وُلد الشاعر محمد المهدي المجذوب بدامر المجذوب بولاية نهر النيل الحالية في النصف الأول من القرن المنصرم. وقد اشتهرت أسرته بالعلم والثقافة والتفقه في علوم الدين الإسلامي فضلاً عن الاهتمام بفتح "الخلاوي" في تلك المنطقة. بدأ شاعرنا الهمام مشواره التعليمي بدراسة العلوم الدينية في "خلاوي" الدامر ثم انتقل لمدرسة بالخرطوم وانتهي به مشوار الدراسة بكلية غردون التذكارية التي تخرج فيها إبان الفترة الاستعمارية وعمل، بعدئذٍ، أفندياً أو موظفاً حكومياً. وبعد ... فهذه اللمحة الموجزة عن شخص المجذوب تمثل مدخلاً ضرورياً لعالمه الشعري المتفرد ونقطة انطلاق مفتاحية للولوج فيه، لا سيما لمن يريد أن ينقب في تجربته الشعرية العميقة بقصد سبر أغوارها ونقدها بغية الإلمام بالجذور البيئية والثقافية وكذا المناخ العام الذي ألقى بظلاله عليها. غني عن البيان أن تجربة شاعرنا الفذ تعد من التجارب الشعرية النادرة، المحفزة على التنقيب كونها تصطبغ، كما سنعرف من خلال هذا المقال، بصبغة "سودانية" أو "محلية" غير مسبوقة، تمثل لحمتها وسداها وتضفي عليها بعداً "إنسانياً" وكذا نكهةً رائعة. ووفقاً للخلفية الخاطفة آنفة الذكر ذات الصلة بمولد شاعرنا المجذوب ونشأته وثقافته، فإن النواة الأولى لحياته حملت في ثناياها عنصرين نقيضين يتمثلان في "الثقافة الدينية" التي تمثلها دراسته بالخلوة و"الثقافة العصرية" التي تمثلها دراسته بالمدارس الحكومية وكلية غردون. وبالطبع فإن وجه التناقض ذي الصلة بالثقافتين يتمثل في أن الأولى تنهل من المنهل الديني النزّاع إلى كل ما يتناغم مع تعاليم الدين الإسلامي في حين أن الثانية تعتبر "إنسانية" المشرب بحكم أن مرجعيتها هي "الثقافة الغربية" التي ظلت فارضة نفسها عبر الترويج لأنماطها الثقافية المتعددة ومن خلال التعاطي الواسع لها في عالمنا الثالث حتى غدت مجتمعاتنا أسواقاً رائجةً لها. وتأسيساً على هذا الواقع في حياة الشاعر فإن نشأته كان يتجاذبها هذان العنصران المتناقضان اللذان بذرا في نفسه بذرة الصراع منذ ميعة صباه وحتى قبيل انتقاله للرفيق الأعلى، كما تعكس ذلك أعماله الشعرية. وفي نظري يعد تولد الصراع واحتدامه في نفس شاعرنا حالة "سيكولوجية" طبيعية تعبر عن التضاد والشد والجذب التي يمكن أن تتمخض عن أية حالة مماثلة. غير أن من البديهي أن من يُقدر له أن يكون أسير مثل هذه الحالة يلاقي ما يلاقي من صنوف المكابدة والمعاناة والضغوط النفسية القاسية. ذلك أن الشاعر أو المبدع يتفاعل في المجتمع أو الوسط الذي يعيش فيه مع شتى الأحداث ويصطدم بمختلف المواقف الحياتية وتتشابك مشاعره مع العديد مما يجري حوله من حراك حياتي ما يجعله يتأثر بما يدور حوله من أحداث ويقاسي جراء ذلك على نحوٍ لا يطاق. اطلع المجذوب على الشعر العربي وهضمه ثم شرع في تأسيس مدرسته الشعرية ذات الخصوصية والتفرد مؤسساً إياها على رفضه لحالة "القعود" التي تسم الشعر السوداني من خلال تقوقع بعضه في الشعر الجاهلي وترسم البعض الآخر خطى الشعر الغربي وذلك بشكل أفقده "ذاتيته". هذا علاوةً على أن مدرسة المجذوب الشعرية قد لونت جانباً منها "الثورة" على بعض الظواهر الاجتماعية السودانية ذات الصلة ببعض الشرائح أو الفئات الضعيفة التي سلط عليها الشاعر الضوء وأماط اللثام عن واقعها المؤسي. لذا نجد أن قصائده تحفل بالمعاني المتهمة للمجتمع بالضلوع فيما آل إليه حال البعض من شحاذين وماسحي أحذية وغيرهم. وتعكس هذه المعاني كذلك رفضه لسوق المجتمع لهذه الفئات من فقراء ومستضعفين إلى مثل هذه المآلات والمصائر، معبراً عن انحيازه لهم. وقد ساهم شاعرنا، كذلك، عبر أشعاره، في فضح "الاستعمار" إبان الفترة الاستعمارية. هذا علاوةً على المسحة الصوفية التي تسم بعضاً من قصائده. وبالطبع فإن هذه المشارب المتباينة لمواضيع أعماله الشعرية تؤكد على التجاذب الذي ظل يعتمل في دخيلته والمتصل بالثقافتين آنفتي الذكر. ويؤكد هذا "المنحى" الشعري لشاعرنا، على انحيازه للبيئة السودانية