أشعر بدبيب قشعريرة في نفسي وأنا أتفكر في العواقب التي عادة ما ترتبت على نوع تبغيض الدكتور النور حمد في الرعاة وعقلهم الرعوي. فهم عنده شر مستطير. فعقليتهم تقف في وجه نور العقل، وسائر القيم الرفيعة، بل وفي وجه العدالة وحكم القانون. فتأكل هذه العقلية الدولة وحكم القانون كما يأكل السوس الجذوع. فمرتكز ثقافة الرعاة تأمين متطلبات البقاء بالقوة الباطشة بنزعتهم للقهر والغلبة وانتزاع الحيازات. فيرهبون الناس "استباقياً" بالفخر في مثل قولهم: ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا فتنشأ نزاعاتهم حول المراعي و"بسبب أمور تافهة كسرقة بهيمة مثلاً". وهم يبطشون لأن عقلهم متحفز لا يفكر صاحبه مرتين قبل أن يخف إلى سلاحه ليشهره في وجه الآخر. فقيمهم لا تنزع للتوسط ولا النظر الموضوعي للأمور. فقيمهم هي قيم النصر أو الموت أو عار الأبد. ويخول العقل الرعوي لصاحبه حق الخوض في كل شيء بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فعقلهم هو نفسه الذي فتح على العالم باب جهنم بفعائل الفاشية والنازية والكوكلسكلان (العنصريون البيض قتله السود الأمريكيين) وداعش والقاعدة اللتين خرجتا "من البنية العقلية الرعوية الوهابية". ما تقشعر له نفسي أن مثل هذا التقبيح لجماعة هو من نذر الجنوسائد المؤكدة. وأربا بالنور الجنتلمان، ممن تربى على أفضل قيم الإسلام والإنسانية، أن يضمر مثل هذه الجريمة بحق الرعاة وحملة عقلهم. ولكن الحق حق. فالجنوسائد عادة ما أطل برأسه الدموي من مثل هذا التوصيف لجماعة ما: شريرة في ذاتها ولا تلد إلا كل شرير. فالجنوسائد تعريفاً هو قتل المرء ببساطة لأنه جاء إلى هذه الدنيا كجريمة مكتملة الأركان ضد الإنسانية، ونور عقلها، وأحكام عدلها، وشرائع حداثتها. فهي جريمة ترتكبها جماعة ما لكون الأشخاص المستهدفين آدميين مما لا ترضى عن مجرد وجودهم على ظهر البسيطة. وهذا خلاف القتل ببينة السياسة مثلاً. كما لا اعتبار في جرائم الجنوسائد لعدد الضحايا. فلربما كانت الجماعة المستهدفة قليلة العدد أصلاً. فالجنوسائد هو القتل على الهوية العرقية أو لأسلوب حياة مما لا يملك المرء تغييرهما كأن تكون يهودياً أو توتسياً. ولهذا قال أحد التوتسي يستعطف قتلته من الهوتو خلال جنوسائد رواندا 1996 "لن أكون توتسياً في المرة القادمة". وصارت عنواناً لكتاب رائج. وكشفت العبارة عن استحالة نجاة المستهدف بالجنوسائد من القتل إلا بوعد أن يصير شيئاً غير التوتسي متى ولد ثانية في الكون. وقياساً يمكن للراعي القول حيال كره النور له على الهوية: "لن أكون راعياً في المرة القادمة". سيقول أكثر الذين عرفوا النور:"بالغت". بل لقد سبقتهم بإشهار مبالغتي. ولكن لا حياء في العلم. فكل جنوسائد سبقه تنظير في تسوئة الجماعة المستهدفة مثل اليهود. وهذا ما ساقه إلينا النور من تبغيض للرعاة في تشريحه للعقل الرعوي. ولذا طلب منا الضليعون في دراسة الجنوسائد ألا يلهينا علم أو نعومة من يسوئ جماعة على حد