صور الأستاذ النور حمد العقل الرعوي (القبلي) في تجلياته العربية تصويراً هو أدنى للتبشيع. فهو عقل جمعي لا يستقل الفرد باستقلال الرأي به. وتنفي آلياته سلطة العقل والمنطق والحجة. ويستبد به الزهو الأجوف، والشعور الدائم بالاكتمال والاكتفاء، في إطار الترديد الببغاوي، للمقولات المحفوظة. وبهذه الأوصاف، في قوله، تقف بنية العقل الرعوي، بحكم تكوينها، في وجه نور العقل، وفي وجه الحداثة، وفي وجعه التطور والتجديد، وفي وجه سائر القيم الرفيعة، بل، وفي وجه العدالة وحكم القانون، معيقةً، بذلك، تحقيق كل أولئك على الوجه الصحيح. بل تجر هذه المعاني العذاب إلى الأرض. وليس بعد ذهاب العقل كفر. وصدق في تصوير النور للرعاة عنوان كتاب أعجبني. فهم مثل من ولدوا كجريمة تاريخية (born a crime) أو كخطأ أصيل في معمار الرب. لم أجد في رد النور حمد لمحنة العرب ماضياً وحاضراً إلى عقلهم الرعوي ذلك الورع الذي انتاب الدراسات الاجتماعية والإنسانية المعاصرة حيال تصوير الذات للآخر بعد صدور كتاب "الاستشراق" لإدورد سعيد في 1978. وهو الكتاب الاستثنائي الذي كشف عن الشوكة السياسية للغرب التي اكتنفت ميلاد الصور الرائجة عنا معشر أهل الشرق. وصارت به سياسات تمثيل الذات للآخر (politics of representation) علماً بذاته في نطاق الدراسات الثقافية. وهو علم أصله عند ماركس بقوله إن الطبقة العاملة لم تنجح قط في عرض نفسها بنفسها لأنها كانت دائماً موضوعاً لتمثيل الآخرين لها كيف شاءوا. فصار التمثيل لها تمثيلاً بها. وستجد عبارة ماركس هذه في صدر كتاب "الاستشراق". وسأستعين بفكر سعيد عن الاستشراق لمؤاخذة النور على هذه المسائل: 1-إنه يعتقد ما يزال أن عقل جماعة ما أو شخصيتها بهذه العمومية موضوع صالح للدرس. وعدَّ سعيد دراسات العقل العربي وشخصيته مظهراً من مظاهر تخلف الاستشراقية الإسلامية والعربية عن ركب المعرفة. فما يزل ممكناً لهذه الاستشراقية في قوله الولوغ في مباحث "العقل المسلم" أو "الشخصية العربية" في حين "لم يعد بالوسع كتابة مقالة علمية (أو حتى مما يكتب للعامة) عن أياً من "العقل الزنجي" أو "الشخصية اليهودية"". وممن كتب مؤخراً على هذه الصور المرذولة الباحث اليهودي الأمريكي رافائيل باتاي في مؤلفه "العقل العربي" (1976) الذي ورد ذكره عند النور. وهو ممن لم يسلم من قلم إدورد سعيد في كتابه عن الاستشراق وبإيجاز. وكتبت إيمرام قرشي (البوسطن قلوب مايو 30، 2004) عن كتاب باتاي بمناسبة اعتماده مرجعاً في دوائر وزارة الدفاع الأمريكية خلال فترة متاعب أمريكا لفهم العرب بعد تورطهم في العراق. فقالت إن الكتاب ضرب من دراسات عفا عليها الدهر تركز على مفهوم "الشخصية القومية". وفي عرف مثل أصحاب هذه الدراسات أن بالوسع استنباط شخصية جماعة بأسرها من حكائيات مشبوهة وإشارات أدبية. ومنهجية دراسة باتاي هذه تقوم في نظر قرشي على جملة فرضيات غاية الاستغراق في الخطأ. وأكثر هذه الأخطاء أهمية أن هناك ثمة ثقافة عربية واحدة شديدة الانسجام والوثوقية مستلة من ثقافة البدو الجائلين. وتتغاضي هذه الفرضية عن تنوع ثقافة وتاريخ العرب وحضارتهم التي تطوي تحت جناحها أقطار شتى من المحيط الهندي إلى الأطلنطي تجذرت في ثقافة عرب المدن والجماعات الزراعية. 