الداخل إلى دار اتحاد الكتاب السودانيين تستقبله الكتب المتراصة على جانبي الممر. عدة دور نشر زينت الدارامتلأ الرواق بالعناوين المعروفة وكثيرمن العناوين الجديدة لكتاب سودانيين وغيرهم.اليوم المفتوح تواصل ومن مكان ما من الدارالممرحبة بزوارها وبإعضائها انساب صوت الكاتب عبد الغني كرم الله يتحدث بعذوبة عن الأدب والثقافة وتقنيات الكتابة . من خارج القاعة تظنه في مؤانسة مع صديق . تدخل القاعة تجده يتحدث من منصة صغيرة مع عشرات المهتمين بالأدب والكتابة. يناقش كتابات الشباب متحدثا عن الأدب وعن كتاب عالميين تركون بصماتهم في المسيرة الإنسانية. بعده بقليل جسد المسرحي ياسر عبد اللطيف برفقة صوت عذب وتنسيق مدروس جزء من قصص الراحل زهاء الطاهر.انتقلت بعدها الفعالية لتتواصل في فناء الدار. الفعالية المفتوحة كانت فرصة طيبة إلتقى عبرها المهتمون بشئون الأدب والثقافة بعد غيبة قسرية . إغلاق منابر الوعي والإستنارة طال العديد من مراكز الإشعاع في الخرطوم .تمنى الأمين العام للإتحاد ان يتواصل نشاط الإتحاد بعد الميلاد الثالث دون توقف في إشارة لتوقفات سابقة طالت الإتحاد وعدد من مراكز الإشعاع المعرفي والإستنارة.وللمرة الثالثة ينهض إتحاد الكتاب السودانيين عملاق يواصل دوره الكبير بجهود المخلصين لقضايا الثقافة في السودان. الحضور النوعي ظل في دار الإتحاد ساعات طويلة يستمع إلى الكاتب عبد الغني كرم الله و يشاهد تجربة من المسرحي ياسر عبد الطيف يحاور يقرأ يتأمل عناوين الكتب ويشاهد فلم رائع من اخراج راشد بخيت عن الشاعر القامة محمد عبد الحي. وحيث يتوقع الكل ان يركز راشد بخيت على القصيدة الإسطورية (العودة إلى سنار). يفاجئ راشد الجمهور بإضاءة جوانب اخرى للشاعر الراحل. . الفلم وثق لعلم من اعلام السودان لا يعرف كثير من السودانيين سوى انه شاعر مجيد.لكن الإفادات اخبرت بدوره مع التشكيلي الكبيرابراهيم الصلحي في توسيع وتفعيل مصلحة الثقافة من مجرد لافتة صغيرة في مكتب ما إلى وعاء كبير استوعب كثير من الأنشطة الأدبية والفنية واصدر مجلة الثقافة السودانية.نمت النبتة لتغدو وزارة للثقافة. الطالب المتفوق محمد عبد الحي المولود في الدامر دخل جامعة الخرطوم لكنه بعد سنة إعتذر عن دراسة الطب وتحول للآداب. واصل دراسة الأدب في انجلترا. وقدم بحثا قيما حمل مقارنةعن الشعر الرومانسي بين الشعراء العرب والأوربيين والأمريكيين.كما قدم ترجمات. شمل الفلم افادات اسرة عبد الحي واصدقائه . تحدث التشكيلي حسين جمعان عن صداقتهما وتعاونهما في تنقيح ديوان الراحل التجاني يوسف بشير.واضاف د.عمر عبد الماجد افادات مهمة عن شحصية صديقه محمد عبد الحي. .د.