هويتها عن التحوط لما سيقع من جرائم تجد تبريرها في التبشيع بالجماعة المعينة. ولهذا قالوا إن مرتكبي جريمة الجنوسايد والبادئين به هم منظرون ذوو عقول باردة بالدرجة الأولى ثم هم برابرة بالدرجة الثانية. قام تنظير النور عن هوية الرعاة أو عقلهم في مقابل الحضر على ثنائية جدل العقل الرعوي والعقل الحضري المدينى. ورأيناه يكيل بالمد الكبير للرعاة لم يترك باباً في جفائهم وغلظتهم وقلة عقلهم لم يطرقه. وانتهى من هذا كله إلى وصف هذه الثنائية مرة أخري ب "الأنسية والوحشية". فصارت الوحشية هي أم صفات الرعاة وعقلهم تنتظم من تحتها سائر شرورهم الأخرى. ويقوم تعريف الجنوسايد تحديداً على عثور المنظر على مثل هذه الصفة أو العاهة الشاملة. فيقول أحدهم إن الجنوسائد هو عملية تُبَخّس فيها هوية المرء وسلوكه وتُسْتَقذر. وتصبح هذه الهوية العاهة هي الوصفة الرئيسة التي يتعرف بها المرء على الجماعة ويفسر بها سلوكها. وتصير الصفة، التي لا قبلها ولا بعدها، سبيلاً للآخرين لإدراك سائر صفات المرء وخلائقه وكسبه. فمتى اتفق للآخرين إن جماعة ما هي تجسيد الشر والتآمر مثلاً تداعوا لدرء عواقب هذه الصفة الجامعة المانعة بقتل هذه الجماعة لتهديدها الناس الأسوياء. شمل النور شرور الرعاة وعقلهم في صفة "الوحشية" مما ينذر بالأذي العظيم الذي سيقع عليهم متى تمكن هذا المصطلح عن هوية الرعاة من الناس، وصار نافذتهم الوحيدة لمعرفتهم. ولنا في ما وقع لشعب الروما (الحلب) تحت ظل النازية في ألمانيا في الثلاثينات عظة وعبرة. وكان أكثر حزازة الأوربيين عليهم أنهم وحشيون رحل لا يعرفون الاستقرار الذي هو عيش الناس الأسوياء. أما الترحل، ويصفونه بأنه على غير هدي (roaming)، فهو كار الأشقياء وحيوان الفلاة. فأخضعهم النازيون لجنوسائد أهلكهم وإن غطى على جوره الهولكوست اليهودي. وبلغت هذه التغطية حد الضرار لرفض بعض صفوة اليهود وصف ما وقع للروما جنوسائد معادل للهولكست. وقال إيلي ويسلي، شيخ من شهدوا وقيعة المحرقة اليهودية وعاشوا ليحكوا عنها بإسراف، إنه جرت مقاتل للروما في سائر أوربا إلا أن خطط النازييين لاستئصالهم لم يجر استكمالها ولا جرى تطبيقها بصورة كاملة. ولكن خطط النازية للقضاء على اليهود الأوربيين، من الجهة الأخرى، لم تُستَكمَل فحسب بل طُبقت بحذافيرها. توج جنوسائد النازية كراهية أوربية عامة سبقت للروما الذين خضعوا لقوانين جائرة مذ جاؤوا إلى أوربا. وجرى اعتزالهم على بينتين. الأولى هي لونهم المائل إلى السمرة. أما الثانية فهي عيشهم المترحل. ومن أوائل تلك القوانين الجائرة ما صدر في 1721 من كارل السادس أمبراطور النمسا-هنغاريا الذي قضى باستئصالهم. وطُبّق القانون بحرفه في نطاق ألمانيا الحالية. وتبعت ألمانيا كل من رومانيا وفرنسا وأسبانيا بقوانين تطوق الروما وتقتلهم على الهوية. ثم جاء دور الصفوة الألمانية وغيرها لأدلجة القضاء على جنس الروما الذين بلا دار واليهود الذين بلا وطن. وهم ذات المنظرون الذين قيل عنهم