سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثنائية (النوير والدينكا) ... ال (دَنْكَنَة) نهجاً للدولة
نشر في الراكوبة يوم 21 - 03 - 2017


إضاءة:
تحاول مجموعة من قيادات الحكومة في جنوب السودان تنفيذ مخطط (تهميش) المكونات الإجتماعية الأخرى في البلاد لصالح إثنياتها وجهاتها، ويجئ التعبير على هذه السياسة بعملية (دنكنة) للدولة إتساقاً مع الخطى الرامية لسيطرة قبيلة الدينكا - كبرى المجموعات القبلية في الدولة الوليدة - على مقدرات وإمكانات الدولة الحديثة ذات الموارد الضخمة، كإستحقاق لنضال طويل ومرير ضد الحكومات الوطنية السودانية، الأمر الذي وضع البلاد تحت أزمة إنسانية وسياسية طاحنة منذ ديسمبر 2013م ولا يزال جنوب السودان يعاني منها حتى اللحظة.
مدخل:
وال(دنكنة) مصطلح لا يخلو من الغرابة والإثارة والخطورة، تم تداوله كثيراً إبان الحرب الأهلية الحالية في جنوب السودان من قبل ناشطين سياسيين وبعض الشباب الجنوب سوداني المثقف، وتكمن غرابة هذا المصطلح وخطورته ليس فقط في كونه حالة من السلوك الدكتاتوري التي تمارسها حكومة دولة كاملة الإستقلال والسيادة في قرن الإنفتاح والمعلوماتية، وإنما في سطحيتها وضعف مدلولها، فضلاً عن إشاراتها ومدلولاتها العنصرية. وبغض النظر عن تبني ال(دنكنة) كنهج من قبل حكومة الحالية أو عدمها، إلا إنها ستظل وصمة عار على جبينها ونقطة سوداء في مسيرة تطور التاريخ السياسي للدولة الوليدة، فجنوب السودان الآن بات خطراً ليس على الإقليم والمنطقة فحسب، وإنما على الأمن والسلم الدولييّن ولوقت قد يطول. فالمصطلح هذا، مُوغل في السوء و(العهر السياسي) والجهل بقوة حركة الشعوب الحرة وصيرورة التاريخ، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم (جماعةٍ ما) بتبني نهج تأسيس دولة على أحلام جهوية وقبلية وأطماع (ذاتية توسعية) مهما كانت المبررات. وبذلك تعتبر ال(دنكنة) - بحسب مروجيها - تعبير عام لحالة الإحتقان السياسي التي تسود جنوب السودان، ومحاولة من قبل قيادات الدولة من (قبيلة الدينكا) لإعادة كتابة تاريخ جديد للدولة يتفق وهوى هذه القبيلة الحاكمة والتي تعد في ذات الوقت كبرى قبائل جنوب السودان ثقلاً سكانياً وفرص تعليم.
جنوب السودان .. دماء ودموع:
عُرف إقليم جنوب السودان في عصور كثيرة متعاقبة بالتجاهل والتهميش، وتعرّض للإهمال في نواحي التنمية وتقديم الخدمات، سواء في أوقات إستعمار السودان لفترتين (التركي المصري) و(الإنجليزي المصري)، أو في فترات الحكومات الوطنية, ولعل ذلك ما أدى إلى نشوب هذه الحرب الطويلة في القارة، والتي إنتهت إلى تبنى الحركة الشعبية لتحرير السودان خيار الإنفصال نيابة عن مواطني جنوب السودان كإستحقاق عن (بند تقرير المصير) الذي أُقحم في مفاوضات إتفاقية السلام الشامل في كينيا عام 2005م.
