النظام الخالف: خيمة الاسلاميين الأخيرة ورهانهم المجهض في مآلات ومصائر المؤتمر الشعبي اعتاد الدكتور الترابي على طرح مشاريعه وبرامجه السياسية تحت عناوين وأسماء غامضة وملتبسة تثير جدلاً ومغالطات حول مضامينها السياسية أو حتى معانيها اللغوية المباشرة. هو مولع بهذه الممارسة التي تستدر إعجاب مؤيديه الذين يعتبرون غموض هذه العناوين جزءاً من عبقرية الزعيم وهي ممارسة تساهم في نفس الوقت في التشويش والتعمية وإخفاء الأهداف الحقيقية التي لا تستبين إلا بعد تحقيق تلك البرامج. ففي نهاية التسعينات وقبل المفاصلة مع جماعة البشير، شغل الترابي الأوساط السياسية والصحافية بمشروع التوالي السياسي وكأنه إختراعاً جديداً في العالم، ليتكشف أخيراً أنه ليس سوى تعدد الاحزاب من حيث المعني، وإلحاق هذه الأحزاب بالنظام في دور ديكور مظهري من حيث المضمون السياسي. وعلى هذا المنوال جاء طرح مشروع النظام الخالف والذي ما زال حزب المؤتمر الشعبي يردد أصداءه، فما هي حقيقة هذا النظام الخالف من حيث مضمونه السياسي والاجتماعي؟ وتحديداً ما الذي كان يخطط لفعله الترابي في الواقع؟ وهل ما زال هذا المشروع واردا؟ أي هل في استطاعة المؤتمر الشعبي أن يحقق مشروع النظام الخالف كما خطط له الترابي؟ صحيح أن الترابي لم يفصح عن حقيقة هذا المشروع وظل هو وقيادات الشعبي حتى اليوم لا يزيدون عن ترديد اسم البرنامج وإطلاق عبارات إنشائية جوفاء في وصفه. لكن، لما كانت مسيرة الترابي السياسية، ممارساته، أقواله، وكتاباته مبذولة، فإنه يمكن استقراء كل ذلك واستخلاص التصور الحقيقي لمشروع النظام الخالف.* طرح الترابي فكرة النظام الخالف في إعقاب خروج المؤتمر الشعبي من تحالف قوى الاجماع الوطني واستجابته لحوار الوثبة. وقد حدث هذا الخروج بعد سنوات أمضاها الشعبي في معارضة عالية الصوت للنظام وتقارب فيها الشعبي من أحزاب المعارضة الوطنية، و دخل عدد من قادته المعتقلات وتعرضت كوادره للتعذيب. في هذه الفترة تحسنت صورة الشعبي نسبياً وحاز مقبولية في الساحة السياسية، وبدأ وكأنه تطهر من جرم انقلاب الانقاذ، وجرائم النظام في عشريته الأولى وتهيأ المؤتمر الشعبي وزعيمه الترابي لإستشراف مستقبل سياسي جديد بعد سقوط النظام. لكن من المؤكد أن الترابي قد تحقق في تلك السنوات من معرفة الحجم السياسي والتنظيمي المحدود للغاية لحزبه ، وأنه ما من انتخابات قادمة ستوفر له حظا في الحكم أو فوزاً مقدراً ضمن تحالفه التكتيكي مع قوى الاجماع. ولإدراكه درجة الإحتقان السياسي بعد سبتمبر 2013 وعمق الأزمة التي تواجه النظام الحاكم وحوجته الماسة لانفراج سياسي، رأى الترابي فرصة سانحة لمناورة سياسية يستعيد بموجبها ليس فقط نفوذا ووضعا أفضل في المشاركة في السلطة، بل يستعيد بها وضعا زعاميا أشبه بوضع الجبهة الاسلامية قبل الإنقلاب في 1989. تقوم هذه المناورة على معادلات وركائز الاحتياجات المتبادلة بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي لخروج كل طرف من أزمته الخاصة ضمن مشروع يكرس السيطرة للحزبين بعد توحيدهما ويستبعد القوى السياسية الأخرى بطريقة أقل كلفة و قابلة للتسويق وطنياً وإقليمياً ودولياً. معادلات و ركائز النظام الخالف:* يمكن النظر الى ثلاث ركائز استند عليها مشروع حزب المؤتمر الشعبي في طرح النظام الخالف: I. نظام الانقاذ:* الازمة العامة التي يعيشها نظام الانقاذ وصلت مدى لايمكن للنظام أن يتجاهله ويستمر على منواله القديم، فلا بد من تغيير يطال بنية الحكم، و يمثل التحول الديمقراطي الخيار الأكثر أمنا بالنسبة للمؤتمر الشعبي نظرا لان الخيارات الاخرى تتطلب التعامل مع القوى الأمنية والعسكرية للنظام، اما بكسبها أو ضربها وهما خياران ليس للشعبي قدرة على اي منهما. Ii. المؤتمر الشعبي: حجمه