(ما في حور عين، ياكي بخيته بت أحمد ذاتك، حتكوني الحورية، وحتلاقي يحيى هناك في الجنة). تبلمت بخيتة بثوبها (القنجة) لتخفي أسنانها المثرمة، التي قد تفضحها ابتسامة منفلته من بين ركام حزن ثقيل، مضى عليه عمراً طويلاً وأليماً. منذ أن أعطت يحيى غوائشها الثلاث، لبيعها في سوق الصاغة في أم درمان، حتى يكملا شراء الشيلة، ويتمان الزواج، الذي تأخر كثيراً بسبب حملات التجنيد الإجباري التي تصطاد الشباب، ومن ثم حملهم قسراً إلى مناطق النزاع. أكدت الأخبار التي جاءت مع اللواري القادمة من أم درمان عن طريق فتاشه أن الأحوال هادئة، وأنه لا وجود لجنود التجنيد الإجباري. كان يحيى آخر الراكبين في الناقوري، وهو اللقب الذي يطلقه أهالي قرضاية على لوري حاج الصادق. كان كل من في اللوري يسمع دعوات أمه بصوتها المتهدج: (الله يستر عليك..ويكفيك شر العوارض..) يفيض دمعها، فينكسر صوتها: (ودعتك لأبو فاطنه)..وبخيتة هناك تختلس النظر من خلف الصريف، ومعها فتيات أخريات، جئن يتبادلن الغمزات مع ركاب التنده. عندما استبد الغضب بعمدة قرضاية الذي كان أنصاريا فيما مضى، ثم انتمى إلى جبهة الإسلام فيما بعد، أخذ وفداً من أهل القرية وذهب بنفسه إلى ولاية شيكان يسألهم عن حقوق أبناء القرية الأربعة، يحيى وسليمان والدومة والرضي، الذين ماتوا في جنوب السودان. خاصة بعد أن تناقل بعض أهل القرية خبراً مفاده، أن الذين يأخذهم التجنيد الإجباري ليسوا شهداء، إنما الشهداء هم طلاب الجامعات، وكبار موظفي الدولة، ومنسوبي الحزب، وهؤلاء هم فقط من تقام لهم أعراس الشهادة، وتسمى المدارس والطرقات بأسمائهم، ويدخلون الجنة. في خور إنجليز بالقرب من توريت، كان يحيى والدومة يتقاسمان خندقا واحداً. قال يحيى للدومة، أنا لو مُتَّ قبلك، حدِّث الملازم يرجع لبخيته الغوايش. ابتسم الدومة ابتسامة يائسة، وقال: يا يحيى يا أخوي، ما معروف البموت قبل أخو منو، لكن قالوا ناس التمرد كان قبضونا بفكوا ناس التجنيد الإجباري عشان هم ما ناس دواس، ولا جايين يخشوا الجنة. (تلبوا واجروا...) ناس التجنيد الإجباري قدامكم. قفز يحيى والدومة وسليمان والرضي وتفرقوا في صحراء فتاشه، لكن أقدارهم رمتهم في فخاخ المعسكر واحداً تلو الآخر. وعاد الناقوري في اليوم الثاني يشيع الحزن في قرضاية بأسرها. عندما علم والي شيكان بخبر عمدة قرضاية جهز قافلة كاملة محملة بالدقيق والسكر والشاي والبن والمكرونة، وجعل على رأسها معتمد شيكان ورئيس اللجنة الشعبية وخطيب المسجد الكبير، ومنسقة المرأة وآخرين، لإقامة عرس جماعي لشهداء قرضاية. كانت بخيتة جالسة خلف أمها تنقض شعرها، قبل أن يتناهى إليها أصوات زغاريد، وطلقات رصاص. خرجت لتجد القافلة أمام منزل يحيى والذي زف أول عريساً لسبعين حورية أو يزيد. فانفتحت في دواخلها جراح أشد ألما وفتكاً، (يحيى، شلت غويشاتي، ومشيت مُتَّ، عشان تعرس سبعين مرة. شكيتك لي الله). تهللت أسارير بخيتة للمرة الثانية وهي تروي قصة محمود ود العمدة الطالب في جامعة الخرطوم، والمنشق عن الحزب الكبير بعد أن أشتد الخلاف فيه، وانفصمت عرى جماعته...قالت لفاطمة بت الزاكي: (تاري يا فاطنة ما في حور عين، ويحيى ما غشاني. محمود ود العمدة قال لي، أنت بتعرسي يحيى في الجنة...الله يلمَّنا). ضحكت فاطمة وقالت، لكن يا بخيتة انتِ بتخشي الجنة... نظرت إليها بخيتة نظرة لا تخلو من عتاب: مالني (ما بنخش الجنة يا بت الزاكي) لا كتلت ولا سرقت ولا كضبت...ودَيْني فوق رقبة يحيى. [email protected]