أنهم ذوو العقول الباردة الذين يسوغون للبرابرة قتل المستهدفين على الهوية. فكتب رموز هذه الصفوة في القرن التاسع عشر عن اليهود والروما كمخلوقات من الدرجة الثانية وكخراء الإنسانية. فحتى شارلس دارون نفسه وصم الجماعتين بأنهما لم يبلغا مبلغ تقدم الأوربيين الثقافي. وساقت الريبة في اختلاف الروما عن الأوربيين ثقافة وديناً إلى ذائعة أنهم سحرة ومصاصو دماء. كما ساقت إلى فهم أنهم جميعاً سراقون وإجرامهم متوارث جينياً، ويمكن أن يَعدي من احتك بهم. ولم يرتفع سيف الاضطهاد عن الروما حتى في جمهورية فاريمار في ألمانيا التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى لتقضي عليها النازية في 1933. فمع اعتراف الجمهورية بحقوق الروما كمواطنين إلا أنها أصدرت في 1926 قانوناً صنّفهم، ناظراً إلى نمط حياتهم، مع المشردين والكسالى الذين لا يروق لهم العمل. وجرى منعهم من الترحل في جماعة وأخذوا من لا عمل له معروف للدولة إلى معسكرات السخرة. وجاءت النازية تتويجاً لهذه الحزازات العرقية ضد الروما. فكان رأيها أنهم غير مرغوب فيهم عرقياً ولا مكان لهم في المجتمع المنظم لأنهم رحل لا يعرفون دواماً راتباً. فالروما عندهم ليسوا أسوأ من اليهود ولكنهم جوابو أفاق خلو من الدم الآري. واستغرق النازيون في حساب درجة صفاء الروماوي. فإذا اختلط بدم غيره خفت عقوبته. فتجد بعضهم جرى استئصاله، وبعضهم جرى استرقاقه، وجرى تعقيم بعضهم، وتركوا آخرين أحياء. وما لبث أن جاء هتلر في 1933 ليصدر خلال 4 شهور من توليه الحكم قرارات ضد اليهود والروما والسود والمثليين ممن وصفهم بالعيش في حياة لا تستحق. وفي 1937 جرى وصف الروما واليهود رسمياً كمواطنين من الدرجة الثانية في تجريد واضح لحقوقهم المدنية. وفي 16 ديسمبر 1934 صدر الأمر بحمل الروما إلى معسكر الاعتقال الرهيب في أوشوتز للقضاء عليهم. وقُتل من الحلب 220 ألف شخص خلال الحرب على يد النازيين. سنتفاءل أن شيئاً مما وقع للروما لن يحدث عندنا. ولكن حزازتنا الفكرية والبروقراطية ضد حياة الترحل كبيرة. ووقع منها أذى كبير على البادية. فما أن تسلم الإداريون السودانيون زمام السلطة حتى صار شرطهم لتطور الرعاة هو استقرارهم. ورأينا في حلقة مضت كيف وصف إيان كنينيسون، صاحب كتاب "عرب البقارة"، هذا الشرط بالعدواني. وأباحت الحكومة أرض الرعاة للمستثمرين في الزراعة الآلية التي زكاها لها البنك الدولي كالاستخدام العقلاني للأرض. وبلغت هذه الإباحة حداً من العظم تسببت معه في مشكلة راهنة هي تعذر الرعي للرعاة لأن مراحيلهم قد استحوذت عليها الرأسمالية الزراعية بالريف. وسنرى كيف يسوق مثل تنظير النور عن الرعاة إلى ضروب من ظلمهم. فسنقرأ في المقال القادم كيف جرد الدكتور القراي المسيرية من كل حق في منطقة أبيي ببينة أنهم رحل. والرحل حقهم في كرعيهم. . أخطأت ترقيم المقال السابق. فجاء بالرقم 7 وصحيحه 8. اعتمدت بشكل كبير على الويكبيديا في عرضي لمسألة الروما. [email protected]