السياسي والتنظيمي وإمكانياته المادية الضعيفة لا تؤهله لنيل مركز سياسي كبير بعد زوال نظام الانقاذ سواء كان في تحالف قوى الاجماع الوطني أو كمركز معارض مستقل. يضاف الى ذلك عدم إطمئنان المؤتمر الشعبي لنوايا قوى الاجماع تجاهه، فرغم التطمينات الشفاهية بتجاوز الماضي ليست هناك أية ضمانات بعدم مساءلة الشعبيين حال سقوط النظام. Iii. المؤتمر الوطني:* سيتعرض الى خسائر فادحة حال تفكك وسقوط النظام. فرغم الثروات المالية والامكانيات المادية التي سيخرج بها منسوبوه من تجربة الحكم، الا أن مسؤليتهم السياسية والقانونية والاخلاقية عن سنوات الحكم الديكتاتوري والفساد والجرائم، لن تجردهم من السمعة وحسب، بل وتجعل العديد منهم ملاحقين بالقضاء والصحافة. على هذه الركائز طرح الترابي مشروع النظام الخالف بإعتباره مخرجاً للحزبين الوطني والشعبي من الأزمة التي يواجهها كل منهما،ضمن معادلة تقوم على استثمارا كل حزب في الآخر بحسب الميزة التفضيلية التي يتمتع بها: السمعة السياسة والزعامة القوية عند الشعبي، والامكانيات المادية وجماهير حزب الحكومة عند الوطني.* جوهر فكرة النظام الخالف: استعادة تجربة الترابي والجبهة الاسلامية بعد انتفاضة أبريل 1985* في أعقاب سبتمبر 2013 ، وكما هو معلوم فقد استشعر النظام حقيقة الأزمة السياسية وخطورة استمراره دون إجراء سياسي ما يقود الى إنفراج ولو محدود. هذه هي خلفية خطاب الوثبة الذي دشن ما يسمى بالحوار الوطني. بالنسبة للترابي وحسب ما ردد كثيرا، فإن عودة الحريات ستؤدي الى تحول ديمقراطي يجدد به النظام دماءه في فترة انتقالية تعقبها انتخابات عامة. إصرار الترابي على مسألة بسط الحريات مفتاح مهم لمشروع النظام الخالف لسبب جوهري للغاية هو أن عودة الحريات وتحجيم سلطات جهاز الأمن ستخلخل بنية النظام ويبدأ في التفكك، وستفتح أبواب الجحيم على عدد من رموز حزب المؤتمر الوطني الذين ستلاحقهم القضايا والتهم القانونية، وتلاحقهم الصحافة الحرة، وتحاصرهم الجماهير، وهؤلاء في معظمهم هم من أبعدوا الترابي عن السلطة وناصبوه العداء. أما الغالبية من قيادات وكوادروجماهير المؤتمر الوطني فسيجدون أنفسهم بلا قيادة زعامية الإ الترابي فيتدافعون اليه وينضمون تحت لوائه بأموالهم ونفوذهم وعلاقاتهم في جهاز الدولة، بل سينضم اليه حتى الأحزاب المتحالفة مع النظام من أتحاديين وغيرهم ليقوم هو بتوظيف هذه المقدرات للدخول في مرحلة الانتخابات كأقوى وأغنى حزب بالنظر الى أوضاع أحزاب المعارضة التي ستتنافس معه في الانتخابات. ولا شك أن النتيجة المباشرة لتنفيذ هذه الاستراتيجية هي تعزيز الوضعية الزعامية للترابي ووجماعته بإعتباره المنقذ و الملجأ الذي حمى منسوبي الوطني من المصير الاشنع الذي كان يتربص بهم. هذا هو الوضع السياسي النموذجي الذي سعى الترابي الى خلقه باسم النظام الخالف، وهو وضع أشبه بالمناخ الذي طرح فيه مشروع الجبهة الاسلامية بعد سقوط نميري وعودة الحريات، حيث تمت ملاحقة رموز النظام المايوي بالمحاكم والصحافة، فتدافع المايويون الى صفوف الجبهة الاسلامية بأموالهم وإمكانياتهم كملاذ آمن من الملاحقة والعزل بعد إنهيار نظامهم وتمكن الترابي عبر توظيف تلك الامكانيات من بناء تنظيم واسع ذي قدرات حركية عالية أهلته لإحراز المركز الثالث في الانتخابات العامة، ومهدت له الطريق الى السلطة. تحديات في وجه النظام الخالف: لكن، ومنذ البداية، كانت تنتصب في وجه مشروع النظام الخالف تحديات سياسية كبرى: تحديات من جهة النظام الحاكم 1. أولها وضعية ومستقبل الرئيس البشير الذي يمثل له البقاء في السلطة الضمانة الوحيدة من الملاحقة الدولية والسودانية. وهو تحدي لا يملك له الترابي حلا وربما كان رهانه على مساعدة ومبادرة من بعض الدول العربية في المنطقة لتقديم الحل وفق تفاهمات دولية محددة. 