إن العلمانية كانت هي الرحم والأرضية المناسبة التي ساعدت أو هيئت البيئة للإنسان الأوروبي وهيئت العقلية الأوروبية لإنتاج فلسفاتها المعاصرة ولإنتاج حضارتها الحالية. وذلك من خلال الدعوة إلى العقلانية والرشد وإلى تبني العقلية العلمية في التفكير في الحياة وإلى رفض الخرافات والغيبيات في التفسير الحياتي. كذلك العلمانية هيئت المناخ للحضارة والفكر الأوروبي من خلال توجهها نحو دراسة الواقع والدعوة للاهتمام بالحاضر والواقع المعاش كوسيلة لتحقيق السعادة والرفاهية للإنسان. والعلمانية جعلت الإنسان الأوروبي ينظر للحياة الإنسانية من خلال أربعة اتجاهات فكرية وفلسفية. وهي الفلسفة الوجودية والفلسفة التحليلية والفلسفة البرجماتية والفلسفة الماركسية وكلها ساعدت في تطور العقلية الأوروبية وفي صنع حضارته. والأن دعونا نتوقف قليلاً عند الفلسفة الماركسية مع الوعد بوقفات أخرى مع بقيت الفلسفات المعاصرة الثلاثة الباقية ومع وقفة تأملية ونقدية للتراث الديني في المستقبل القريب. الفكر الماركسي ولينيني أو الشيوعي يتكون من ثلاثة محاور وهي (المادية الجدلية والاقتصاد السياسي وعلم الطبقات الاجتماعية) وقد ظهر في أوروبا نتيجة الاستغلال الإنساني الفظيع لأخيه الإنسان. فقد ظهر الفكر والفلسفة الماركسية نتيجة لان الألاف من العمال الأوروبيين الذين كانوا يعملون في المصانع والمزارع والمناجم والخدمات كان نتاج عملهم يذهب أغلبه إلى أصحاب هذه المنشأة وينالون هم أي العمال الفتاة منه فقد نادت الماركسية بالعادلة في توزيع الثروة. لقد جاءت الشيوعية لمحاربة الاستغلال الواقع على العمال في كل نواحي النشاط الاقتصادي في أوروبا ولتحسين ظروف العمل بشكل شامل للعمال الأوروبيين الذين كانوا يعيشون تحت ظل ظروف مهنية سيئة للغاية. لقد جاءت الماركسية لمحاربة الاستعمار الأوربي للشعوب الأخرى واستغلالها اقتصاديا وسياسيا. كما حاربت الشيوعية الاستغلال الكنسي المسيحي للشعوب الأوروبية باسم الدين ورفضت الشيوعية الممارسات السيئة للكنسية المسيحية مثل صكوك الغفران مقابل حجز مكان للمتدين في الجنة في اخرته ولقد حاربت الماركسية الكنيسة للكثير من الممارسات الدينية السيئة ومنها إخضاع الشعوب الأوروبية للعمل بأراضيها تحت ظروف سيئة ومقابل الفتاة من الرزق تحت معنى الإرضاء الإلاهي عن العبد وحتى ترضى الزعامات الدينية عن أتباعها وقد جاءت الشيوعية لرفض تسلط الحكومات الملكية والدكتاتورية المتحالفة مع الكنسية ضد شعوب أوروبا. ولقد نادت الماركسية بدراسة العالم والإنسان بشكل علمي ومعالجة قضاياه بصورة علمية ومعرفية ونادت بتفسير الظواهر والنشاط الإنساني تحت مظلة العلم والمعرفة. لهذا كله ظهر الفكر الماركسي واللينيني لاحقاً في الحياة الفكرية الأوروبية. ولكن في خضم صراع الفكر الماركسي ضد أعدائه وقع في إشكالات نظرية كبيرة رغم منجزاته الفكرية الرائعة والتي من أهمها المعرفة بالمكون المادي أو الاقتصادي كأساس للحياة الإنسانية ولكن نتيجة لنشأتها لم تعترف النظرية الماركسية بالمكون الأخر للحياة الإنسانية وهو المكون المعنوي ,ورغم اهتماها العظيم بالأخلاق والسلوكيات المجتمعية والترابط و التضامن الاجتماعي ولكن الاعتراف بأن المكون المعنوي أو السلوكي هو الطرف الأخر المؤسس للحياة الإنسانية كان ينقصها. فقانون الحركة وممارسته على الحياة الإنسانية هو من أروع اكتشافات النظرية الماركسية والذي يدعم رأي تماماً. فقانون