عِندما ودّعتُ عمي الفاضِل، للمرة الأخيرة، في المحطّة العاشرة بأُمبدّة، سألني ابنه، وقد كان صديقي: هل أنت موقنٌ، بأنه موجودٌ في القاهرة؟ في جيبي تذكرة على الباخرة ساق النّعام.. سأركب تلك الباخِرة إلى مدينة أسوان. سأقوم بالتسطيح على قطار حلفا، وإذا عاقبني الكمساري، بعد محطة أبوحمد، فلن يجد شُرطةً يسجنني بها في تلك العتامِير.. سيتجرّع الصبر، حتى أبلغ منتهاي في دِغيم.. في مِصر، سأبيعهم قواريط التسالي، وحبوب الجّون، وأركب قطار الصّعيد، نحو مُنيتي. كنا أصدقاء.. تشاكسنا بعد سَريان الكأس الأخيرة في جوف الليل، وافترقنا قبيل وداعنا، أعادَ عليّ السؤال.. مِن أين يأتي اليقين؟ هدأة ليل الحزانى تُغري بالسهر، والغرباء مساطيل، ومن لا يَلُفّْها عياناً، فسوف ينْسَطِل ب "كَبَريتْ" أُم حِميدان، تلك القُرعانية، خزرجية الأنف، هي صاحِبة المطعم البلدي في سوق الجنسية السودانية، بمدينة بنيِغازي. يقولون إن الأوس والخزرج، هم بعض هِجرات، وفِدت من هُنا. الخزرجية تأتي في الليل. عطرها يهتُف أنّها في الطّريق. عندما تجلس لجرد حسابها مع العاملين بالمقهى، يختمرُ دُخانها فوق المناضِد، إمرأةُ مثل الرِّهاب، كأنّها خط الوهم الفاصل بين السّاحِل والصحراء، ثوبها المربوط في خاصِرتها، لا يخلو من فُقاعات النّدى، شعرُها "كُوكّي".. لِماها سوداوان، وساقيها يعتكِران بألوان الطّلح. ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد طنْطنة الرَّيح؟ وجوه السّمراوِيت في شارع 26 يوليو، تجولُ وتجول.. من ميدان العتبة، إلى شارع قصر النيل، إلى باحة التحرير.. كنتُ أسوحُ في أثوابِهِنّ، وأعودُ أدْراجي.. شوارع وسط البلد، لا تخلو مِن القِطط والغرباء، وبين يومٍ وآخر، تخرًج جِنازة لأحد المشاهير، من جامِع عُمر مكرم، و ليلٌ وراء ليل أتصفّح جريدة الأهالي، لَعلَّ شمسُ اشتراكية الكفاف تُشرِقُ من هُناك، شغَفتْني المزاراتُ، والأضرِحة، والممنوعات، و، و، والمؤخِّرات الثقافية التي تسُد منافِذَ الوعي، علّقتُ في عَضَدي حِجاباً، لتلطيف غائلة العذارى، وكنت أسترِقُ الرؤيا بين ضباب التلوث، فترعبني حجارة المقطم، تلك الحِجارة حين يجرُفها السّيل، فإنها لن تتوقف، إلا فى قصر القُبّة. بعد سنوات من ذاك المِخيال، تزحلَق سُلطان "الريِّس" مثلما تزحلق هذا الجبل، بنداءٍ غامِض، أصدَره سيِّدي، سَمعان الخرّاز، شيء ما يختبيءُ في مباخِر الشّعب، لا يُدركه الحُكّام، كاتدرائيات الجماهير، فيها الكثير ممّا تركَ آل داؤد! عِند منفذ السلّوم، يقوم آخر تل لحضارة وادي النّيل، قلبي لم يطاوعني بالرحيل، ودّعتُ خالد شهاوي في سانت فاتيما، كان مظهره مُضلِّلاً، زائِغةُ عينيه تذكرني بحملات النِّظام العام على زُقاق أبو صَليب، قطعنا المشوار الأخير في علاقتنا رَاجِليْن، تركته لدُنياه.. دُنيا من أفخاذٍ وقزاز، وتبغٍ خانقٍ يُدعى كيليوباترا، لن يعدَمَ من يُقايضه مَطاراً، سيجدُ ضالته في جحافل العابِرين، سوف يستأجِر لهم مهابِط، يفعل فيها ما يشاء، في تلك الأيّام، كان الكوايتة يحتفلونَ بذكرى تحرير "المحافظة التاسعة عشرة"، كما ظنّها النّشامى في تلك الأيام، كانت علاقة الخرطوم مع القاهِرة قد تعمّقت في الانحدار. تركتُ كل هذا، بما فيه كابوريا، بما فيه من كلام الليل الذي يمحوه النهار.. العلاقة بين مصر والسودان، مثل حكايات "توم آند جيري"، وأنا من يدفع الثمن، عند مدخل الغروب، شَدَهتني لافتة خضراء، مكتوبٌ عليها بالبونط العريض: "الدّجاجةُ تبِيضْ، الدِّينارُ لا يَبِيضْ". هذا هو عنوان عصر الجماهير، و هذا الجو، "جَوْ فُول". الماءُ هنا كثيرٌ، لكنه مثل الكلام المُرّ، في هذا الوَعَر دُفِنت أُمنَياتٌ وأسيّات، والرّمالُ كما البشر، تخبيء أسرارها، و تُكشِّرُ عن أنيابِها، تحت هذا التّبس، ترقُدُ ألغام الاتفاقيات التي مُهرت في سوانح السِلْم، لا محفلَ فى هذا الطريق، إلا محطّات السفر. اخر لحظة