2-وآخذ على النور أن المستشرقين ممن كتبوا عن عقل العرب كانوا أرحم منه وأرحب . فأخذ باتاي على عقل العرب مثلاً "الفهلوة" كما عرفها الأنثروبولوجي المصري حامد عمار. فهي في نظره استعداد استثنائي للتلاؤم حرصاً من العربي ألا يعيب، أي لحفظ ماء الوجه. وبعض هذا التلاؤم في نظر باتاي كياسه وبعضه نفاق يؤمن للفرد قبولاً بلا قناعة لما أحاط به من موقف. ثم أخذ على المصريين، الذين يستولى عليهم العقل البدوي كما قال، تجنب العمل اليدوي الذي يوسخ الأيدي. ولكنه ميز العقل العربي بالتزام الضيافة حتى تجده يلتزم بحماية عدوه متى طلب هذه الحماية، والكرم، والشجاعة، والتمسك بقيم الشرف والأنفة باحترام الذات. ويرى أن التزام العربي ذي العقل البدوي بالشرف والأنفة من وراء سلطانه الكبير على النساء لأنهن عنوان مهم في هذه الخصال. ولن تجد على لسان النور ذكراً لخصلة طيبة عن الرعاة العرب ممن ولدوا برأيه كجريمة كاملة الأركان. 3-وآخر هذه المآخذ أن النور لم يتوقف، خلال تصويره لعقل الرعاة الزنيم في سياقه العربي، إن كان أصيلاً أو مقلداً في نظريته. وسأمسك بعبارة مركزية للنور عن التسلط التاريخي للعقل الرعوي على العرب لبيان أنه ليس مقلداً في ما ذهب إليه فحسب بل أنه استدبر دراسات نقد الاستشراق التي كشفت زيف المزاعم عن العرب وعقلهم الرعوي. فقال النور إن العرب لم تتغير كثيراً منذ ابن خلدون برغم مظاهر الحداثة التي لحقت بها. وهذا القول من نمطيات المستشرقين في تصوير العرب الخالفين عن الدنيا. فخصيصة في كتابات المستشرقين أن يصوروا المسلمين-العرب كجماعة تتجهم في وجه التطور وتقاومه وتعتزله. وتستميت في وجه ترقي الرجال والنساء من مؤسساتهم الكلاسيكية البدائية التي عفا عليها الدهر إلى رحاب الحضارة. وكان هذا التبلد العربي حيال التاريخ في جوهر نقد الاستشراق. فمن رأي سعيد أن في مركز عقائد المستشرقين، الذين جعلوا الشرق مهنة، أن العرب مجهضو التطور (خدج). فالحداثة، التي هي صورة من صور مر التاريخ، ليست ابتلاء (في مصطلح الترابي، تحدياً) للمسلمين بل إساءة. فالنور والمستشرقون سواء في تجميد العرب في بدء التاريخ: "الخيمة والقبيلة" أي أسرى العقل الرعوي وضحاياه. وجاء سعيد بهذا المصطلح ثلاث مرات في كتابه وسماه أولاً خرافة يستدعيها المستشرق كل ما كتب عن العرب تغذيها أنواع الشوكة التي له كباحث غربي معزز بسلطان الغرب ومعارفه. فليس ما يكتبه مثل هذا الباحث عن العرب عبارة تحتمل الصواب والخطأ بل هي الحق المطلق محروساً بذلك السلطان. ووصف سعيد "الخيمة