الحركة الذي ينتج من طبيعة التضاد في الأشياء مثل حركة الموجب نحو السالب وحركة الليل والنهار و حركة اللون الأبيض مع اللون الأسود وحركة الجسم الفيزيائي ما بين صعود وهبوط وغيرها من مظاهر الحركة المتضادة. فأي شكل في الكون لكي يتحرك يحتاج إلى طرفين متضادين. وهنا حين نطبق قانون الحركة على حركة ونشاط الحياة الإنسانية نجد الطرفين هم الجانب المادي والجانب المعنوي أو السلوكي وهما اللذان يصنعان حركة النشاط الإنساني. والسبب في تجاهل الفكر الماركسي للجانب المعنوي هو اهتمام مفكريه بمشاكل الاقتصاد والسياسة في أوروبا والتي فرضت نفسها علي كل تفكيرهم وأيضاً بسبب تمثل الجانب المعنوي أو السلوكي في شكل الكنسية المسيحية وممارستها الاستغلالية للبشر فتم رفض الديانات والشكل المعنوي لظلم الإنسان. و سبب أخر هو اختلاط المفهوم المعنوي للإنسان في الفكر الأوروبي السابق للماركسية بالغيبيات والميتافيزيقيات والخرافات مما أدى إلى تشوه المفهوم والطبيعة المعنوية للإنسان أمام المفكرين الماركسيين مما أدى إلى رفضهم لهذه الأشكال المشوهة للمكون المعنوي للحياة الإنسانية ومن الأسباب أيضا أن العلم والمعرفة بالسلوك الإنساني وطبيعة الجانب المعنوي كانت في فترة ظهور الفكر الماركسي في بداياتها فلم يتسنى للمفكرين الماركسيين الاطلاع المعرفي على هذا الجانب . وكل هذه الأسباب قادت إلى عدم وجود البديل العلمي للنشاط المعنوي الديني فاكتفت الفلسفة الماركسية برفض الفكر الديني المعنوي ولم تعطي بدائل لهو وهنا كان القصور الفكري الكبير. فلقد استغل الغرب اليوم هذا الفراغ المعرفي للجانب المعنوي في الفكر الماركسي أسوء استغلال من خلال تسخير الدين واستخدامه من خلال صنع كيانات دينية ذات طابع متعصب وموالي له لمحاربة الفكر والفلسفة الماركسية ولمحاربة التقدم الحضاري للدول العربية والإسلامية من خلال زعزعة استقرارها ونهب ثرواتها باسم الدين. فلقد استغل الغرب عدم وجود بديل علمي للمكون المعنوي أو السلوكي للنشاط الإنساني في الفكر الماركسي أسوء استغلال. ولهذا كله يجب العمل على تشكيل رؤية وفلسفة علمية معاصرة لطبيعة ودور ومحتوى الجانب المعنوي والسلوكي للنشاط الإنساني فلقد تراكمت ثروات معرفية وعلمية ضخمة الأن وهي تهتم وتدرس الجانب المعنوي للحياة الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السلوكية وعلم البرمجة العصبية اللغوية وبعض العلوم القانونية وغيرها من العلوم الأخرى. فهذه العلوم انصب اهتمامها على دراسة المكون الثاني أو الطرف الأخر لقانون حركة الحياة الإنسانية وهو المكون أو الجانب المعنوي أو السلوكي للبشر. والان الفكر الماركسي يحتاج إلى إعادة النظر في رؤيته الفكرية ويحتاج إلى إيجاد البديل الفكري للجانب المعنوي أو السلوكي وذو الطابع العلمي للإنسان مكان الفكر الديني والعشائري والبدائي المتخلف عن متطلبات هذا العصر. وكذلك هناك قصور في أحد مكونات الفكر الماركسي أي في علم الطبقات الاجتماعية فقد أقرت النظرية الماركسية بأن المجتمع في وضعه المثالي يتكون من طبقة العمال فقط وفي وضعه الثوري يتكون من طبقة العمال والطبقة المضاد له أي طبقة الرأسمالية وهنا حسب قانون الحركة الاجتماعية يحدث حراك في المجتمع وصراع وثورة بين العمال وطبقة الرأسمالية حتى ينتهي الحال بانتصار العمال و حدوث الاستقرار على هذا الوضع. في رأي هذا الحديث ليس صحيح تماماً فالمجتمع يتحرك أيضا في الوضع المثالي