استهداف طائرات مسيرة قاعدة "فلامنغو" البحرية في مدينة بورتسودان فجر اليوم    "آمل أن يتوقف القتال سريعا جدا" أول تعليق من ترامب على ضربات الهند على باكستان    شاهد بالفيديو.. قائد كتائب البراء بن مالك في تصريحات جديدة: (مافي راجل عنده علينا كلمة وأرجل مننا ما شايفين)    بالفيديو.. "جرتق" إبنة الفنان كمال ترباس بالقاهرة يتصدر "الترند".. شاهد تفاعل ورقصات العروس مع فنانة الحفل هدى عربي    تسابيح خاطر    بالفيديو.. "جرتق" إبنة الفنان كمال ترباس بالقاهرة يتصدر "الترند".. شاهد تفاعل ورقصات العروس مع فنانة الحفل هدى عربي    شاهد بالفيديو.. شيبة ضرار يردد نشيد الروضة الشهير أمام جمع غفير من الحاضرين: (ماما لبستني الجزمة والشراب مشيت للأفندي أديني كراس) وساخرون: (البلد دي الجاتها تختاها)    شاهد بالصورة.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل تسابيح خاطر تنشر صورة حديثة وتسير على درب زوجها وتغلق باب التعليقات: (لا أرىَ كأسك إلا مِن نصيبي)    إنتر ميلان يطيح ببرشلونة ويصل نهائي دوري أبطال أوروبا    الهند تقصف باكستان بالصواريخ وإسلام آباد تتعهد بالرد    برئاسة الفريق أول الركن البرهان – مجلس الأمن والدفاع يعقد اجتماعا طارئاً    والي الخرطوم يقف على على أعمال تأهيل محطتي مياه بحري و المقرن    ترمب: الحوثيون «استسلموا» والضربات الأميركية على اليمن ستتوقف    اعلان دولة الامارات العربية المتحدة دولة عدوان    عادل الباز يكتب: المسيّرات… حرب السعودية ومصر!!    الأهلي كوستي يعلن دعمه الكامل لمريخ كوستي ممثل المدينة في التأهيلي    نائب رئيس نادي الهلال كوستي يفند الادعاءات الطيب حسن: نعمل بمؤسسية.. وقراراتنا جماعية    مجلس الإتحاد يناقش مشروع تجديد أرضية ملعب استاد حلفا    من هم هدافو دوري أبطال أوروبا في كل موسم منذ 1992-1993؟    "أبل" تستأنف على قرار يلزمها بتغييرات جذرية في متجرها للتطبيقات    وزير الطاقة: استهداف مستودعات بورتسودان عمل إرهابي    أموال طائلة تحفز إنتر ميلان لإقصاء برشلونة    قرار حاسم بشأن شكوى السودان ضد الإمارات    بعقد قصير.. رونالدو قد ينتقل إلى تشيلسي الإنجليزي    ما هي محظورات الحج للنساء؟    شاهد بالصورة والفيديو.. بالزي القومي السوداني ومن فوقه "تشيرت" النادي.. مواطن سوداني يرقص فرحاً بفوز الأهلي السعودي بأبطال آسيا من المدرجات ويخطف الأضواء من المشجعين    توجيه عاجل من وزير الطاقة السوداني بشأن الكهرباء    وقف الرحلات بمطار بن غوريون في اسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ أطلق من اليمن    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسن الترابي و محمد اقبال فرسي رهان في معركة الإصلاح والتجديد
نشر في الراكوبة يوم 05 - 03 - 2017


وجهه من ظلمة الموت سفر ونما من قبره مثل الزهر
محمد اقبال
عادة يبدأ الناس بالبدايات وهي أول الحياة لكل الاشياء ، ولكن علي غير العادة أبدأ بالنهايات ونهاية كل الاشياء هو الموت ، والموت في هذا المقال هو بداية الصعود وتجدد الحياة ، الأبيات في أعلي المقال للفيلسوف محمد اقبال غير انها تجسد سيرة حياته بعد الرحيل هي ايضاً تشابه و تجسد حياة الشيخ حسن الترابي بعد رحيله ، فلم يمضي الكثير من الوقت علي رحيله ودفنه تحت الثري حتى قفز من تحت قبره ليطل علي الناس في مجالسهم بلسانه الساخر والساحر ، لا تخلو صحيفة او ندوة او حتى ونسه عامة في أطراف المدن والأرياف في الليالي تحت أضواء القمر ، او في النهاريات تحت ظلال الشجر من سيرة الشيخ حسن الترابي ، أفكاره وتصوراته عن القضايا والحياة تعاظمت عند الناس اكثر مما كانت عليه في حياته ، سيرته إنفتحت علي أفق ومساحات ما كانت تصلها الاشياء ولم تسلط عليها الاضواء ، مقولاته وتشبيهاته صارت علي كل الألسنة ، كلماته عادت إليها الحياة من بطون الكتب قفزت الي حياة الناس حضوراً في تعقيدات الحياة و إستشهادات الأشياء ، تماماً مثل ما يقول سيد قطب كلماتنا تظل كالعرائس حتي إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة .
