ثم حدث انقلاب في 30 يونيو من عام 1989، وكان البيان الأول كالمعتاد، عن إنقاذ الاقتصاد والبلاد والعباد من حال السجم والرماد، التي تسببت فيها الأحزاب ممثَلةً في أفراد، ولكن من نفذوا الانقلاب، لم يمارسوا )اللقلقة ( والورجغة كثيرا في السنتين الأوليين من وصولهم الى السلطة، فاستبشر الشعب خيرا، بحسبان أنهم جماعة أفعال لا أقوال. ثم اتضح أنهم جعلوا لسانهم المشترك حصانهم، كجزء من مخطط الانقلاب، لعدم كشف الهوية السياسية لمنفذيه، وما ان اطمأنوا إلى أنه لا توجد فرفرة شعبية أو حزبية ضدهم، وأن المجتمع الدولي «ما سائل» في من يحكم السودان، إلا وشهروا سلاح الشمار الشامل، وانفتحت نوافير الكلام، ولم يتركوا للحكومات السابقة جنبا ترقد عليه، وشرعوا في بذل الوعود المجانية، في صيغة شعارات من شاكلة «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع»، ومن باب الاحتياط فرضوا على سكان العاصمة حظر تجوال دام سنوات طوال ، وشهر الشعب في وجوههم طرفة «بُني الإنقاذ على خمس: النوم الاجباري وحراسة الكباري والمشي كداري .... والسكر التجاري لمن استطاع إليه سبيلا، (نسيت الركن الخامس)، و»تأكل ما تشبع، وعندك ما عندك تدفع، وتلبس المرقع، وتمشي الجنوب ما ترجع، وتفتح خشمك عينك تطلع» واتضح في ذلك العمر المبكر لحكومة الإنقاذ أن من خططوا للانقلاب بكفاءة، ونفذوه بكوادر وموارد في منتهى التواضع، ولكن بدقة هندسية، لم يكونوا قد فكروا في «ثم ماذا بعد؟»، وهو السؤال الذي طرحه الصحفي المصري محمد حسنين هيكل على السودانيين بعد الإطاحة بحكم عبود في أكتوبر 1964، فثارت ثائرة ثوار أكتوبر، ولعنوا خاش هيكل. باختصار أظهر الانقاذيون براعة عالية في صوغ الشعارات، ولكنهم لم يفلحوا الى يومنا هذا في تنفيذ ما يوحي بأنهم يعرفون كيف يكون «الإسلام هو الحل»، وبعد ان انشغلوا بتقاسم السلطة بين قياداتهم المدنية والعسكرية، صار لكوادرهم الإعلامية نصيب طيب من المناصب، وكانت تلك الكوادر عالية التأهيل واظهرت مهارات عالية في التعبئة الشعبية والتحريض السياسي، بعد انتفاضة ابريل 1985 وسقوط حكم جعفر نميري، ونجحوا في جعل خصومهم ينسون أن الإسلاميين كانوا على مركب واحد مع نميري حتى قبل سقوطه بأسابيع معدودة، بل قاموا بتسويق أن انقلاب نميري عليهم هو الذي فجر الانتفاضة، ولكن ما ان فاز نجوم الاعلام «الإسلامي» بالمناصب الوثيرة، حتى انصرفوا عن الكلمة المكتوبة (وهي عادة أقوى تأثيرا من الكلمة الشفاهية)، وصارت الإنقاذ تعتمد على الحناجر من على المنابر، على ما في الكلمة المنطوقة من محاذير خاصة إذا كانت مرتجلة، ولكن ارتجال الخطب الجماهيرية تقليد سياسي تكرس في السودان منذ الاستقلال، والانقاذيون- كما تؤكد مسيرتهم على مدى أكثر من ربع قرن – نتاج الثقافة السياسية المتوارثة تلك، وإن تفوقوا هم والشيوعيون على الأحزاب الأخرى، لحين ليس بالقصير من الدهر، بحسن التنظيم وانضباط العضوية. وعلة جميع أحزابنا السياسية، عدم تأسيس بنية سياسية شاملة والتعبير عن افكارها والاعتماد على الاجتهاد في القضايا الكبيرة (في غياب أي برنامج عمل)، وهكذا فحتى التنظيم الذي رفع شعار بناء سودان جديد بعد نقض غزل القديم، انفرد فيه جون قرنق بالزعامة، وحق النطق باسم الحركة الشعبية، وبموته الفجائي راحت الحركة شمار في مرقة، واتضح ان خليفته سلفا كير، مسطِّح، وبحكم تنشئته ومسيرته العسكرية الطويلة، انقلابي الهوى، وبالتالي لا عجب إذا الجنوب الجمهورية، تحت حكمه هوى. الصحافة