2. وضعية القيادات المرشحة للتضحية بها في سبيل تحقيق التحول الديمقراطي سواء بالعزل السياسي أوبإستخدامها ككباش فداء تلاحق وتحاكم بعد أن تعلق بها كل الجرائم والمفاسد والأوزار، لأن كثيرا من هذه القيادات تحتل مراكزا هامة في الأجهزة الأمنية ولها صلاحيات واسعة، ويبدو أن رهان الترابي كان على استخدام سلطات الرئاسة المستقوية بالجيش. 3.. المستفيدون الآنيون من المصالح الاقتصادية التي تديرها وتهيمن عليها الأجهزة الأمنية وشبكاتهم داخل أجهزة الدولة، ربما كان هذا هو أقل التحديات خطورة لأنه مرتبط بما سبق. تحديات من جهة القوي السياسية الأخرى: ومن المفهوم أن القوى السياسية الوطنية ستشكل تحديا في مواجهة هذا المشروع الذي هو في جوهره إعادة أنتاج سيطرة نفس القوى والفئات التي حكمت في ظل الانقاذ عبر بوابة التحول الديمقراطي وفك أزمة النظام وعزلته. لقد ذكر الترابي أن النظام الخالف مشروعاً مطروحاً ومقدما لكل القوى السياسية لتحقيق الوفاق الوطني ولكن هذا لا يعدو كونه كلاماً للاستهلاك لا يفوت على أحد.* لابد أن هذه التحديات كانت واضحة أمام الترابي ومن المؤكد أنه أعد عدته للتعامل معها بطريقة شخصية قبل وفاته، لكن السؤال هو هل هناك من خلفاء الترابي في المؤتمر الشعبي من يتصدى لتلك المهام ضمن مكونات النظام الخالف، وبنفس درجة الفعالية والتأثيرالتي توقعها الترابي؟ بوار برنامج النظام الخالف لقد نهض مشروع النظام الخالف على أساس تفاهمات جرت بين الترابي والرئيس البشير ويبدو أن الأمر سار خطوات في الاتجاه الذي خطط له الترابي، فصدرت القرارات التي أبعدت بعض الرموز من القيادات من مراكز القرار، و تم تكوين آليات الحوار وشرعت أطرافه في عقد الجلسات، ثم مات الترابي فإستعادت الأطراف التي يتهددها النظام الخالف من قيادات الوطني زمام المبادرة وجيرت مؤتمر الحوار لصالح أجندتها بجعله مؤتمرا لصالح كسب الوقت تم توسيع قاعدة النظام بإضافة مجموعات من القوى التي لا وزن لها في ساحة العمل المعارض. مات النظام الخالف بموت الترابي، لأنه كان مشروعاً مستنداً على الزعامة الشخصية للترابي، وعلى قناعة أطراف في النظام بإمكانيات الترابي في ايجاد المخارج. فقيادة المؤتمر الشعبي التي خلفت الترابي لا تملك قدراته الكاريزمية ولا القيادية و لا روح المغامرة والطموح الذي تمتع به. بل وانخرطت في فعاليات مؤتمر الحوار وفق أجندة الحكومة وفي حدود أهداف النظام من المخرجات رغم ترديد القيادات لعبارات النظام الخالف وحزمة الحريات وغيرها من قاموس الترابي. المؤتمر الشعبي الى أين؟ ظهر جلياً أن المؤتمر الشعبي في غياب الترابي قد عاد الى حجمه كحزب صغير بلا إمكانيات سياسية أو مادية أو قدرة على المناورات، كحاله عشية خروجه من تحالف قوى الاجماع الوطني، بل أكثر ضعفاً وأقل حيلة. ومن الواضح أن مشروع النظام الخالف، كمشروع لوراثة نظام الانقاذ عقب تفكيكه، وإعادة تركيب عناصره في ظل تحول ديمقراطي قد تبدد وذهبت ريحه بوفاة عرابه ولم يتبق أمام الشعبيين الا ما هو متاح لغيرهم من الأحزاب الدائرة في فلك المؤتمر الوطني. في الغالب ستحسم القيادة الحالية للشعبي موقفها بالمشاركة في السلطة بحسب ما يجود عليها به الوطني، وستواجه تياراً من قواعدها وكوادرها الوسيطة رافضاً لهذه المشاركة، مردداً شعارات وأحلام الترابي في بسط الحريات وتحجيم الأجهزة الأمنية، دون أن يكون له تأثير يذكر. هل سينقسم هذا التيار ويمييز نفسه من قيادة السنوسي وكمال عمر اذا قبل الأخيرين المشاركة؟ أم ستحتوي القيادة هذا التيار وتسوقه معها بالوعود والآمال؟ أيا ما تكون النتيجة، أتوقع أن لا يكون للمؤتمر الشعبي دوراً ذا شأن في المشهد السياسي إن لم يتبدد قريباً أيدي سبأ. *الجودة قادم *