نعود الي البدايات لماذا هذه المقارنة اصلاً بين الشيخ الترابي والفيلسوف اقبال ، البعض قد لا يجد مشتركات موضوعية تعقد علي إثرها هذه المقارنات ، فالمشهور عن محمد اقبال أنه كان شاعراً عظيماً شعره ملأ الافاق وشغل الناس ، والشيخ الترابي لم يكتب الشعر بل ينعدم الشعر حتي علي سبيل الاستشهاد في ندواته ومحاضراته وكتاباته ، و كلاهما عاش في عصر مختلف عن الاخر ، اقبال ذهب الي ربه في بدايات القرن الماضي والترابي ذهب الي ربه في بدايات القرن الحالي ، وقد يستنكر بعض من المحبين هذه المقارنة بحسبان ان أحدهما كان عظيماً ومؤثراً دون الاخر ، متعالياً مع الائمة الكبار في تاريخ المسلمين دون الاخر تواضعاً في المقام الرفيع ، ولكن الناظر بعمق في الأدوار العظيمة التي قاما بها في نصرة الفكرة الاسلامية في زمان انكسارها وضعفها لا تخفي عليه هذه المقارنة ، إذن ما الذي يجمع بينهما لتنعقد هذه المقارنات .
الإجابة أن ما يجمع بين الشيخ الترابي والفيلسوف اقبال أنهما من أبرز قادة الاصلاح والتجديد الديني في العصر الحديث ، وقد يقول البعض ان هذا ليس كافياً وإلا لماذا لا تنعقد المقارنة مع الامام جمال الدين الافغاني او الاستاذ الشيخ محمد عبده ، وأضيف انهما علي هذا التشابه في العنوان الأبرز ايضاً يتشابهان في كثير من الاشياء والصفات والميول والنشأة وسنستعرض ذلك تفصيلاً ، بل تكاد حياتهما تصل حد التطابق في الإصول المعرفية و الابتدارات الأولي التي شيدت عليها تصوراتهما للحياة ، امتد ذلك تطوراً في النهل من منتوج الحضارات الأخرى ، وصولاً الي التشابه حتي في الطرق والوسائل والمناهج التي اتبعاها في تبليغ مقامات الدعوة الاسلامية الي ارفعها مقاماً ، ختاماً بالسعي المتواصل في إستنهاض الامة ولملمة جراحاتها ومداواة أوجاعها والصعود بها الي مقامات النهضة والإصلاح .
