ضجت الاسافير قبل ما يزيد على شهرين تسأل عن صلاح بن خلف الله، ولم تبق جهة في هذا العالم الاسفيري الواسع إلا وجاءتنا منها رسالة تسأل عنه (يا أبناء السودان عامة يا سودانيي الاتصالات و يا قدامى المحاربين على وجه الخصوص أفيكم من يدلني على صلاح الدين؟) كانت تلك رسالة من سيدة افتقدت صلاحا كما افتقده كثيرون غيرها ممن لم يضن عليهم صلاح بخدماته ومآثره ولعلها افتقدته ولم تعرف بوفاته إلا مؤخرا، فأيادي صلاح البيضاء لم تكن تقتصر على جنس الرجال فحسب. فمن يكون هذا الصلاح يا ترى؟ جاء إلى الهاتف السعودي منذ سنوات شاب سوداني نحيف نحيل قسيم بادي السمرة رقيق الحاشية جميل الابتسام ذكي مهندم هادئ الطبع حتى أشفق عليه المشفقون خشية ألا يستطيع مواصلة العمل وهو بهذا القدر من النحول والحياء ولكنه خلافا لما كان متوقعا استوعب مهام عمله سريعا ثم انسرب إلى دواخل كل من عرفه وأسره بحسن معشره وطيبته وروحه المرحة فضلا عن مبادراته لمساعدة الغير، كانت ملامحه التي تشبه هنود كيرلا مثار استغراب زملائه السعوديين " هذا سوداني؟ والله كنت احسب انه رفيق، أي أحد الهنود أو من يشبههم " كان هذا تعليق أحدهم وهو يراه يجالس السودانيين بكافتيريا الشركة ذات يوم وكعادة صلاح تقبل هذا التعليق بروحه النقية المتسامحة فأصبحت كلمة "رفيق" ملازمة لإسمه طوال وجوده بالشركة إلى أن صعدت روحه إلى بارئها قبل حوالي أربع سنوات. قصة صلاح مع الناس كانت نسيج وحدها و شأن صلاح شأن نخلات موطنه التي تُرمى بحجر فتعطي أطيب الثمر ، فصلاح كان عطرا فواحا يضوع طيبه أينما حل و يملأ المكان بهجة و مسرة مقرونة بجلبة محببة خاصة عندما يتعلق الأمر بكرة القدم التي كان يعشقها كثيرا و كان رغم عشقه للأحمر الوهاج و النصر السعودي على وجه التحديد اجمل و أروع من تجالسه لحضور مباراة في كرة القدم حيث لا عصبية و لا انفعال يتجاوز الحد المعقول و كان ميالا إلى تشجيع الفرق الإفريقية بحماس بيَن في مباريات كأس العالم وكان يمازح مشجعي الهلال عندما يلاعب المريخ بأنه لا يخشي الهلال بقدر خشيته من فوزي المرضي حين يكون ضمن الطاقم الفني للهلال لأن هذا " الكُج" حسب تعبيره لا يفوز المريخ على الهلال في وجوده كما كانت له اتصالات و مساجلات مع زملائه السعوديين أثناء سير المباريات فتسمع منه تعليقا هنا و ضحكة هناك في روح رياضية محببة لم أشهد مثلها إلا في صلاح. لم أر أحدا يحرص على مساعدة الغير مثل صلاح سواء في مجال عمله أو في غيره فهو يخدمك بشركة الاتصالات و يتوسط لك لدى خطوط الطيران و المستشفيات و المرافق العامة و المدارس و غيرها و غيرها و لعل الله قد خصه بقبول قلما تجده في غيره فما أن تورد ذكر اسمه حتى يقول من يسمعه " لله دره من رجل" ، لم يتمالك احد موظفي الاستقبال الباكستانيين حبس دمعة طفرت منه حينما ذكرته له عرضا اني أول ما جئت إلى مستشفاهم كنت برفقة صلاح فرد على قائلا "لم اجد في حياتي رجلا يقدم لك خدمة دون أن يتنظر منك جزاءً و لا شكورا إلا صلا ح" و ذكر زميل باكستاني آخر انه لا يتصور دخول المبنى الذي كان يزامل فيه صلاح دون أن يجده. وفاة صلاح كانت فاجعة ومأساة كبرى لا من جهة فجاءتها وصدمتها على أهله وأصدقائه ومعارفه بل لكونها حدثت أمام ناظري زوجته وابنه ماجد (مجوك) الذي كان لصيقا به ومحبا له أيما حب والغريب ان صلاحا حرص على أجراء العملية التي ذهبت معها روحه في وجود أسرته لتتولى رعايته في فترة النقاهة كما كان مُنتظرا لكن إرادة الله الغلابة جعلته يلاقى ربه في حضرة من يهوى ويحب وتلك واحدة من مفارقات ذهابه من هذه الدنيا الفانية. أواه يا صلاح الدين يا رائع المشاعر وآسر القلوب والضمائر وأغنية جميلة في قلب شاعر وشمعة تضئ درب كل سائر، ستظل فينا بابا مفتوحا يدخل منه الخير ونافذة ينفذ منها الضوء وجدارا يسند رؤوس المتعبين وأعلم ان احمد وأشرف و "مجوك" وسماح يسيرون على درب التربية الذي رسمته لهم مسنودين بدعاء والدتهم ودعمها فأهنأ بمن ربيت ونم قرير العين في مرقدك الابدي واعلم يا حبيب الكل ورفيقهم أننا سنظل ندعو لك ونفتقدك الى ان يجمعنا الله بك في مستقر رحمته. لقد اتعبتنا بعدك يا صلاح الدين فنحن نعجز عن مجاراتك قولا وعملا فمن مثلك يا "صلاح الخير" يحمل ألف بشرى ويوقظ غافلا ويتيح اجرا. [email protected]