انحيازاً كلياً متخذاً منها "منهلاً" أوحداً لأعماله الشعرية. قال الشاعر المجذوب، حسبما ورد في المؤلف القيّم للشاعر والأديب النابه فضيلى جماع "قراءة في الأدب السوداني الحديث" و الذي وثق فيه للحركة الشعرية السودانية على نحوٍ شامل وعميق، قال: (لقد ذهب أولاد العرب إلى أوربا، ورأى بعضهم من الآداب والفنون شيئاً بالغ العظمة، وبهرهم، فألغوا ما نشأوا عليه من آداب، فكانوا مقلدين تابعين، وعادوا إلينا بهذه المشهيات الأفرنجية من كلاسيكية تقليدية وأخرى مجددة، ورومانسية وواقعية إلى آخر هذه الأطباق والأزياء مثلهم في هذا مثل الذين قعدوا في التراث العربي لا يتحركون، قدسوه ولم يستطيعوا الخروج عليه فكرروه. وأكثره لا قيمة له. كلا الفريقين سلبي في إنسانيته، ولقد حيروني قبل زمان وأصابني الشك فتوقفت، ثم عدت لأكتب شعري على كيفي غير مبال بالفريقين لإحساسي العميق بأن الشعر السوداني مأخوذ من أعماق هذا البلد في أي صورة جاء، وأنني أسعى إلى هذا الوطن بما أعاني من شعر ولغة). وكما يُستشف من هذا الرأي الجريء للمجذوب والذي يمثل تمرداً صريحاً على "التقليد" ويؤسس لخطٍ شعري جديد فإن شاعرنا الضخم قد كسر حاجز الدوران في فلك الشعر الغربي والشعر الجاهلي على حدٍ سواء وآثر أن ينهل من معين البيئة السودانية الثر بحسبانها غنية بكل ما يمكّنه من انتقاء مادته الشعرية منها. ولا يحتاج المتأمل في شعر المجذوب لكبير عناء في ملاحظة تشرب شعره بالبيئة السودانية بل وانغماسه فيها حتى الثمالة. ومما يضفي على أعماله الشعرية التفرد والتميز الكبيرين هو توغلها عميقاً في أغوار هذه البيئة واغترافها الكثير منها وكذا اندماجها في نسيجها وذلك إلى حدٍ جعل البيئة السودانية إحدى المكونات الأصيلة لشعر المجذوب. ومن الجلي أن هذا الشاعر ذا "الخصوصية" الشعرية الاستثنائية قد شيّد صرحه الشعري الشامخ من البيئة السودانية موظفاً مكوناتها ومفرداتها المتنوعة في أعماله الكثر من خلال مدرسته الجديدة، ما مهد له طريق "التفرد" في الإبداع الشعري حتى تربع في قمة هرمه واستطاع أن يتبوأ مكانة مرموقة في مجال الشعر جنباً إلى جنب مع رصفائه من دهاقنة الشعر العربي الحديث. وقد آثر شاعرنا الهمام، كما يبدو، أن يلوّن أعماله الشعرية بكل ما يؤكد "سودانويتها". وليس أدل على هذا من عناوين دواوينه مثل "نار المجاذيب" و "الشرافة والهجرة" وغيرهما وكذا عناوين قصائده مثل "بائعة الكسرة" و "شحاذ في الخرطوم" و "المولد" و "كلب وقرية" و "سَيرة" وخلافها، فضلاً عن مفرداته وعباراته ذات "المنهل" البيئي. وتقف هذه الخصائص جميعاً شاهداً على تجذر "السودانوية" في شعره وذلك على نحوٍ دلالي موحٍ وأخاذ. وتدلل الأعمال الشعرية العديدة للمجذوب على هذا المنحى "البيئي" في شعره. و مما تجدر الإشارة إليه أنه يعتبر بارعاً في رسم الصور بالمفردات والتعابير المعبرة و الأخاذة والتي يبدع في نسج قصائده بها. يقول شاعرنا في قصيدته "المولد": وعلى الساحة شيخ يرجحن يضرب النوبة ضرباً فتئن وترن جل جلال الله ويقول كذلك في قصيدته "سيرة" أي الاحتفاء بالعريس وهو يُزف إلى مخدع العروس ليلة "الدخلة": البنيات في ضرام "الدلاليك" تسترن فتنةً وانبهارا من عيون تلفت الكحل فيهن وأصغى هنيهةً ثم طارا نحن جئنا إليك يا أمها الليلة بالزين والعديل المنقى نحن جئناك حاملين جريد النخل فألاً على اخضرار وزرقا ويقول في قصيدته "بائعة الكسرة: يا ربة الكسرة السمراء بائعة في السوق تنتظر الآمال في الودع لأنت أشرف من فكر بلا عمل أثرى وروج زيف العقل بالبدع كما يقول في قصيدته "كلب وقرية". في بيت الفحل أبي "السرة" جرو رباه على الكسرة الله الله على الكسرة بيضاء تهيج لها الحضرة الله الله الله الله وخلاصة القول إن التجربة الشعرية للمجذوب تؤكد بجلاء أن قصائده تنضح بكل ما هو "محلي" وذلك بقدر يؤصل للشعر السوداني ويساهم في بلورة "الثقافة السودانية" كما يثير العديد من الأسئلة ذات العلاقة بالهوية السودانية. [email protected]