سيطر النافذون من قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان على مقاليد حكم دولة جنوب السودان بعد إنفصالها، وبدأوا في تنفيذ مخطط في عدة محاور، إقتصادية وعسكرية وإجتماعية، وتم تقسيم الأدوار على أن يكون على رأس كل مجموعة (زعيم) يكون القائد والراعي لمجموعته إمعاناً في بسط أذرع الهيمنة القبلية على البلاد ، وظهرت أحلاف سرية بين عدد المجموعات الإثنية المكونة لجنوب السودان في سبيل الظفر بمواقع صنع القرار في الدولة منذ فترة ما قبل الإنفصال، ووضح ذلك جلياً بعد إعلان إستقلال جنوب السودان بعد ست سنوات من فترة إنتقالية (عصيبة) عانت فيها الدولة السودانية كثيراً، كما تأخّرت عجلة التنمية في الإقليم على غير ما هو مخطط له، بالرغم من أن العديد من الدول المانحة أوفت بإلتزاماتها المالية تجاه هذا الأمر، ولكنْ شيئاًَ من (سباق تسليح) القبائل سيطر كثيراً في تلك الفترة على تفكير قادة الجيش الشعبي لتحرير السودان، وهم يسعون للسيطرة التامة على الأوضاع حتى إنزلقت البلاد إلى ما هو عليه الآن.
إندلعت أزمة جنوب السودان كخلاف سياسي بين قيادات ترفض النهج الذي يُدار به الدولة وآخرين يرون أن أي محاولة إصلاح سياسي للدولة والحزب الحاكم يعني (عملياً) خروجهم من الساحة السياسية والتنفذية عبر الباب وبلا رجعة، ومما زاد الأمر سوءاً القرار الذي أصدره رئيس الجمهورية سلفا كير ميارديت بإقالة حكومته وإستبدالها بأخرى، في وقت إنقسم المعارضون لحكومته إلى ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى بقيادة النائب الأول السابق للرئيس د. ريك مشار، وترأس الثانية الأمين العام السابق للحركة الشعبية باقان أموم، وكان على رأس الأخيرة الجنرال (جونسون أولونج) قائداً عاماً لمجموعة من القيادات العسكرية التي تعارض الحكومة منذ فترات ما قبل إنفصال جنوب السودان. لكن أحداث العنف التي شهدتها العاصمة جوبا منذ صبيحة السادس عشر من ديسمبر 2013م طالت فقط مواطنين عزل من إثنية النوير (قبيلة د. مشار)، وجاء تبرير النظام بأن (مشار) بصدد القيام بحركة إنقلاب على الحكم والدستور، الأمر الذي رفضه مشار بشدة.
شملت آثار الأزمة في جنوب السودان الكثير من دول الجوار والمحيط الإقليمي، وإبتلعت مصر (الطعم) ودخلت بثقلها في النزاع الدائر إلى جانب النظام في جوبا منذ العام 2014م مثلما سبقتها دول أوغندا ورواندا وبورندي وتنزانيا وكينيا. دخلت مصر في القتال إلى جانب نظام سلفاكير بدواعي حفظ الإستقرار وحماية الشرعية، وكذلك للحكومة المصرية في موقفها الداعم لحكومة سلفا كير عدد من الدوافع أهمها (جدلية إعادة تقسيم مياه النيل) على دول الحوض، والموقف المرتقب لحكومة جنوب السودان في المطالبة بحصتها من المياه، وكذلك تتحسب مصر للنزاع الذي يمكن أن ينشأ تجاه هذا الملف فيما يلي دول المنبع ودول المصب, وإيجاد موطئ قدم لها في الدولة الحديثة بعد أن سبقتها إسرائيل إلى (أرض المعياد) الجديدة جنوب السودان.
