كانت لي حوارات مع عضو بتنظيم الأخوان المسلمين (كوز) يمُت لي بصلة قرابة، وبحكم هذه العلاقة كُنّا كثيراً ما نحتك سواءً في لقاءات فردية أو مناسبات إجتماعية، وعادةً ما تدور بيننا نقاشات مطوّلة. وذلك في بدايات تسعينات القرن الفائت، والحكومة في أوج إندفاعها الطائش، والعالم من حولنا يغلي بأحداث حرب الخليج الأولى وتداعياتها. ويونس محمود يتحفنا في كل صباح جديد، بخطبةٍ عصماء، مليئة بالبذاءات التي يسقطها على رؤوس شعوب وحكام العرب. بأسلوب منمق، وكلمات منتقاة، يصب سيل إساءاته على أولئك العملاء والخونة، أعداء الإسلام والعروبة، الذين إرتضوا الإرتماء في أحضان الغرب وإسرائيل. ويكيل للجميع بكل ما في قاموسه من مفردات الفُحش وساقط القول. فالملك السعودي أصبح فهداً مروضاً، وآل سعود صاروا آل يهود، وخدمة الممرضات المصريات في المستشفيات الميدانية صار للترفيه وليس التمريض ... وما إليه. كان هناك الكثير من السباب والشتائم التي تذهب إلى دول العرب، ولكن النصيب الأوفر كان موجهاً لأمريكا وإسرائيل. هذا هو الأسلوب الذي كان يعكس الموقف الرسمي للحكومة، ويعبر عنها قولاً وفعلاً، وتضج به وسائل إعلامها. وهذا الأمر سواءً كان فيما يتعلق بالحرب نفسها أو موقف الحكومة منها، كان يمثل محور الحوارات التي تدور في البيوت والأسواق والمناسبات، فلكل أسرة تقريباً مغترب في أحدى تلك الدول التي طالتها الحرب، أو غطتها مظلة السباب. كنت كلما التقيت ذاك (الكوز) سواءً على إنفراد أو وسط لمّة من الناس، أقوم بإنتقاد سلوك حكومته، وأسلوبها غير المتعقل، وغير المهذب في كثير من الأحيان، وتصرفاتها غير المحسوبة، التي أودت بها للدخول في حالة عداء مع معظم دول العالم من عرب وعجم، دون مسوغات سياسية مقبولة، أو مبررات كافية، وكأنما هي حالة من الهستيريا والإستهتار، الذي يدخل السودان في معارك دونكيشوتية لا ينوبه منها غير الجراح والأذى. فالحكومة المسئولة لا تطيح في الناس هكذا أساءةً وتجريحاً وتهديداً ووعيداً، لأن ذلك سوف يورث البلد العزلة والإنزواء، الذي يُضيّق على الناس مساحات الحركة، تكسباً وتعليماً وعلاجاً، ويقلل فرص تداول الخبرة والمعرفة. كما أن القطيعة مع العالم سوف تفت في عضد الإقتصاد، وتلقي بالبلاد في هوة الفشل والتردي. فالإدارة الحكيمة تعرف كيف تتعامل مع الآخرين تحت مظلة الإحترام المتبادل، والمصالح المشتركة، لا الإزدراء والإستخفاف والمجافاة، وإعلان العداء. فالعرب يملكون الثروة، والغرب لديه التكنولوجيا، ونحن نحتاج لكليهما في الإستثمار والتجارة والتنمية، وبالذات الدول الغربية فهي الأقوى عالمياً ... هكذا كنت أجادله وإستعرض له مزايا وضرورات التعاون الدولي، والحفاظ على علاقات جيدة مع العالم المتقدم، ولكن في كل مرة كان يأتيني رده الجاهز دوماً وهو قول الله تعالى (لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم). هذه هي العقلية التي كانوا يديرون بها السياسة الخارجية يومها، ولكن الأيام دول. وها هي الهامات تتمرغ في التراب، من أجل نيل رضاهم، وما كنا نقوله بالأمس، عن التعامل بندية لا تطاول فيها ولا إنبطاح، أصبحوا اليوم يلهثون وراءهم بإنكسار، وما كنا نطالبهم بالسعي لنيل رضا الحكومات، علّها ما رضت!!