يقول الفيلسوف دولوز أن الأشياء لا تبدو مختلفة لأنها مختلفة الجوهر، و لكنها تبدو مختلفة الجوهر نتيجة لاختلافها الداخلي. من هذا المنطلق، يمكن لي ان أدعي، ان التحليل الثقافي و الادعاء المزيف، القائل بأن المركز النيلي عبارة عن جوهر، و كتلة صماء واحدة مصمتة، غير حقيقي، و لا يستند إليّ أدلة، سواء كانت تاريخية، أو معاصرة، او فلسفية و فكرية. كما أن لمفهوم المركز تجليات عديدة، غير متطابقة، و قد تكون متداخلة، و تمتاز باختلافها الداخلي، لان هناك مركز ثقافي، و مركز سياسي و مركز إقتصادي، و مركز اجتماعي، و مركز ديني، و مركز عرقي، و مركز إعلامي. جميع تلك التجليات السابقة لمفهوم المركز، هي الاخري غير متماسكة، و متباينة، و مختلفة في داخلها، لدرجة تصل الي تعدد المراكز داخل المركز الواحد. المركز العرقي، باستثناء أم درمان، ينقسم الي مركز أوسطي نيلي، و مركز شمالي نهر نيلي، بينهما تنافس اجتماعي و اقتصادي حاد، تاريخي و معاصر، وصل الي درجة الحروب القبلية في الماضي، قبل الفترة التركية. المركز الإقتصادي رغم وجوده جغرافيّا داخل الخرطوم، إلا ان هذا الوجود الجغرافي، لا يصلح لإكساب المركز الإقتصادي أي صبغة، عرقية، أو ثقافية، أو دينية، أو سياسية، أو إعلامية، حتي لو تدثر بتلك الصبغة، لأنه يحتكم فقط لمنطق راس المال و الفائدة. المركز الديني ينقسم حاليًا الي مركز ديني سلفي إسلامي، و مركز ديني صوفي إسلامي، و بينهما صراع حاد يصل الي حد التكفير. المركز الثقافي العروبي هو أيضا ليس عبارة عن كتلة صماء واحدة، لأن هناك مشاريع عروبية علمانية ثقافية متعددة، و مشروع عروبي إسلامي ثقافي له ألوان طيف عدة. كما ان سيطرة المشروع العروبي الإسلاموي السياسي حاليًا، في نسخته المتطرفة النهائية، لا ينفي وجود مراكز عروبية علمانية، سياسية و ثقافية أخري، داخل السودان. ايضا يجب أن نفرق بين المشروع العروبي الاسلامي الثقافي كتوجه مشروع للمجتمعات و الأفراد، و بين المشروع العروبي الإسلاموي السياسي كسلطة متلونة مستغلة للثقافة. تأتي هذه السيطرة السياسية للمشروع العروبي الإسلاموي، في إطار الصراع الإجتماعي الإقتصادي، لتعزيز ماكينة الثروة و السلطة، التي تحتاج الي قوة دافعة و مغلفة للصراع، تحقق المنفعة لمنتسبيها. اذن المشكلة ليست في المشروع العروبي الإسلامي كتوجه ثقافي لمن يعتقد به، حتي لو اختلفنا معه، و لكن المشكلة تكمن في استغلال هذا المشروع العروبي الإسلامي الثقافي، من قبل الإسلاموي السياسي، و استخدامه في محرقة السياسة، و جعله مبرر لهضم الديمقراطية و البطش بالآخرين و نهب ثرواتهم. التجارب أثبتت أن إعلان العداء الصريح السافر لهذا المركز العروبي الإسلامي الثقافي، لكونه عروبي إسلامي فقط، لا يفيد قضية التغيير، و يصيبه بالهلع، و يجعله أكثر تمترسا، و يعطيه وعيا زائفا لذاته، و حاجة اكثر للاحتماء بالسلطة السياسية الإسلاموية، و التماهي معها. لذلك علي الخطاب السياسي و الفكري المعارض، الموجه لهذا المركز العروبي الإسلامي الثقافي، أن يتحلي بأعلي درجة ممكنة من العقلانية و الموضوعية، و التسامي فوق الجراحات، و تحكيم صوت الضمير، حتي نتمكن من تحرير هذا المركز الثقافي العروبي الإسلامي، من قبضة المركز السياسي العروبي الإسلاموي المتلون. أما مفهوم المركز الإعلامي فقد انتفي تماماً، و لم يعد هناك أي مركز إعلامي، نتيجة للطفرة الالكترونية الهائلة، و تطبيقات التواصل الاجتماعي، و المنابر الإلكترونية المتعددة. حاليًا أي فرد أو مواطن سوداني، داخل السودان أو في أي بقعة من العالم، يمكن أن يشكل مركز إعلامي، و باستطاعته احداث أثر بالغ و عميق، في مجمل مجريات الأحداث في داخل البلاد، فقط بهاتفه الجوال. المركز السياسي ينقسم بدوره الي مركز سياسي حاكم و مركز سياسي معارض، و كل من هذين المركزين السياسيين ينقسم بدوره الي مراكز داخلية متعددة. المركز السياسي الحاكم من أجل تثبيت سلطته و ثروته، يمكن أن يستخدم أياً من أنواع المراكز الاخري، و يستغلها في محرقته السياسية. كما أن المركز السياسي الحاكم، ليس له وجود جغرافي في العاصمة كما يعتقد البعض، لان للسلطة السياسية مستويات عدة، يتساوي فيها أحيانا كثيرة، الرئيس مع الخفير في أقصي الولايات. مما سبق كله، يمكنني أن أستنتج، و بكل شجاعة، أنه لا يوجد مركز واحد، لكي يجادله الهامش الواحد المتصور. كما أنه لا يوجد مفهوم واحد للهامش، يمكن ان يكون متجانس و متطابق و متماسك، و يمكننا أيضا اعمال نفس أدوات التفكيك و التحليل، لتشريح مفهوم الهامش المتخيل و المتوهم عند الكثيرين. لقد شاركت كغيري من الكتاب و المثقفين، و بصورة كبيرة في الماضي، في جريمة تثبيت نظرية الهامش و المركز، كايدولوجيا سياسية، غير قابلة للنقاش و النقد و التجاوز، مما أدي الي إنتاج جيل من المتطرفين السياسيين، غير مستعدين لقبول صوت العقل، و لا يعرفون لغة الحوار الهادئ المفيد. المشكلة الأساسية الآن، ليست في صحة النظرية من عدمها، أكثر مما هي مشكلة عدم قدرتنا علي النقد الذاتي، و قبول النقد المضاد، و القدرة علي كسر المسلمات و التابوهات و الوثوقيات. د. مقبول التجاني