عقيدة الحركة الشعبية:
كان من المسلم به منذ إعلان إستقلال جنوب السودان أن الدولة تتّجه إلى مآلات أسوأ، فقد وضح ذلك جلياً من خلال المحاباة في الخدمة المدنية والوظائف القيادية العامة والجيش والتدريب والمنح الدراسية، في وقت نجد فيه (الشارع) في جنوب السودان كان (يهمس جهراً) بأن الحكومة تحاول إنتاج الأزمة ذاتها التي كانت أس البلاء في إطار السودان الواحد، وهكذا تنامت حالة من الإستياء المبطّن بالخوف المتجذّر في دخيلة الإثنيات الأخرى المستضعفة في دولة جنوب السودان، من تجارب سابقة عانوا منها خلال فترة حكم القانوني الجنوبي والسياسي الشهير السيد/ أبيل ألير، إبّان التوقيع على إتفاقية أديس أبابا في 1972م والتي لم تدم أكثر من عشر سنوات، فكثيرون يعرفون كيف أن (إثنية واحدة) في ذلك الوقت سيطرت على كل مقاليد الحكم وتفاصيل الدولة دون أي مبرر، وما جرى بعد ذلك من قبائل (الإستوائية) من ردة فعل عنيفة لإعادة إعتبارهم وتثبيت مبدأ كرامتهم والمطالبة بحكم إقليمهم وطرد سواهم من بقية الإثنيات، ولعل من سوء طالع الممسكين بتفاصيل حكومة جنوب السودان في الوقت الراهن أنهم جاؤوا ليجدوا الأرض غير الأرض والناس غير الناس، فقد تعاقبت الأزمان وشبّت أجيال جديدة عن الطوق، أجيال متسلحة بالعلم والمعرفة وتعي الكيفية التي تطالب بها عن حقوقها التي كفلتها الدساتير المعاهدات والإتفاقيات والقوانين والنظم واللوائح العالمية.
لا يعرف التاريخ السياسي الحديث حركة تحررية قادت بلادها إلى الحرية والإنعتاق ثم إرتدت قياداتها وتردى مناضلوها إلى الدرك الأسفل من الخزي والعار ليسوموا شعبهم سوء العذاب، لا لشئ سوى أنهم من يجب أن يكون هم – لا سواهم – من بيدهم موت الناس وحياتهم ثمناً للنضال!!. وعلى الرغم من أن مقولة (الثورة تأكل بنيها) إنطبقت على الكثير من الثورات، لكن ما يحدث من أزمة حكم في جنوب السودان سيظل عقبة كؤود على مسيرة الدولة ولأزمان طويلة، لتوغلها في جرائم إبادة إثنيات وإثارة النعرات العنصرية والكراهية وعدم قبول الآخر من نفس الإنتماء والجهة.
وللحق والتاريخ، فقد قدّم عدد غير قليل من قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان من جميع المكوّنات الإثنية نضالات كبيرة ستظل قلادة شرف في صحيفة تاريخهم السياسي، فالرئيس الحالي سلفا كير ميارديت يتعتبر أحد أهم الشخصيات التي لازمت الدكتور جون قرنق منذ أول يوم للنضال وحتى التوقيع على نيفاشا بعد 21 عاماً، كما إستبسل (قبائل الدينكا) على مختلف جهاتهم في النضال وقدموا تضحيات كثيرة، وستذكر الأجيال كيف أن الحركة الشعبية في كثير من الأوقات شهدت ضعفاً بائناً وكادت تندثر بعد خروج د. مشار ود. لام وكاربينو وأروك طون وغيرهم من القيادات المؤثرة، ولولا التأثير الكبير و(الكاريزما) التي يتحلى بها الزعيم د. جون قرنق في شخصه، لأنهارت الحركة الشعبية تماماً منذ زمان مبكر من عمرها، وقد يأتي وقت يجلس فيه إخوة الوطن في جنوب السودان لمراجعة النفس ومحاسبة الضمير على هذه الجرائم التي أرتكبت في المواطنين العزل. ولكن بذات القدر، نعتقد أنه من الإستحالة بمكان أن يلتحم النسيج الإجتماعي لجنوب السودان مرة أخرى، وقد تتعذّر كل الطرق التي تجعل من جنوب السودان دولة واحدة يعيش فيها كافة المواطنين على درجة واحدة من الكرامة والمساواة، ما يرجّح خيار الإنشطار إلى (ثلاث دويلات) ضعيفة متصارعة غير مستقرة.