، فقط نريد أن يكون التعامل معهم بلغة المكسب والخسارة، وليس في ذلك ملة أو دين، فنحن لا نريد أن نتبع ملتهم، ولا هم بمقدورهم أن يحشروا ملتهم في رؤوسنا. المسألة بعيدة تماماً عن الملل والنحل أنها تتعلق فقط بالمنافع المتبادية، فالحكمة تقتضي ألّا نبخس ما لديهم، فما بأيدهم كثير، إضافةً إلى أن نفوذهم كبير. فليت دعاية النظام وقتها قد كفّت عن إستخدام النصوص المنتقاه، التي تغلق جسور التواصل، وتركت المعابر سالكة، ولغة (هات وخُد) هي المتداولة، حتى نستفيد مما لدى العالم بإتساعه، على الأقل وفقاً لقاعدة أطلبوا العلم ولو في الصين، أو قاعدة حيثما كانت مصلحة الأمة فثمة شرع الله. ولكنهم حينها كانوا يتباهون بالعقلية التي تصنف الناس إلى نوعين أحدهما يعيش في دار الحرب والآخر في دار الإسلام، وهؤلاء هم فقط ولا أحد سواهم حتى ولو نطق بالشهادتين. لذلك فإن نماذج الدول العربية والإسلامية لا يصلح القياس عليها، فلو قلت لهم أن هذه البلدان وعلى رأسها السعودية التي تحتضن بيت الله وقبر رسوله، لها علاقات جيدة مع الدول الأخرى، يأتيك الرد بأن الحكم في السعودية ملكٌ عضوض، وهو ليس من الإسلام في شئ. أما بقية الدولة العربية فهي مفارقة لشرع الله، هكذا كانت تدور تلك الحوارات المرهقة. طافت بذهني تلك النقاشات وأنا أسمع إبراهيم غندور يقول أن لا مانع من إقامة علاقات مع إسرائيل، أو بالأصح أبدى رغبته في ذلك، حين قال (أن السودان يمكن أن يدرس مسألة التطبيع مع إسرائيل). ثمّ دعمه في ذلك مصطفى عثمان إسماعيل حين وصف حديث غندور عن عدم ممانعة الحكومة في إمكانية دراسة التطبيع مع إسرائيل بالمقبول، ولم يكتف بذلك بل أضاف إليه نفياً لما يتداول من أخبار عن تمنّع تل أبيب عن التطبيع مع السودان، ووصفه بأنه مدسوس، لكنه ما ورّانا الدساه منو؟ مع أن رفض التطبيع مع السودان عبر عنه عدد من أعضاء الكنيست من قبل، ثم أكده أخيراً كل من نائبة وزير الخارجية الأسرائيلي، وكذلك رئيس قسم أوروبا وأمريكا في الخارجية الأسرائيلية، ولا ندري من دس هؤلاء في هذه المواقع، أو دس الكلام على لسانهم ... وإن كنت أعتقد أن إسرائيل ليست جادة في هذا الرفض، ولكن مثل هذه التصريحات تأتي من قبيل الإمعان في الإذلال والتحقير. ثمّ يظهر في الصورة متنطع آخر، فعندما سئل ربيع عبد العاطي عن كلمة البشير التي قال فيها (إذا أمريكا رضيت عنّا فهذا معناه أننا فارقنا الشريعة والدين). فكان رده (لكل مقام مقال، وأنا لا أريد أن أبرر ما قال الرئيس). لم أفهم ما يرمي إليه بقوله لكل مقام مقال، فهل عندما نقف أمام مقام أمريكا نتحدث بلسان، وعندما نقف أمام مقام الشعب السوداني نتحدث بلسانٍ آخر. أي عندما نتحدث للخارج تكون رسالتنا إليه هي أن شعاراتنا الدينية ما هي إلّا قشرة زائفة نستخدمها لإلهاء جماهير الشعب، وعندما يكون الحديث موجهاً للداخل يجب التأكيد على أن هذه الشعارات مقدسة، وحرمتها من حرمة الدين. هنا قول وهناك