والقبيلة" ثانياً بأنها مما ليس بمقدور العربي خلعه. فهي المرجع الأول في تفسير حياته وثقافته. وقال ثالثاً إنه، لتفهم الإسلام جيداً، عليك رده إلى أصله في "الخيمة والقبيلة". أما أثر الاستعمار وشرور العالم حول المسلمين، أي التاريخ، فهباء. فالعربي مضغن على الغرب وحاسد له فقط لا غير. ومطلبه بالحرية، أو الاستقلال السياسي، أو عن حقه في مأثرة ثقافية فمحض شغب في وجه الغرب. فهو يلوم الغرب والعيب (الرعوي) فيه مما يصلح ترجمة لعنوان كتاب برنارد لويس " What went wrong?". فالتاريخ، بكلمة، ينزلق كالماء على الصخر ليبقي العربي نقياً منه وقد تأبط "خيمة وقبيلة". المعرفة شوكة. وكان نقد الاستشراق فتحاً في الكشف عن سياسات منشأ تصوير الآخرين (مثل العرب) بواسطة ذات ما (المستشرق) تصب فيه عتو قومها السياسي وخيلاءهم الثقافي. وجاء عند سعيد شيئاً فذاَ في قدرة الباحث على المبحوث بما يجعله مستبداً يزعم الاستنارة. فنقد سعيد كتاباً لسانيا حمادي عنوانه "مزاج وشخصية العرب". وفقال إنه جاء عندها مثلاً أن العرب "أسفروا" عن نقص في الانضباط وعقد وحدة مستدامة بينهم. ووجدها تستخدم أفعالاً مثل "أسفروا" أو أنهم "كشفوا عن" بغير تحديد للمفعول به. أي لمن كشفوا هذه العاهة فيهم؟ فهم، حسب سعيد، كشفوها ل"لا أحد" بذاته. مما يوحي بأن مثل هذا الكشف المزعوم للعربي عن العاهة من الحقائق المسلم بها للمراقب للعرب الذي لا يتطرق الشك إلى سلامة نظراته. وكلما اطردت حمادي في وصف العرب، في قول سعيد، كلما ازدادت وثوقاً في تشخيص عللهم بغير وازع. وجاء سعيد بذروة في نظريته عن خضوع الآخر للذات التي استأثرت بتصويره. فقال إن العرب، بمثل نهج مثل سانيا حمادي، تحولوا من كونهم بشراً سويا إلى ما لا يزيد عن كونهم موضوعات افتراضية للطريقة التي تكتب بها حمادي. وهنا مربط الفرس. فالعرب، في قول سعيد، بدوا بمثل هذا النهج كمن وجدوا أصلاً، وفي الأزل، كسانحة لمراقب ثقافتهم المستبد مثل حمادي الذي يري أن "العالم هو منتهى فكرتي". لم أرد بكلمتي هذه محاكمة النور بنقد الاستشراق بما قد يوحي بأن نقد الاستشراق هو "منتهى فكرتي"، وينبغي أن يكون منتهى فكرته أيضاً. حاشا لله. فهو حر أن يأخذ به أو لا يأخذ به. ولكنه مع ذلك مسبوق إلى كل آرائه عن العقل الرعوي وكساد العرب مما شرّحه إدورد سعيد تشريحاً ونقضه نقضاً استجاب له الباحثون قبولاً ورفضاً وتعديلاً. ولا يطعن سبق الاستشراق وغيره في آراء النور في العقل الرعوي وعواقبه على العرب. ولكن للمسبوق صلاة ذات أعراف ونسق. وأكثر الأكاديمية صلاة مسبوق. وأعرافها ألا تكتب في أمر بغير استيفاء ما سبقك إليه زملاؤك لحاقاً واستدراكاً. وفي مقال قادم نسأل إن كان النور استأنس في رسم صورته السالبة للعقل الرعوي بالإرث الأنثروبولوجي السوداني الذي احتلت البادية فيه حيزاً كبيراً؟ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.