كان بإمكان الجنوبيين السودانيين في الدولة الحديثة أن يظهروا الكثيرمن الإحترام لهذه القيادات، لو أن مبدأ المواطنة تم إتخاذها كنهج لنيل الحقوق والواجبات دون الإلتفات إلى ما ترسّب في النفوس من إحن وأحقاد ومرارات جراء الحرب الطويلة، فجنوب السودان يضم ما يربو عن ال 64 مكون قبلي لا يجمعهم دين أو ثقافة أو عرف سواء الإنتماء لهذه الرقعة الجغرافية، ولعل ذلك ما فطن إليه قيادات الدولة منذ لإستقلالها، فإتخذوا (العلمانية) فلسفة للحكم، مع الإعتراف بالتنوع والتعدد الإثني والثقافي والعقائدي.
مشار في المصيدة:
لم يدم حلف (كير ومشار) كثيراً، إذ أن الفترة من (2005م – 2013م) لم تكفِ لإزالة حالة عدم الثقة التي نشأت بين الرجلين، أضف إلى ذلك التأثير الكبير لقيادات من (منطقة بور) مسقط رأس الزعيم جون قرنق على الرئيس سلفاكير بالعزف على أحداث 1991م التي راح ضحتها مواطنين أبرياء من (بور) عقب الخلاف الشهير بين (قرنق ومشار)، ومخاطبتهم مشاعر القبلية في نفس الرئيس بضرورة الإنتقام من (قبيلة النوير) وتجريعهم من ذات الكأس، ولقد وجد المتربصون في الخلافات الأخيرة التي نشأت بين أعضاء المكتب القيادي ومكتب التحرير القومي للحركة الشعبية في 13 ديسمبر 2013م فرصةً ثمينةً في تنفيذ هذا المخطّط الذي كان يُدار في خفاء وسرية تامة، ما أدى إلى هذا الدمار الكبير الذي لحق بإنسان جنوب السودان والبنية التحتية للدولة بصورة لم تشهدها المنطقة من قبل.
كثيرون كانوا يدركون أن التحالف الذي نشأ بين الرئيس كير ونائبه الأول السابق رياك مشار في الفترة من يوليو 2005م وحتى يوليو 2013م، أمرٌ لا يخلو من (وميض نار تحت الرماد)، إذ أن الأحداث الأخيرة سرعان ما إتخذت طابع العنف على أساس (الإنتماء القبلي) وطال المواطنين عزل من إثنيتي (النوير والدينكا)، ولعلنا هنا نستحضر طبيعة العلاقة بين المجتمعات التقليدية في جنوب السودان من خلال نزاعات متفرقة كانت تحدث بينهما في السابق حول مصادر الماء والكلأ كمظهر من مظاهر الحياة البدوية، حيث لم تتوقف وتيرة الإستقطاب القبلي الحاد بين شتى القبائل طيلة العهود الماضية، ولم تشفع تجربة الحركة الشعبية وحكومتها الإقليمية في جنوب السودان (2005م – 2011م) من إيقاف نزيف هذه الصراعات، فقد شهدت ولاية جونقلي أكبر ولايات جنوب السودان مساحة في الأعوام (2006 – 2009 – 2011م) إحترابات بين قبيلتي النوير والمورلي، رصدت المنظمات والإحصاءات الحكومية الرسمية جرائم متبادلة بين الطرفين تتراوح بين القتل والإغتصاب وخطف الأطفال وحرق القرى طالت مئات الألوف من المواطنين.
ينبغي أن ندرك أن المسائل التي تتعلق بالنزاعات القبلية في جنوب السودان كانت تعتبر سمة من سمات هذه المجتمعات، وكانت هذه القضايا تجد إهتماماً وحلولاً من قبل الإدارات الأهلية التي أنشأتها التركية السابقة وجاء الإستعمار الإنجليزي بعد ذلك لتوسيع دائرة صلاحياتها وتأسيس نظام (العمودية والسلطنة وزعيم القبيلة) كنوع من تقصير الظل الإداري للدولة، وتنظيم عملية جمع الضرائب وتوزيع الخدمات، لكن أن تستمر هذه الصراعات حتى مرحلة تأسيس دولة جنوب السودان، هذا ما لم يكن في الحسبان، بل يصعب إيجاد تفسير منطقي لتنامي هذه الظاهرة في الوقت الراهن.
