في الأسبوع الماضي أحيا العالم الإسلامي الذكرى السبعين لرحيل شاعر الإسلام وفيلسوفه الحكيم العلامة المجدد الدكتور محمد إقبال. وهو المفكر المجاهد الذي عاش حياته كلها لهم الإسلام ورفعة المسلمين من وهدة التاريخ التي انحطوا إليها بعد أن أزرت بهم الغير. وقد سخر إقبال لمهمته النهضوية كل مواهبه الفكرية والشعرية والقانونية والسياسية والدبلوماسية، وظل يكافح إلى الرمق الأخير مستصرخا العالم الإسلامي كي يهب وينفض عن عينيه تهاويل النوم الحضاري وكوابيسه وينهض ويستعيد دوره في قيادة الإنسانية ذلك الدور الذي فقده منذ قرون. وإقبال هو الأب التأسيسي لهذا الوطن الإسلامي الذي يفخر به المسلمون جميعا، باكستان، فقد نادى بفكرة إقامة دولة منفصلة لمسلمي القارة الهندية، تلتزم بقوانين الإسلام وقيمه وتجهد في نشر رسالته في العالمين، وهي الفكرة التي تبناها القائد الأعظم محمد على جناح وجاهد في سبيلها حتى تحققت بعد نحو عشر سنوات من وفاة إقبال. ضرب الكليم: كان إقبال شخصا متعدد المزايا، ولكن جوهر عظمته يكمن في إيمانه العملي المنبعث عن فلسفة القوة والتضحية التي ظل يدعو لها ويسميها أحيانا (ضرب كليم) وهو عنوان أحد دواوينه الشعرية التسعة. والعنوان مستوحى من ضرب الكليم، سيدنا موسى، عليه السلام، الذي ضرب بعصاه الحجر فانبثقت منه اثنتا عشرة عينا، وعلم كل أناس مشربهم، فكانت مصدر حياة كريمة للجميع، ثم ضرب في آونة الكرب البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وصار سبيل نجاة للمؤمنين. وفي قول إقبال فإن (ضرب الكليم) لم يكن ماضيا بهذه القوة والحدة إلا بفعل التقوى والالتزام بعهد الدين وجليل التوكل على المولى الجليل. قرأ القرآن كأنه أنزل إليه: لقد أراد إقبال للمسلم أن يأخذ المثل من إيمان موسى عليه السلام، ذلك النبي الذي أخذ الكتاب والعهد والميثاق بقوة وبه صنع المعجزات. وقد كنت أظن أن دراسة إقبال للفلسفة الغربية، خصوصا الفلسفة الألمانية، وعلى أشد الخصوص الفلسفة المأثورة عن فريدريك نتشة هي التي أوحت إليه معاني القوة ومنابذة دواعي الضعف، وكتبت عن ذلك فصلا فيما مضى، وبالطبع فلا خلاف على تأثر إقبال بالفلسفة الألمانية النتشوية، ولكن تأثره القديم بوصية أسداها إليه أبوه كان له فعل السحر. حكى إقبال أن أباه كان يوجه إليه سؤالا لا يعدوه كل صباح عندما كان يسمعه يتلو آي الذكر الحكيم، فيقول له : ما تفعل يا بني؟! فيرد إقبال : أقرأ القرآن الكريم يا أبتاه. ودام هذا السؤال يتردد على مسامع إقبال كما ظل يرد عليه كل يوم طيلة ثلاثة أعوام، وبعدها سأل إقبال أباه عن سر تكرار السؤال، فقال الوالد: كنت أنتظر منك هذا السؤال عن سر ترداد سؤالي لأقول لك إقرأ القرآن كأنه أنزل عليك! فكان أبوه حكيما حقا إذ انتظر اللحظة السانحة ليسدي هذا النصح شديد التأثير لفتاه، وقد لزم تأثير هذا النصح إقبالا بقية عمره فظل يتلو آيات القرآن ويتأملها كما يتأمل كل شخص قولا وجه إليه على الخصوص. وبنظراته التأملية العميقة في القرآن شق محمد إقبال طريقا تجديديا لمفسرين كبار أتوا من بعده والتزموا هداه – ولنقل هدى أبيه الحكيم- من أمثال محمد