الحياة في رحاب القران وظلاله كان أول المشتركات بين اقبال والترابي ، يقول اقبال انه كان يقرأ القران كثيراً وقد حفظه وهو صغير في السن ، وان أثر القران في السنوات الأولي من حياته لم يكن كبيراً حتي قال له والده العميق الصلة بالتصوف ، يا ابني اقرأ القران وكأنه أنزل اليك ، قال ومن يومها حفظت هذه الوصية وتأثرت بذلك ، ولعل أثر القران في اقبال يتبدى في مقولته أن القران راس مال اهل الحق في ضميره الحياة وفيه نهاية كل بداية ، الشيخ الترابي بداية صلته بالقران كانت علي يد والده القاضي الشرعي و ظل وثيق الصلة بالقران أتم حفظه في السجن وهو في سنوات الوعي الكامل ولذلك كان رسخوه فهماً وتدبراً اكثر عمقاً ، ولم تكن قضية حفظ القران عنده حاضرة وحدها بل يقول انه لازماً علي المسلمين لا ان يُحفظ القران ويُنشر فحسب بل ان يفسر ويبين معناه ليقع أثره في حياة كل مسلم ، وظلت قضية انعزال القران عن حياة الناس أشد حضوراً في ذهنه ، وان الحياة كلها افلتت من القران وأنه خطاباً للذين امنوا وللناس كافة وليس حكراً علي المسلمين وأنه يخاطب المسلم وغير المسلم يصل ذلك بالحياة المعاصرة والعلوم المتطورة المتجددة ، كل هذه المعاني بكلياتها تمثل جوهر فكرة التفسير التوحيدي عند الترابي ، و أثر القران علي الشيخ الترابي كان عظيماً ويمكن تلخيص ذلك كما يقول تلميذه المحبوب عبد السلام أنه لا يتيسر ان تجد من بين خطباء السياسة المعاصرين من تأتي خطبته كلها من القران الكريم في مناسبة سياسية محضة علي مدي اكثر من ثلاثة ساعات ، خلاصة التشابه بين اقبال والترابي ان كليهما يري ان من الواجب قراءة القران قراءة جديدة .
يقول جبران خليل جبران عن نفسه أنه لم يترك شيئاً مما كتبه الافرنج إلا وعرفه حق المعرفة ، والشيخ الترابي والفيلسوف اقبال كذلك اتصلا بالحضارة الغربية اتصالاً عميقاً ولم يتركا شيئاً من علم الافرنج إلا وعرفاه ، محمد اقبال هضم الحضارة الغربية وفلسفتها واستوعبها وعرفها كما يعرفها ابنائها حتي بلغ القول بأحدهم ان معرفة اقبال بالثقافة الغربية أفضل من معرفته بالثقافة الاسلامية ، ورغم ذلك كان له رأي مغاير في الحضارة الغربية يلخص ذلك في احدي اشعاره ويقول ، ستقتل حضارتكم بخنجرها ان الذي توهمتموه ذهباً سترونه زائفاً وان العش الذي لا يُبني علي غصن دقيق لا يُثبت ، ولم تغير الحضارة الغربية من اصوله الاولي ويقول عن ذلك لم يستطيع بريق العلوم الغربية ان يبهر لبي ويعشي بصري لاني اكتحلت بإثمد المدينة ، ورغم ذلك لا يمكن إنكار أثر الحضارة الغربية عليه يقول في سياق مختلف ان المعرفة الدينية يجب ان توضع في اطار علمي كما تقتضي ثقافة العصر الحديث ، جدلية الحضارة الغربية عند الشيخ الترابي يلخصها بقوله ان الاسلام كان عنده محض مخطوطات ومحفوظات وهو صغير السن ولكن حياته في اوربا ومعرفته بالحضارة الغربية بدلت عنده هذه المنقولات الجامدة الي رصيد من الوعي بأهمية وقيمة الشعور بالانتماء الي الاسلام ، لم تبهره بمدارسها وفلاسفتها وتمدنها بل زادت ايمانه العميق بأصول الدين ورغم هذا الشعور بالعزة هو يري ان الثقافة الاوربية في جانبها العقلي ليس إلا إزدهاراً لبعض الجوانب الهامة في الثقافة الاسلامية ، إجمالاً يمكن ان نقول ان أثر الحضارة الغربية علي اقبال والترابي ان كليهما قدما رؤية للإسلام من خارج الفضاء العربي المعاصر الطافح بالكسل المعرفي والتقليد السمج .