وعوداً إلى الأزمة في جنوب السودان، فإن أول ما سيطرق أذنك وأنت تستسفر أحد المسئوليين في جنوب السودان عن سلوك منكر مستهجن، هو الرّد القاطع والسريع: (أنهم مَنْ ناضل وأتى بالدولة من بين فكيّ العدو..!!)، وإن شئتم الحقيقة، أنا لست بصدد الإستشهاد بمثل هذه السلوكيات غير المتحضرة، فالكثير من المبررات قد تحسب في خانة (الحقد) أو (الهوس المصطنع)، لكنّ كل مراقب لشأن الدولة الوليدة في إقليم (جنوبي السودان) السابق - بلا شك - كان على يقين من هذا المنحدر الذي إنزلق فيه القوم في ديسمبر 2013م.
إن التفسير الوحيد لإستهداف الحكومة للمكونات الإجتماعية لجنوب السودان بهذه الصورة لا يمكن قراءته إلا في إتجاه واحد، وهو أن قيادات بعينها من (قبيلة الدينكا) ترى أن النوير وغيرهم قد خانوا الحركة الشعبية أثناء الحرب ضد الحكومات السودانية، ولا يرعوي الكثيرون من هذه القيادات في القول إنه بخروج مشار في العام 1991م عن قيادة د. قرنق وتكوينه لجناح الناصر، هزيمة نكراء للحركة الشعبية، الأمر الذي جعل شوكة القوات الحكومية تقوى في ذلك الوقت. ولكننا ونحن نريد أن نوّثق لهذه (المرحلة الضبابية) للحركة الشعبية لتحرير السودان، نجد أن الكثير من القيادات المؤثرة في ذلك الوقت كانوا على قلب مشار أيضاً، والكثير من قيادات الدينكا كانوا بمعية مشار رفضاً لسياسات الدكتور جون قرنق وإدارته للحركة، حيث نجد من منطقة بور (مسقط رأس د. قرنق) العميد/ أروك طون أروك، ومن أعالي النيل د. لام اكول أجاوين، ومن بحر الغزال (ولاية واراب، مسقط رأس الرئيس سلفا كير) نجد االقائد/ كاربينو كوانين بول، وغيرهم الكثيرين يمثلون التنوع القبلي في الأقاليم الثلاثة: أعالي النيل والإستوائية وبحر الغزال.
يسوق عدد غير قليل من القادة العسكريين لنظام جوبا - قبل وبعد الأزمة - مبررات كثيرة على شاكلة أن الدكتور مشار قد تورّط في أحداث بور 1991م إبان إنشقاقه عن قرنق – كما أشرنا - بإرتكابه جرائم قتل طالت المواطنين العزل من قبيلة الدينكا (عشيرة دكتور قرنق) إنتقاماً،كما طالب عدد من القيادات الحكومية من منطقة بحر الغزال الكبرى بضرورة ردع (مشار) والإنتقام لدماء أهل (بور) منذ وقت مبكر للتوقيع على إتفاقية السلام الشامل. وبذلك إستطاعت هذه القيادات العسكرية المتطرفة جّر الدكتور مشار إلى هذا الوضع الذي يعيشه حالياً، وقد كان (سلفا كير) أكثر المعترضين على إنضمام (مشار) إلى الحركة مرة أخرى في العام 2000م في نيروبي، وقد تداولت الأوساط السياسية في جنوب السودان في ذلك الوقت تسريبات لحوارات دارت بين سلفا كير والقائد د. جون قرنق حول موقف الأول من الدكتور مشار وقبيلته، لكن يبدو أن (قرنق) كان ذو نظرة بعيدة ولم يهتم كثيراً بالأمر في ذلك الوقت، إذ بدأ المجتمع الدولي في الضغط عليه لتوقيع إتفاق سلام مع النظام في الخرطوم بضمانات (حق تقرير مصير) جنوب السودان وفصله في نهاية الأمر شاءت الخرطوم أم أبت، وأعتقد أن (قرنق) أراد في ذلك الوقت إحتواء الشتات الجنوبي أولاً وتزيين (بيت حركة) من الداخل قبل المضي قدماً في التفاوض مع الحكومة السودانية، فتقرير مصير إقليم كبير بموارد هائلة ومؤشر تعداد سكاني ضعيف كجنوب السودان، أمر يتطلب وحدة داخلية أولاً وتجميد كافة القضايا الأخرى، وهو ما حدث على الرغم من رحيل الدكتور قرنق المفاجئ بعد ثلاثة أسابع فقط من تسلمه مهام النائب الأول للرئيس السوداني وبدء تطبيق إتفاق السلام الشامل.