قول آخر، وكأن المسألة برمتها لا علاقة لها بجوهر ما تطرحون وتروجون له من مبادئ. وهي مبادئ مستمدة من العقيدة، حسب إدعاءاتكم. والرئيس قالها بصراحة لا تحتاج لتبرير منك، بأن أمريكا إذا رضيت عنكم فذلك يعني مفارقتكم لدينكم، وهذا يتفق مع المنطق الذي كان يجادلني به ذاك (الكوز) من قبل، بإستخدامه لآية اليهود والنصارى، أي أن المسألة لها سند في القرآن، وهذا ما يدخلكم في مأزق، فهل نكذب ما قاله الله وما قاله الرئيس ونصدقك، أم ماذا ياترى؟ قبل أن تبحث عن تبريرٍ أو إجابة، أقدم لك الحل، وهو أن إستخدام الآية لم يكن في محله، وأن الرئيس مخطئ، أما أنت فكذّاب. ولذلك عندما سئلت عن شعار (أمريكاروسيا قد دنا عذابها) قلت (أنا أعتقد أن هناك متغيرات في السياسة). وأنا أتفق معك في ذلك، السياسة أحولها دائماً متغيرة ولكنكم تنكرون ذلك، إلّا إذا جاءت رياحه بما لا تشتهي سفنكم، لذلك يحدث التذبذب في المواقف، وتتهافتون على الكذب الصراح تغطيةً لعورات أقوالكم وأفعالكم المخزية، فمنهجكم الذي حشرتونا في قوالبه الجامدة عنوة لا يبيح ذلك، فوفقاً للشعارات المضللة التي ظللتم ترفعونها لتجييش عواطف الناس الدينية، مثل (الإسلام دين ودولة)، وهو ما نختلف حوله، أو أن (الإسلام هو الحل)، وهذا ما نقف فيه معكم على طرفي نقيض، فالإسلام تنزل من أجل طاعة لله وهذا هو الدين، أما الناس فهم أدرى بشئون دنياهم، وهذه هي الدولة أو السياسة. والخلط بين الإثنين هو ما أدى لإضطراب مواقفكم وإرتباك منهجكم، حتى أرتميتم في أحضان من رفعتم في مواجهتهم شعار (وأعدوا). أما قطبي المهدي فقد أنكر أن هذه الشعارات تخصهم، وزاد على ذلك بأن ما يثار من جدل حول تبني الحكومة لتلك الشعارات ما هو إلّا محاولات تضليل من قبل بعض المعارضين، ووصفهم بأنهم غير وطنيين. مثل هذا النوع من السخف، لا يدعو للسخرية والضحك، بقدر ما يحمل على الشفقة، يا ليته قال ده كلامنا ولحسناه، عملاً بالمثل السوداني (الشينة منكورة)، مع أنها ما كانت شينة طيلة الفترة الماضية، ولكنها طالما أصبحت تمس طرف أمريكا وفي هذا الظرف الحرج، فهي شينة ومنكورة. وكان في زول حاول يذكرهم بيها فهو معارض وخائن وغير وطني. وما بعيد في حمى هوس التقرب لأمريكا، يطلع لينا واحد بكرة يقول أن برنامج ساحات الفداء كان بيعدوه الشوعيين، وإسحق أحمد فضل الله عميل مندس. أهلنا بيقولوا (الراجل بيمسكوه من لسانه)، حيرتونا نمسكم من وين؟، لقد سبق للرئيس أن قال وامام كل وسائل الإعلام (أمريكا وبريطانيا وفرنسا تحت جزمتي دي)، وشوف التأكيد في عبارة (جزمتى دي)، فإذا كان موضع هذه الدول تحت جزمة الرئيس، وهم ليسوا من أهل خيبر، وبالتالي غير معنيين بإستعداد وتدريب جيش محمد، الذي بدأ يعود على أيديكم. فأين يكون موضع تلك الدولة العبرية، التي أعدتم لها الجيش؟