عبدالله علي ابراهيم تحدث عن مراسلات بينهما متحدثا عن إهتمام عبد الحي و صبره وإهتمامه بالإجادة وشغفه بالقراءة. ايضا تحدثت رفيقة دربه الاستاذة المترجمة عائشة موسى منذ لقائهما الأول في انجلترا وعن رسائل غير منشورة لأصدقائه. كما قدم خال الشاعر وعمته وابنته عن جوانب من حياته. الدكتور احمد الصادق قدم إضاءات مهمة عن حياة الشاعر. تضمن الفلم مناظر رائعة من السودان استهلها بمنظر علوي من جبل البركل ومنظر النيل في قمة عطائه حين يصطبغ باللون البني مشبعا بالخصوبة ثم منظر من شرق السودان تبدو فيه سواكن من اعلى أو مكان يشببهها ولقطات لأديم الأرض ولصخور وجبال وصحراء توفر فضاءات مفتوحة للأخيلة الجامحة. في الفلم يصدح كورال موسيقي بمقطع من العودة إلى سنار. المشاهد صورتها كاميرا تتحرك بدراية صحبت اللقطات موسيقي تصويرية رائعة. استفاد راشد من التقنية الحديثة واثبت عمليا ان بالإمكان انتاج فلم كبير بكلفة أقل. بإنتاج كهذا يمكننا ان نوثق لشخصيات سودانية مبدعة. نرجو ان يواصل راشد وآخرين المسيرة وان يتخطى عتبة المُنْتَج الواحد. هذه عقبة يتوقف عندها كثير من المبدعين. عقدة الكتاب الواحد افقدت السودان والإنسانية الكثير ممن كان يمكن ان يثروا التراث الإنساني بالروائع. الفلم اظهر إمكانية إحالة الكثيرمن الكتابات إلى مشاهد مما يزيد من فرص توصيلها إلى جمهور اكبر. كما اظهر ترددنا عن المبادرات التي تنتج اعمالا كبيرة. راشد معروف كصحفي وناقد وهذه أول تجاربه في الإخراج. وبعزيمة كبيرة وطموح اكبر انتج عمل كبير.تحتاج المكتبة السودانية إلى اعمال مشابهة. كثير من كتابتنا مخطوطات قيمة يهدرها الروتين و تهددها الأمطار ويجرفها الإهمال ويطويها النسيان. نحتاج إلى الكتابة والتسجيل والتصوير والرسم لحفظ التراث السوداني الثري. تخلو المكتبة السودانية المشاهدة والمسموعة والمرسومة وحتى المقروءة احيانا من أعمال عن قامات سودانية. تفتقر المكتبة السودانية لأعمال عن بعانخي وعن المهدي والتجاني يوسف بشير و اسماعيل حسن وعلي المك وجمال محمد احمد وخليل فرح وصلاح احمد ابراهيم ومحي الدين فارس وتاج السر الحسن وآخرين. هناك قامات تمشي بيننا ولانعرف عنها غير النذر القليل. التوثيق يتيح لنا ان نتلمس جوانب الإبداع في حيواتهم ويستفيد قادمون جدد من تجاربهم. وتكون بمثابة مصادر معرفة ومراجع يسهل الرجوع إليها ودراستها. حينما جلست في فناء اتحاد الكتاب السودانيين بالخرطوم . كانت في عقلي صورة عن حراس أشداء يقفون عند بوابة ضخمة.لكنهم سيفتحون بسرور لإبن عائد من غربة بعيدة. من خلف بحر الشمال البعيد ينساب صوت محمد عبد الحي وهو يردد بحب كبير وحنين جارف (الليلة يستقبلني اهلي) .ثلاث كلمات فقط لكنها مكتوبة بصدق جعلها تمتلئ باحساس رائع يستعصى على الوصف. أضاف صورة اخرى رائعة. مستصحب الإبداع السوداني منذ القدم صعد بنا راشد قمة جبل البركل وبهبوط ناعم شرع يحدثنا عن محمد عبد الحي عبر اسرته ومجايليه عاد بنا بمقاطع شعر من صوت الشاعر محمد عبد الحي .بتمهيد طويل بدأ الفلم لكنه انتهي بصورة مفاجئة. ربما قصد المخرج ان يذكر الجمهور بالهزائم المتواصلة التي يلحقها الوقت بالمبدعين.لكن راشد بخيت حمّل خمسة واربعين دقيقة لقطات رائعة عن الشاعر. زرافة النار عنوان مستوحى من لوحة تجسد زرافة تحترق اعجبت اللوحة محمد عبد الحي عنون بها راشد بخيت فلم توثيقي عن الراحل المقيم. [email protected]