الدولة الوليدة والمصير المظلم:
من جانب آخر – شخصياً – أنا لا أرى إلى أي شيء أقام البعض من المراقبين والأكاديميين - ممن كتبوا عن حول أزمة جنوب السودان - حججهم من أن أمر ومصير السودان كان سيختلف لو بقي الدكتور قرنق على قيد الحياة ..!! وما هي المبررات المنطقية لعدم إنفصال جنوب السودان في وجوده وهو الذي وضع بند الإستفتاء على تقرير المصير وغيره من البنود القاسية، على الرغم من التحفظات الكثيرة التي أبدته الحكومة السودانية ووفدها المفاوض؟! وكيف يستقيم منطق الذي يقول بإستمرار وحدة الدولة السودانية بوجود (قرنق) رئساً للسودان أو نائباً أولاً للرئيس؟ أو لم يلقَ مصيره المحتوم وهو قادم من دولة إفريقية جارة ومعادية للسودان؟ وهل زار قرنق دولة عربية أو إسلامية واحدة قبل موته ليكون ذلك مسوّغاً لإتجاهاته الوحدوية مع الشمال؟ ألم يقل (قرنق) صراحةً أن قضيته الكبرى والذي سيكسبها لو عُرِضت على (الله سبحانه وتعالى)، هي التنازع في الهوية؟ ألم يقل الرجل أنه يدعو إلى (السودانوية) ولا يقبل بغير ذلك، لا العروبة وحدها ولا الإسلام ولا المسيحية ولا الإنتماء إلى (البجا) أو (الفور) أو (النوبة) أو (الدينكا) .. كل ذلك لا ينبغي أن يُبنَى عليه الهوية السودانية؟!! ما لكم كيف تحكمون؟!!
إذن كان مصير جنوب السودان هو (الإنفصال) مات قرنق أم عاش، وليس هناك ما يدلّ على غير ذلك. لكن علينا أن نقرأ جيداً كل تلك الأحداث مع أزمة جنوب السودان الحالية، وبذات المنطق، لقد كان هناك تخطيطاً للأحداث التي إندلعت في جنوب السودان في 16/ ديسمبر 2013م، تزيد أو تنخفض حدة السيناريو، لكنه كنهج وتخطيط، تمّ وضعه والتواثق عليه قبل التوقيع بالأحرف الأولى على (إتفاقية نيفاشا) الكارثية.