من المشتركات التي تجمع بين الشيخ الترابي والدكتور اقبال اجادة العديد من لغات التواصل الانساني ، الشيخ الترابي كان مجيداً للعربية تمكن منها خطاباً وكتابة ويعرف نحوها وصرفها وبلاغتها و حفظ اشعارها ومعلقاتها منذ وقت باكر في حياته ، بلغ من شدة إتقانه أنه برع في نحت مفردات وتشبيهات غير معهودة في زمانه وادخل تركيبات جديدة لم تكن معروفة ، ومن هذا الباب باب اللغة العربية والتعلق بها كواحدة من ادوات النهضة يري الترابي ان إنحطاط حياة المسلمين ساهم في إنحطاط اللغة العربية ولذلك غزتها الحضارات الأخرى بتعابير مبتدعة ، ويري ان اللغة لا تجمد فهي تحيا بنهضة الحياة والحضارة ، وان المسلمين ضيعوا تاريخهم الثري قيماً وحضارة وصرفاً لغوياً بليغاً ، كذلك أجاد الترابي عدد من اللغات الأخرى ولعل هذه الإجادة بسطت له المعرفة توسعاً في منتوج الثقافات والحضارات المختلفة ، وعلي ذات النسق والتشابه كان الدكتور اقبال ، يتحدث العارفون ببواطن الفارسية التي كتب بها ستة من دواوينه الشعرية أنه جدد في المعاني والألفاظ والتشبيهات ونقل الفاظاً من سياقها الخليع وألبسها معاني روحية جديدة فيها روح الاخلاق والدين ، و مثال علي ذلك ديوانه اسرار خودي ، و خودي في الفارسية تعني الانانية وحب النفس ولكنه اضفي عليها معني جديد فخودي عنده الاحساس بالنفس والذات وله فلسفة عميقة علي هذا النحو ولذلك سُمي اقبال بفيلسوف الذات ، و كان ثري اللغات كتب اشعاره بالبنجابية و الاردية والفارسية ، وأجاد اللغة الانجليزية والألمانية وكتب بهما أفكاره وتصوراته ، الغريب في سيرة اقبال أنه لم يكتب بالعربية مع انه كان مدرساً للغة العربية في بدايات حياته ، هو يبرر ذلك بأنه لم يكن مجيداً لها اجادة تامة حتي يكتب بها ، الشيخ ابو الحسن الندوي له تفسير اخر يقول ان اقبال كان يري ان العقل العربي اقوي علي فهم الاسلام فهماً صحيحاً ولذلك هو احق بالكتابة بها ولا اعتقد ان اقبال بعلمه ومعرفته بتاريخ الشعر والفقه واللغة يري ذلك فكثير من ائمة الفقه والشعر الكبار لم يخرجوا من العقل العربي ، ولكن اعتقد ان السبب في عدم كتابة اقبال اشعاره وكتاباته باللغة العربية ما هو إلا تعظيماً وإجلالاً من اقبال للغة العربية والخوف من عجزه وقدرته علي السمو والعظمة عند الكتابة بها ، اضافة الي ان الحاضنة التي تربي وعاش فيها الدكتور محمد اقبال كانت بعيدة عن محيط اللغة العربية .
