزي المصري على ذات النهج, نهج التركية السابقة ( التركي- المصري) في تقوية غراس الإسلام القائم على واحد من المذاهب الأربعة في السودان درءا للثورات عليه التي رآها تأتى من قبل الإسلام الشعبي أو الصوفي إن شئت (ظهور عيسى، المهدى ومجدد المائة)، فبادر إلى تأسيس مجلس العلماء برئاسة الشيخ محمد البدوي عام 1901 ثم تأسيس معهد أمدرمان العلمي عام 1913وفروعه في الأقاليم ثم القضاء الشرعي، وقاضى القضاة ومفتى الديار وما إلى ذلك وتحديد يوم الجمعة يوم عطلة. هذه هي الإدارة التي رأى دكتور النور أنها سعت للحداثة ولكن وكما ترون فهي التي حاربت الإسلام الصوفي ووطدت دعائم الإسلام السني الذي رآه الدكتور سلطانيا يستخدمه الحكام للقمع والسيطرة والبطش. إن الإدارة البريطانية المصرية قد ساهمت في حقيقة الأمر في محاربة الحداثة على الأقل في الثلاثة عقود الأولى من حكمها للسودان فقد حصرت التعليم حتى عشرينيات القرن الماضي في الكلية التي أسستها لتخليد ذكرى غردون، في المهارات الحرفية البسيطة ثم رفد الإدارة بصغار الكتبة والموظفين وأوقفت لاحقا بعثات الطلاب إلى الجامعة الأمريكية في بيروت ورفضت تدريس العلوم الإنسانية والآداب في البداية لأنها في عبارة اللورد كرومر تنبه الأهلين إلى قيم الحرية وأن أجانباً يجثمون على صدورهم= أي ابجديات الحداثة! أضف إلى ذلك محاربة طبقة المتعلمين الصغيرة بعد الحرب العالمية الأولى ونقل تجربة الإدارة الأهلية NAمن شمال نيجريا إلى السودان لتحجيم دور الطبقة الصغيرة من المتعلمين الذين بدأوا في إزعاج المستعمر. ثم إن الإدارة الاستعمارية عند قيام تلك الحرب وانضمام تركيا إلى المعسكر المعادي لبريطانيا تخلت عن محاربة الإسلام ذي الجذور الصوفية المتمثل في أكبر طائفتين منظمتين مركزيا هما طائفة الأنصار والختمية للتصدي لنداء الخلافة العثمانية للمسلمين للوقوف ضد بريطانيا. تخلت إذن عن سياسة (ونقت وسلاتين )التي استهدفت الإسلام الصوفي استهدافا مباشراً لا هوادة فيه، الأمر الذى أبقى على الإسلام الصوفي المتمثل في الطائفتين المذكورتين وبروزهما عبر حزبيهما كأقوى تيارين سياسيين في البلاد عند حصول البلاد على الاستقلال في فاتح يناير 1956. وأخلص إلى أن تأخر الحداثة ساهم فيه الاستعمار حيث تخلى عن الأسس التي وضعها ابتداء لقيام دولة عصرية في نهاية المطاف كما يقول قابريال ووربيرغ، واعتمد لظروف دولية سياسات قامت على ردود الأفعال كما اشار إلى ذلك البروفسور مدثر عبد الرحيم في أطروحته للدكتوراه تمثلت في حربه المبكرة ضد الطبقة المتعلمة التي كان يعتبرها متأثرة بالحركة الوطنية المصرية بعد الثورة العربية عام 1916وبعد ذيوع مبادئ ودرو ويلسون في المستعمرات في حق الشعوب في تقرير مصائرها وكذلك بوأد محاولات الحركة الوطنية الناشئة في محاربة القبلية في عشرينيات القرن العشرين باعتماد كلمة "سوداني" كتعريف لأبناء الوطن، حيث ظل يعرّف السودانيين في شهادات الميلاد بقبائلهم حتى عام 1956. ونختتم هذه الحلقة بالقول إننا نختلف مع الدكتور النور في أن ما سرده من قصور كثير في سلوكنا مرده إلى ثقافة عربان أصيلة فينا أو مكتسبة مستجلبة، لذا قد تبقى من حتى لدينا حلقة أخرى أو اثنتان إن شاء الله. [email protected]