كان الوقت بعيد الإفطار ثاني أيام رمضان، وقد مضى على جلوسنا داخل طائرة "فلاي دبي - الرحلة FZ631" المتجهة للخرطوم قرابة ساعة. إمتلأت المقاعد تقريباً، وتصبب البعض عرقاُ بعد أن امتصت الأجساد برودة المكيف. جاء صوت إحدى المضيفات معتذراً عن تأخر الإقلاع بسبب تخلف أحد الركاب عن الطائرة. سمعت من يقول: "طيب ما تفوتوه خاتننا في الحر دا"، وصاحت امرأة بأن "دي حيلة ساي، مكيفهم ما شغال ودايرين يصلحوه". بعد حين جاء صوت المضيف هذه المرة ليبلغنا أننا سنقلع بعد نحو خمس دقائق وأنهم يقدرون صبرنا. إندفعت من الخلف سيدة في ثوب سوداني بلون "بيجي"، وقفت أمام باب قمرة القيادة وهي تصيح ثائرةً: "لكن نحن ذنبنا شنو؟ الزول المتأخر دا ما كان تفوتو تخلوه؟ - صحبتها أخرى في عباءة خليجية سوداء "أولادنا ديل الحر ما كتلهم، ما تشغلو لينا المكيف دا" ورفعت يدها مشيرةً لفتحة المكيف فانزلق على ساعدها بريق غويشات كثيفة الذهب. لم يتأخر بعض الرجال في اللحاق بهن، بعض يعاضد ويساند، ومن في الخلف كانوا يحاولون تهدءتهن. فعدن للخلف وصاحبة الثوب البيجي تقول: "زول شنو الما جا - طيارتهم خسرانة وما دايرين يعترفو". وانطلقت مجموعة من التعليقات عن ضرورة إصلاح المكيف، أو تبديل الطائرة، وأن "صاحبنا تلقاهو هسا ناااايم في الجامع". جلست النسوة ومرافقيهن من الرجال. جاء صوت الكابتن بالإنجليزية معتذرا بأنهم يعملون على إخراج حقيبة المسافر المتخلف.، وأننا سنتأخر لخمس دقائق أخرى. إرتفعت الهمهمة مجدداً. واندفعت امرأة أخرى ذات عباءة خليجية وخمار، وهي تحمل كيساً وحقيبة قائلة إنها ترغب في النزول لأن "الطيارة دي وحات ربي خسرانة". فاوضها المضيفون عند الباب لعدة دقائق فعادت للجلوس. بعد نحو ساعة من التأخير تحركت الطائرة للخلف استعداداً لدخول المدرج ومن ثم الإقلاع، وبثت الشاشات أمامنا إرشادات السلامة. لكنها توقفت فجأة وعادت لمكانها. فثار لغط كثيف هذه المرة، إليكم بعضه: "يادوب عرفتوها خسرانة؟ ما من قبيل قلنا ليكم" - و "ياخ نزلونا وكت ما دايرين تطيرو بينا" - و " النصيبة دي الله يدينا خيرها" - و "دي أصلها شركة وهم وكلها مشاكل زي سودانير". سأله آخر: "وين الإسم دا؟" تطوع ثالث بالإجابة: " بقت تأجر سلمها للمصرية". وضحك من حولهم. فتح الباب ودخل اثنان من طاقم المطار وتبعهم ثلاثة من شرطة دبي، أحاط بهم ستة أو سبعة من الركاب في عاصفة من الإحتجاجات على تأخر الطائرة. فقال أحدهم موضحاًأن إحدى المضيفات شكت من أن أحد الركاب دفعها قائلاً: "ياخ ما تطيرو ما أخرتونا". ونادوا على شخص اسمه "محمد" أرشدتهم إليه المضيفة. صاح "محمد" بأنه ما نازل ولا حاجة. فتوجه إليه شرطيان وتحادثا معه، في ما رفع شرطي ثالث - أسمر البشرة - صوته بلهجة حازمة طالباً من الجميع العودة في مقاعدهم وعدم التدخل لإفساح المجال لحل المشكلة. سمعت من يقول: "ياخ ذاتو ناس الشرطة المجنسين ديل أصلو ما بتفاهمو - ما كان يجيبو لينا أولاد البلد". إندفع راكب طالباً النزول بحقيبته، فتمت تهدئته وإعادته لمقعده. وارتفع صوت حانق: "دا قايلها بص الرميلة والا شنو عاوز ينزل على كيفو؟". بعد دقائق حمل "محمد" أغراضه ونزل بصحبة رجال الشرطة. وجاء صوت المضيف معتذراً