من المشتركات العميقة بين الشيخ الترابي والدكتور اقبال رؤيتهما للتصوف ، أول البدايات أنهما انحدرا وتربيا وعاشا في بيئة عميقة التصوف ، فالترابي ينتمي الي أسرة باذخة التاريخ في التصوف جده كان علماً من أعلام التصوف في السودان ، يكاد الترابي يحفظ غالب محفوظات المديح السوداني الذي يتغني بحب الرسول الاعظم ويطرب له بشدة ويميز صحيحه من سقيمه ، وعنده ان أهل التصوف اهتموا بحقائق الايمان الحية وأنهم أبانوا دقائق الاعتقاد وشعاب العاطفة الدينية ومناهج التربية النفسية لتزكية الايمان ، ويري الشيخ الترابي ان الصوفية احيت عنده المعني الروحي للتدين الشكلي الظاهري وأنها وحدت الظاهر والباطن و أنها نشرت الاسلام اكثر مما نشره الفقهاء وهو يشير قطعاً الي الفتوحات الاسلامية ، ويعيب علي الخالفة من اهل التصوف أنهم انحرفوا به عن سيرة الاوائل من أهل التصوف ، الدكتور اقبال قدم تفسيراً عميقاً للتصوف وله مقولة توزن بميزان الذهب قال ان العلاقة بين الدين والدنيا ليست علاقة خصومة فإذا اراد الانسان ان يصل احدهما لا ينبغي عليه قطع صلته بالأخر ، و تكاد تتطابق رؤية اقبال مع رؤية الترابي في خلف اهل التصوف حين يقول ان الصوفية كان لها أثر كبير لكن في حضورها الاخير أصبحت عاجزة عن الإلهام ومواكبة العصر الحديث وان اسلوب التصوف الحديث غير قادر علي معالجة علل الانسانية اليائسة ، كتابات وأشعار اقبال تحكي عن صوفي عاشق للرسول الاعظم حد الثمالة ، ولعل أثر ذلك من المنتوج الحضاري الذي اطلع عليه اقبال من تراث الهند وبلاد فارس وتأثره العميق بالشاعر الفارسي الكبير جلال الدين الرومي ويقول صير الرومي طيني جوهراً ، يرد اقبال كل المصائب التي نالت من الشرق الي إنحراف الصوفية عن مساره الصحيح ويري ان الصوفية هي الاسلوب الذي نمت وتطورت به الحياة الدينية ولكنها في هذا الزمان اضرت بالشرق الاسلامي وعلمت المسلمين نوعاً من الزهد الزائف ولذلك المسلم المعاصر بحث عن ولاءات جديدة في القومية عندما يئس من إيجاد طريقة دينية خالصة تجدد قوي الروح التي تصل بالمنبع الدائم للحياة تعلق شقفه بفتح بمغاليق قوي جديدة ، ، ألخص هذا الجزء من المقال بمقولة غاية في الفهم العميق للتصوف فالمأثور عندنا مقولة ان التشبه بالرجال فلاحة ولكن اقبال له مقولة غاية في العرفانية يقول ان التشبه بالله هو الفلاح وان الانسان اذا بلغ هذا المقام غلب الدنيا ولم تغلبه .
التجربة السياسية لكليهما في كلياتها تشابه بعضها البعض وان كان الشيخ الترابي اكثر ثراء من اقبال في تجربته السياسية ، اقبال كان اول من طرح فكرة ان يكون للمسلمين وطن مستقل عن الهند وكان وفياً لهذه الفكرة وعمل عليها كثيراً ، والدولة التي تزعمها محمد علي جناح عند استقلالها كان اقبال صاحب تسميتها بباكستان لكنه رحل قبل تسعة سنوات من ميلادها ، تزعم حزباً سياسياً اقليمياً وكان ناشطاً ضد المستعمر الانجليزي ، ولكن في خارج المحيط الهندي كانت له صولات وحضور في العالم الاسلامي زار عديد البلاد الاسلامية مبشراً بالوحدة الاسلامية واستنهاض الشعوب المسلمة ، قد تكون المفارقة في مسيرته السياسية ان داعية الوحدة والتعالي علي العرقيات والقوميات هو من نادي بانفصال المسلمين عن الهند ولا شك ان الدولة القطرية تمثل انحطاط عن المثل الدينية كما يقول الترابي ، ورغم تفسيراته و تأويلات العارفين بسيرته عن هذه القضية في اطارها المعرفي والفلسفي وفق منهج اقبال لكنها علي اي حال لا تصمد امام مشاهد الواقع السياسي المعقد في باكستان اليوم وصراعاتها مع الجارة الام ، عموماً اجمل العبارات التي تنسب لاقبال عن الدولة والدين ان الدولة في نظر الاسلام هي محاولة لتحقيق الروحانية في بناء المجتمع الانساني وان السياسة اذا تخلت عن الدين صارت سماً ناقعاً وإذا كانت في خدمته صارت ترياقاً مضاداً ، علي ذات التشابه والنسق الشيخ الترابي كان مثقف ديناميكي يتفاعل مع حركة المجتمع والتاريخ و كان غارقاً في الصراع السياسي الداخلي لوطنه ولعله من القلة من علماء المسلمين الذي مزج بين التجريد والتجريب في تجربته الفكرية والسياسية ، و من الصعوبة بمكان ان تفصل بين الشيخ الترابي المفكر والمجدد والشيخ الترابي الزعيم والقائد السياسي ، فالمشروع السياسي الذي وضع اصوله وتفاصيله ووهب له حياته لا ينفصل عن مشروعه الفكري كله منظوماً كالعقد تحت فكرة التوحيد وكما في سيرة اقبال داعية التعالي علي القوميات فإن امام الحريات وداعية الحقوق الترابي خرج عليها في الانقلاب الذي يُنسب الي رؤيته السياسية ، إجمالاً يمكن ان نقول ان الدعوة الي إستنهاض الامة الاسلامية والسعي الي طرح أفكار وتصورات تكسر صمدية هذا الواقع البائس قد تكون واحدة من المشتركات الكبري بين الترابي و اقبال في تجربتهما السياسية .