، هل يكون فوق الجزمة، تحت الجزمة، جنب الجزمة، جزمة الجزمة، ولكل مقام مقال ... لقد كنتم تعيبون على عبد الواحد محمد نور إفتتاحه مكتب لحركته في تل أبيب. وها أنتم تتوددون إليها وتتمنع عليكم، وهذا ما لم يفعله عبد الواحد، كما أنه لم يتشدق بشاعرات جوفاء ضد اليهود، وقد فتح مكتبه بكرامة، أما أنتم فلن تنالوه إلّا بعد ذُلٍ وإنكسار. إذا كانت إسرائيل قد إلتزمت بحدود ما قبل يونيو 67، ولم تستمر في إقامة المستوطنات علي الأراضي الفلسطينية، ولم تطالب بالإعتراف بها كدولة يهودية، بما فيه من تغافل لحقوق عرب 48. لكانت عملية إقامة علاقة معها مقبولة إلى حدٍ ما، مع التجاوز عن كونها دولة مزروعة في غير أرضها، ولكن مع وجود كل هذه المنقصات والعيوب، يصبح التعامل معها شبيه بالتعامل مع جنوب أفريقيا على أيام التمييز العنصري. فالدولة التي توزع حقوق المواطنة على أساس الدين، كما الدولة التي توزعها على أساس العرق، كلاهما علي نفس الدرجة من القبح، حتى وإن كانت تتذرع بالديمقراطية. وإذا تقربتم إلى مثل هذا النوع من الدول، هل الشعب مطالب بأن يقبل ذلك أخلاقياً؟ لا أظن. لقد إنقلب السحر على الساحر، أو بالأصح راحت السكرة وجات الفكرة، وذهبت كل تلك الشعارات والخُطب والرقصات أدراج الرياح، وأصبحتم اليوم تفرحون وتبتهجون وتهللون إذا أومأت لكم أمريكا بطرف أصبعها، وتتمسحون دون خجل في أذيال ربيبتها إسرائيل، علّ رضاهما عنكم يطيل أمد بقاءكم في السلطة، ولكن ودون شماتة، ذلك لا يفيد. فرفع العقوبات سواء كان جزئياً أو كلياً لن يحل مشاكلكم التي نخرت في العظم، فأزماتكم لا يمكن معالجتها بإقامة علاقات متوازنة مع الدول الأخرى، هذا لو تمّ قبولكم في الأسرة الدولية كعضو طبيعي خالى من العيوب والتشوهات، يعني دولة عادية غير مدرجة في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وغير متهمة بعمليات إبادة جماعية، ورئيسها ليس مطلوباً للعدالة، لو تمّ ذلك فإنه لن يساهم في مدّ أيامكم، فهناك العديد من دول العالم في جميع القارات فقيرة ومعدمة وترزح في المشاكل، رغم أنها لا تعاني من المقاطعة، وعلاقاتها مع الآخرين سمن على عسل، ولكن ذلك لم يدفع بها نحو آفاق الإستقرار والتنمية. فتحسن العلاقات بين الدول مهما كانت درجاته، لا يعالج مشاكل البلدان، فهذا يحتاج لجهد آخر. أما بالنسبة لكم فالمشكلة تكمن في بنية الإقتصاد، الذي نهبتموه وتقاسمتم ريعه، وما عادت له القدرة علي إدارة عجلت الإنتاج مرة أخرى. فسياسة التمكين هي التي رمت بكم في هوة الفساد وسوء الإدارة. وهذا لا يمكن أصلاحه أو إزالته إلّا بإزالت السبب. أما ماضيكم فبدلاً من التنكر له، عليكم الإعتزار عنه، لأن حالة الإنكار لن تفيد، بل ستجعلكم في موضع الهزو والسخرية، فإدعائكم بأنكم لم تكونوا في يوم من الأيام في حالة عداء مع أمريكا وإسرائيل وغيرهما، وأن كل تلك الشعارات والهتافات والخطب، لم تكن تعبر عنكم، أو لم تكن مقصودة في ذاتها، أو فُسرت عن طريق الخطأ، فأنه لن يعني شئ، ولن يقنع أحد. ولكن إذا سلمنا جدلاً وإقتنعنا بمثل هذا القول الفطير رغم ضحالته، وقلنا لكم نحن مقتنعين!!، فمن يقنع أتباعكم، إذا كان لكم أتباع حتى الآن، على شاكلة ذلك النوع الذي كان ينظر للعلاقات الدولية من خلال آية اليهود والنصارى. لقد تطاولتم في الفارغة، ثمّ إنكسرتم بمهانة، اللهم لا شماتة. [email protected]