بأنهم سيستغرقون بعض الوقت لإخراج بقية أمتعته من غرفة الشحن بالطائرة قبل الإقلاع. مر الوقت بطيئاً، بين ماإنطلقت التعليقات حول "هو أصلو عمل ليها شنو؟" وأنها " واحدة متسلبطة ساكت" "وهي قايله نفسها شنو؟" وقال آخر "إنها واحدة معفنة وبس". وأفتى آخرون بأنه "غلطان" وما كان مفروض ينزل معاهم لأنو "دق خروج وبقى خارج صلاحيات دولة الإمارات، ولن تتأخر المشاركات النسائية، حيث ردت عليه واحدة "دارسة قانون" بعد أن أمنت على أن المضيفة "معفنة دي ما فيها كلام. لكنه لا يزال تحت سلطات مطار دبي طالما لم تقلع الطائرة". كنت أرى من نافذتي عمال المطار يخرجون عشرات الشنط والكراتين من الطائرة ويفحصون الأوراق المثبتة بها قبل أن يتعرفوا على شنط "محمد"، وقد أحاطت بالطائرة سيارات المطار والشرطة. كان الجدل بين الركاب يتصاعد حول ادعاء المضيفة "المعفنة - بالإجماع!"، وعدم احترام الكابتن للركاب، "لأنو الأسكتلنديين ديل متعجرفين جداً" - رغم إنه لم يخرج علينا جوازه أبداً - وأن "السودانيين بقوا ملطشة وحكومتنا ذاتها ما شغالة بينا" - ورأى آخر أنه يجب أن نتضامن مع "أخوكم الساقوه دا، ونعمل احتجاج جماعي لحدي ما يرجعوه"، إلآ أن الجالس خلفي حذره بصوت خفيض بأن مثل هذا الكلام سيجر عليه متاعب كثيرة، فانقطع صوته. في ما راح آخرون يفكرون بصوت عال في كيفية الإنتقام من المضيفة بلكزها كل ما مرت بهم "وكدي خلي الطيارة دي تصل الخرطوم - تصل شنو؟ كدي بس خليها التقوم والله نجضمها جنس جضيم!". وهنا صرح أحدهم وهو يمسك بموبايله: "دقيقة أنا حأرسل لواحد في جهاز الأمن يجي المطار ويتسلبط فيها ويوقف ليهم الطيارة تلاتة يوم!". طوال هذا الوقت لم أسمع أبداً من يتحدث عما إذا كان "محمد" قد لكز المضيفة أم لا - حتى ممن كان جالساً بقربهم. تعبت من الجلوس الذي امتد حتى الآن لساعتين، توجهت نحو "حمام" الطائرة الأمامي، وهناك لقيت المضيفة وزميل لها. كانت جميلة وأنيقة ككل مضيفات الطيران. يزينها هدوء أبنوسي وعينان واسعتان. قالا لي إن التأخير الأول كان بسبب إحتجاز سلطات الجوازات لأحد الركاب، وأنهم ليسوا طرفاً فيه, أما التأخير الثاني فبسبب اعتداء راكب بمد يده عليها, وأنهم معتادون على هياج الركاب وصراخهم عليهم, لكن الدفع باليد يعتبر "محاولة للشجار واعتداء على موظف بمكان عمله"، وأنها كانت ملزمة بإبلاغ الكابتن الذي أعاد الطائرة - وكان سيهبط بها لو أقلعت - ويبلغ سلطات المطار. في هذه اللحظة جاء أحد موظفي المطار ودخل غرفة القيادة، وخرج وتبادل مع المضيفين حديثاً ملاطفاً لرفع معنوياتهما، وأبلغهما بأن الطائرة ستقلع بعد أن سويت المشكلة مع الراكب الذي أقر بخطئه واعتذر كتابةً. لكن إدارة الشركة قررت ألا يسافر على هذه الرحلة، وحرمانه من السفر على طائراتها مستقبلاً!! بعد ساعتين وعشرة دقائق أقلعت الطائرة متجهة للخرطوم. نفث المكيف برودته على الركاب فتناسوا ما كانوا فيه - بل إن البعض بدأ يتململ من البرودة. وراحت مضيفتنا الكينية وزملاؤها يلبون طلبات الركاب بلطف وابتسام.وصلنا مطار الخرطوم وليس بيننا من يذكر "محمداً" عفا الله عنه لما سببه لنا. وهدى الله الآخرين الذين أيدوه ظالما، ولم ينصروه مظلوماً. [email protected]