النظر الي عالم الغيب ورحلة البعث والحياة الاخرة ، هذه المفردات تجدها عند الترابي و اقبال بذات المعني وأحياناً بذات الالفاظ ، يقول اقبال ان ماضي تاريخ الانسان يجعل من المستبعد ان تنتهي سيرته بفناء بدنه ، ويري ان الجنة والنار هما حالتان لا مكانان ووصفهما في القران تصوير حسي ، وان النار تجربة للتقويم تجعل النفس المتحجرة تحس بنفحات الله وان الابد ليس الابد المتصور ، وان الجنة ليست اجازة او عطلة بل هي حياة متصلة وان الانسان كل يوم فيها هو في شان ، هذه المعاني كانت حاضرة في المجالس الخاصة للشيخ الترابي ولكنه لم يصدح بها لعل غلبة المؤسسة الدينية التقليدية وسلطانها عند الناس وتقليدية المجتمع السوداني الشديد التمسك بموروثاته القديمة ، كل ذلك كان من الكوابح التي فُرضت علي الشيخ الترابي ومنعته من التعبير الجهير عن الكثير من أفكاره وتصوراته .
حين رحل عن الدنيا محمد اقبال قال شاعر الهند العظيم طاغور ان موت اقبال مصيبة تفوق إحتمال الهند ، ولو عاش طاغور في السودان وعرف الشيخ الترابي لقال ان موت الترابي مصيبة تفوق إحتمال السودان ، نظرتهما الي الموت في عمقها الفلسفي تكاد تتطابق ، يروي عن تلميذ اقبال انه قبل رحيله قال ان المؤمن لا يخاف الموت بل يلقاه مبتسماً ، ويروي المحبوب عبد السلام تلميذ الترابي انه سأله عن الموت فقال له اذا تيقنت من رحيلي بعد ساعات فلعلي للحظات اهم بذلك ولكن بعدها امارس حياتي بشكل اعتيادي .
كارل ماركس يقول ان الكلمات الأخيرة قبل الموت هي للحمقى الذين لم يقولوا ما يكفي ، لكن الكلمات الأخيرة للشيخ الترابي والدكتور اقبال تمثل خلاصة مشروعهما في الحياة ، كلمات اقبال الأخيرة قبل الموت كانت تحن وتشتاق الي ارض الرسالة ومهد الحبيب الرسول الاعظم عشقه السرمدي ، اخر ابيات الشعر التي كتبها قبل رحيله بعشرة دقائق كما يروي تلميذه علي بخش ، نغمات مضين لي هل تعود أنسيم من الحجاز يعود ، و الشيخ الترابي مات في كامل أناقته وهو علي طاولة مكتبه يكتب عن القيمة الأكبر في حياته الحريات ، مات وهو يكتب ورقة عن الحريات يريد ان يدفع بها الي لجنة مختصة بكتابة الدستور السوداني والحريات ارتبطت بالشيخ الترابي حتي شاع بين الناس تسميته بإمام الحريات .
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.