له من خلال طرفين هم الطرف التنفيذي وهم العمال والطرف الإشرافي أو التشريعي وهم الإداريين أو التشريعيين . فقانون حركة المجتمع يتكون من طرف تنفيذي وطرف أشرافي فالمجتمع ليس ساكن في الوضع المثالي حتى يتكون من طبقة واحدة فقط بل هو متحرك في وضعه المثالي كما هو متحرك في وضعه المغلوط . فالصحيح هو تحالف الطبقة التنفيذية وهم العمال مع الطبقة الإشرافية الصحيحة وهم الإداريين والتشريعين والعلماء ضد الطبقة الاستغلالية من الرأسماليين وتجار الدين حتى يحل مكانهم طبقة الإشرافين والإداريين المؤمنين بالعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة على المجتمع والمتصفين بالعقلية العلمية. فأنا هنا في هذا المقال أدعو إلى السعي لتطوير الفهم والفكر الماركسي والينيني وعدم التحجر في الماضي. وكذلك أدعو إلى دراسة الفكر الوجودي الفرنسي والفكر التحليلي الإنجليزي والفكر البروجماتي الأمريكي. و أيضا دراسة ونقد الفكر والتراث الإسلامي والمسيحي حتى نصنع مزيج متكامل من هذه البوتقة ينتج عنه ظهور فكر إنساني حديث ومتكامل ومعاصر. فكل رؤية أو فكر من هذه الفلسفات كان يجيب على جانب معين من جوانب الحياة الإنسانية. وكما قال المفكر العربي الرائع أ.د زكي نجيب محمود في الاتجاهات الفلسفية والفكرية الأربعة المعاصرة أنها جميعا تكمل بعضها البعض رغم التنافر الحاصل بين شعوبها التي تبنتها والذي جاء نتيجة للصراع الدائر بينهم لفرض السيطرة. فأنا اتفق مع د. زكي في قوله :(هكذا نرى أن المذاهب الفلسفية في عصرنا حين اختلفت فهي إنما اختلفت في الجانب الذي تكون له أولوية النظر عند كل منها, دون أن تكون الجوانب المتعددة متعارضة في ما بينها , بل هي جوانب يكمل بعضها البعض, ونستطيع أن نأخذ بها جميعاً.) وكذلك قال د. زكي: ( وكدت أقول إنه لابد أن نأخذ بها جميعا في وقت واحد (أو عصر واحد). إذ لا تعارض هناك بين أن نقر للإنسان بحريته (وتلك هي الفلسفة الوجودية) وأن نبين لتلك الحرية ضوابط المنطق لتلتزم حدودها (وتلك هي الفلسفة التحليلية)، وأن نشترط لها كذلك التزام بالأهداف المراد تحقيقها ( وتلك هي البرجماتية) مدخلين في حسابنا دائماً ضرورة الواقع المادي الذي سنجري على أرضه لتحقيق أهدافنا ( وتلك هي المادية الجدلية) والقول لا يزال للدكتور زكي ((فهناك زوايا أربعة كما ترى يكمل بعضها بعضاً أكثر جداً مما يتنقض بعضها بعضا, فلكل منها سؤال يراد الجواب عنه. فالسؤال عند الوجودية هو: من؟ والسؤال عن التحليلية هو: ما المعنى؟ والسؤال عند البرجماتية هو: ما الهدف؟ والسؤال عند المادية الجدلية هو: كيف يحدث؟ وكيف يتغير؟ وكلها أسئلة ضرورية للموقف الواحد... والجذر الذي تلتقي جميعاً عنده أو الجذر المشترك في فلسفات عصرنا هو الإنسان. وهو التصور الذي يجعل الإنسان محوراً يدير نفسه ولا يُدار من خارجه, فالمحور الفلسفي الرئيسي لعصرنا هو النظرة الإنسانية التي تجعل من الإنسان مبدأ وغاية, وتجعل هذه الحياة هي الأولى والأخيرة.)) وأخيراً هناك أهمية لحركة النقد والبحث والفرز والغربلة التاريخية للتراث والفكر الإسلامي والديني حتى نستخلص منه ما هو مواكب ونترك ما هو معرقل وندمج كل ذلك مع بوتقة الفلسفات المعاصرة. والإبداع سوف يكون في عملية الدمج وفي الممارسة الفكرية للواقع المعاش من خلال الرؤية المتكاملة والشاملة الحديثة. معاذ عمر حمور [email protected] عنوان الفيس بوك:https://www.facebook.com/maaz.omar.h