خيوط التآمر .. وبدء الأزمة:
ألقت أزمة 15 ديسمبر 2013م بظلالها على المشهد في جنوب السودان، وقد إستفاد الدكتور مشار من هذا الإستهداف الذي إكتوى به مواطنين من قبيلة النوير ومن الإثنيات الأخرى في جنوب السودان على أيدي ميليشيات الدينكا والتي يقودها الجنرال فول ملونق أوان وهو من أكثر قيادات هذه القبيلة تطرفاً في الأزمة، كما يعتبر العقل المدّبر لكل الأحداث منذ الخامس عشر من ديسمبر 2013م، وأقول إستفاد (مشار) من السحل والتقتيل والتنكيل الذي واجه أبناء جلدته وبقية الإثنيات – على سوء الأمر – فهو يعلم جيداً أن غرمائه من (القبيلة الأخرى) المنافسة يتربّصون به ويتحيّنون الفرص لتصفيته والقضاء عليه، بل كان لا يجد الإحترام اللازم من مرؤوسيه وهو النائب الأول لرئيس الدولة !! وقد واجه (مشار) طيلة الثماني سنوات التي قضاها إلى جانب (سلفا كير) في القصر الرئاسي الكثير من الصعوبات والمضايقات، على الرغم من إعتذاره المبطّن لإثنيتة الدينكا عندما عمل على تقريب قيادات منهم إلى جانبه، وأحاط نفسه ببعض القيادات الوسيطة من إثنية الرئيس سلفا كير إمعاناً في الإعتذار، وهو الأمر الذي لم يشفع له في إستهدافه وقبيلته من جهة، ومن جهة أخرى إعتبره بعض قيادات النوير تجاوزاً من زعيمهم وتقليل من شأنهم وتجاهل صريح لقيادي ينبغي أن يتطرق إلى حل بعض قضايا قبيلته مثلما ينتهج كل قيادات الحركة الشعبية. وأظل أكرر، لقد إستفاد مشار من الأزمة، إذ لم يشهد التاريخ - حديثه وقديمه - أن إتحّدت قبيلة النوير في كل إتجاهاتها الأربع لحظة واحدة، وقد جاءت الأحداث لتنبه القبيلة إلى الخطر المحدّق بها وأنه لا بد من التكاتف لضمان حق البقاء، وأعتقد أن هذا هو السبب الرئيس في أن المعارضة المسلحة بقيادة د. مشار تسيطر عليها أبناء النوير بصورة لافتة
ليس من الخطأ في السياسة أن يصل طموح القيادات درجة المطالبة بحكم بلادها، فهذه حقوق تكفلها الدساتير والقوانين المنظمة لعلاقة الحكام ببلدانهم، لكن أن يطمح الأفراد إلى هذا المسلك بإستخدام الثقل الجماهيري القبلي، ذلك ما حدث في الدولة الناشئة، فطرفا النزاع كل يرمي باللائمة على الآخر في إندلاع الأحداث ما يجعلنا نعتقد أن (بعض الحقيقة) غائب حتى الآن ما لم تتوفر إرادة سياسية دولية تقوم بالضغط على الأطراف أو إقامة محاكم واسعة تطال كل المتورطين في إندلاع الأحداث. وهذه هي النتيجة المنطقية لبدء أية جهود يُراد بها حل الأزمة ، والتي – للأسف – لا نرى لها أية حلول سوى: التقسيم إلى دويلات ثلاث، لا أكثر ولا أقل.
خاتمة بلا نهاية.. الحلقة المفرغة:
نعم؛ يصعب التنبؤ بمستقبل دولة جنوب السودان بعد هذه الأحداث الجسام، والتهتك الكبير الذي أبلى ثوب عافيته، فأكثر الناس تفاؤلاً يدّعون أن فرصة الإندماج مرة أخرى في الدولة الأم (السودان) هي الأقرب، ويقول آخرون أن المجتمع الدولي الذي رعى الحركة الشعبية (التمرد) والحركة الشعبية (الدولة)، سيكون له كلمته في نهاية الأمر بوضع البلاد تحت وصايته. لكنني أعتقد أن العالم الآن يمور بما هو أبعد في نظرته وتقديره الإستراتيجي من هذه القضية، إذ أن التحولات التي تشهدها الساحة العالمية بمجئ (دونالد ترامب) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ونذر حرب يتراءى جرّاء الإحتكاك الذي يمكن أن يحدث بين القوتين العظميين الولايات المتحدة وروسيا حول سوريا ومناطق النفوذ في الشرق الأوسط، من شأنه أن يصرف كل الأنظار عن رؤية وتدارك هذه الكارثة الإنسانية التي فتحت أبواب جحيمها على جنوب السودان، وسيستمر حرب (ثنائية النوير والدينكا) في جنوب السودان، إلى أن يلقى الرجل منهم أخاه فيقول له : ( أنجُ سعد، فقد هلك سعيد).
أرأيتم؟!!!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.