رشيد رضا، وعبد الحميد بن باديس، وعبد الرحمن ناصر السعدي، وسيد قطب، ومحمد متولي الشعراوي وآخرين. ومع أن إقبالا لم يكتب تفسيرا للقرآن كما كتب هؤلاء، إلا أن قراءته للنص القرآني بما يستخرج قيمه النهضوية الحضارية، كان واضحا في مجمل كتاباته النثرية وفي دواوينه الشعرية على السواء، ولا سيما في كتابه عن ( إعادة بناء الفكر الديني في الإسلام) وكتاباته الأخرى في مجابهة الفرق الضالة كالأحمدية وبعض الطرق الصوفية الشاطحة. أي صوفي كان: ومع أن إقبالا يمكن وصفه على نحو ما على أنه صوفي إلا أنه كان أشد خصم على ضلالات بعض الأفكار الصوفية المخدرة التي كان يراها شر داء أصاب المسلمين، وكانت له نظرية عميقة في فلسفة التاريخ الإسلامي تقول بأن التصوف الشاطح كان ينتشر دوما عقب لحوق الهزائم العسكرية الكبرى بالمسلمين، فيصبح بذلك تعويضا روحيا كاذبا عن المجد المضاع. واشتد نكير إقبال على ما كان يسميه بالتصوف العجمي الفلسفي، لأن أربابه لا يعترفون بأحكام الشريعة ولا بالظاهر عموما. ويتمادون في قضايا الباطن والتأويل وتحكيم الذوق الشخصي، حتى يصبح لكل إنسان تأويله الذاتي للدين ويكون له بالتالي دينه الخاص. وهذه حالة خطرة ظهرت في كل أمة عملت لإبطال الشريعة والقانون، وهدم أسس الدين، ورفع التمييز بين الحق والباطل، والدعوة إلى الإباحية، والفوضى، والسلبية، والتبطل. وقد صاغ هذا الشاعر الفيلسوف ديوانا كاملا في مواجهة هذه الدعوى سماه (الأسرار والرموز) تناول في مقدمته تحليل الأثر اللانهضوي الذي خلعته فكرة (وحدة الوجود) الصوفية على مسلمي الهند فقال: " إن تشابها عجيبا في تاريخ الفكري الهندي والإسلام يظهر في بحث هذه المسألة (مسألة وحدة الوجود) فالفكرة التي فسر بها شنكر آجاربه كتاب(كيتا) هي الفكرة التي فسر بها محي الدين ابن عربي الأندلسي القرآن، وكان له أثر بليغ في عقول المسلمين وقلوبهم. جعل ابن عربي بعلمه ومكانته مسألة وحدة الوجود عنصرا في الفكر الإسلامي ...حتى اصطبغ بهذه الصبغة كل شعراء العجم في القرن السادس الهجري.. وخاطب فلاسفة الهند العقل في إثبات وحدة الوجود، وخاطب شعراء إيران القلب، فكانوا أخطر وأكثر تأثيرا، حتى أشاعوا بدقائقهم الشعرية هذه المسألة بين العامة، فسلبوا الأمة الإسلامية الرغبة في العمل"، فطالما أصبحت روح الله حالة في الإنسان، فلماذا يسعى إذن ويجد في السعي، وقد بلغ غايات الكمال بحلول روح الله فيه؟! عندئذ فلا بأس بالاستكانة والسلبية، بل لا بأس باجتراح الآثام، فكل إثم يمكن تأويله بمقتضى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه». وقد فسروا هذه الآية تفسيرا باطلا يقول إن الإنسان مهما ضل أو انحرف وحتى لو ارتكب موبقة الشرك فهو لا يأتي إلا ما قضى الله تعالى به في الأزل. احذروا أسير الصهباء: لقد انتقد إقبال هذا الشطح الغنوصي المتمادي، وأكد أن حالة السكر الصوفي هي من الإسلام على النقيض، فالإسلام صحو دائم وتيقظ حذر وتحمل للكتاب بقوة. ولذلك حذر كثيرا من أخطار فكرة وحدة الوجود المتسربة من كتاب ( الفتوحات المكية) لابن عربي، وديوان (أغاني شيراز) من نظم الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، وقال عن هذا الأخير: "إحذر حافظا أسير الصهباء، فإن في كأسه سم الغناء، ليس في سوقه إلا المدامة، وقد شعث كإنسان على رأسه العمامة. ذلك فقيه ملة المدمنين، وإمام أمة المساكين. شاة علمت الغناء والدلال والفتنة العمياء. هو أذكى من شاة اليونان، ونغمة عوده حجاب الأذهان، فر من كأسه فإن فيها لأهل الفطن خدارا كحشيش أصحاب الحسن". والمقصود بشاة اليونان الفيلسوف أفلاطون، صاحب فكرة (الملك/ الفيلسوف) وغيرها من الأفكار الهلامية المائعة، وأما المقصود بالحسن فهو الحسن بن صباح، قائد فرقة الحشاشين القتلة المشهورين. هذه الفكرة الزرية الهائمة التي أحلت مسلمي الهند دار البوار، هي التي دعت جمال الدين الأفغاني باعث اليقظة الإسلامية الحديثة أن يسخر منهم سخرياته المريرة اللاذعة قائلا: إنكم لو كنتم ضفادع وتكاثرتم على جزيرة انجلترا وجذبتموها بالأيدي لأغرقتموها إلى قاع اليم اللجي، ولكنكم لا تفعلون!! وقال موبخا إياهم: لو لم تكونوا حملانا لما أكلتكم الذئاب!! ذات يستحكمها العشق: وهذا الحال المريع من التدهور الحضاري طفق إقبال بعد أن انتقده يشرع في معالجته بمنظومتيه الشعريتين الطويلتين الرائعتين: (أسرار معرفة الذات رموز الذات) اللتين ضمهما ديوان (الاسرار والرموز) وأكد فيهما أسس التصوف الحقيقي، وهو تصوف القوة والإقبال على الحياة، وذلك لأن ذات الإنسان هي أساس نظام العالم كما يقول، ولا يستقيم أساس الحياة بأكمله ما لم يحكم كل فرد من أفراد الأمة ذاته، ويوجهها يعزم وحزم للنضال من أجل الأهداف والقيم النبيلة، وتسخير الكون لمصلحة بني الإنسان. وهذه الذات لا تستحكم إلا بالعشق الذي يصليها بناره ويفنيها لمصلحة المجموع، وهنا لا تفنى حقيقة وجودها ولا تنعدم، بل تستحكم وتبلغ ذروة قوتها ومضائها وسخائها وجودها. وقد أبان إقبال أن كل ذلك الجهد العارم لا يجدي ولا يؤتي ثماره المرجوة ما لم يكن له إطار متين من رسالة الإسلام الخالصة وشريعته وعبادته وقيمه، التي على رأسها قيمتي الحرية والمساواة بين بني الإنسان، فهكذا يكون التصوف نضالا وجهادا وتحملا للمسؤولية وفناء في خلق الله. لسان أمة وسنانها: هذه لمحة من عالم إقبال الذي حلت ذكرى رحيله في الأسبوع الماضي، وحق لهذه الذكرى أن نحييها وأن نقف عندها ونتأملها، فما من شاعر إسلامي معاصر كان له من الأثر على حاضر المسلمين مثله. إذ كان شعره كله دعوة للقوة والفاعلية من حيث المحتوى الأصيل، ولذلك بقي له تأثيره الحماسي القوي لاستنهاض المسلمين، وكان له في الماضي مردوده الكبير في إيقاظ مسلمي بلاده. ومن قبل علق الأديب الهندي ظفر علي خان على وقع تأثير شعر إقبال على مسلمي الهند قائلا: " حقا لم تكن هنالك أسلحة حربية لدى الهند بسبب الإفلاس، ولكن كان لديهم كلام الشاعر محمد إقبال، الذي لا يقل عن أية أسلحة من ناحية التأثير في قلوب المسلمين". ولا شك أن حداء إقبال هو الذي دعا مسلمي الهند لإنشاء دولة لهم على استقلال، ولا شك أن معاني القوة التي زخر بها شعره هي التي دفعتهم للصمود حتى تحقق لهم ذلك الحلم النبيل. وحسب شاعر من المجد أن يكون لسان أمة وسنانها !