أصابني غم ثقيل وحزن ممض وحارق باقتراب الذكري الثمانية والعشرين لمصيبتنا ومصابنا المسمى ب"ثورة الإنقاذ". ويأتي هذا الغم والحزن فوق ما تراكم عبر هذه السنوات من غضب وإحباط و"قرف" وأنا أرى البلاد تنزلق باضطراد في جب لا قرار له. تبيتُ فجأة، وأنا قد تجاوزت السبعين، أن أكثر من ثلث عمري (ونحو نصف عمر السودان المستقل) قد ضاع تحت سنابك هذا النظام الغاشم الجاهل. وهي بالنسبة لي، على الصعيد الشخصي، وبالنسبة لأبناء جيلي، سنوات الخصب والنماء والعطاء؛ سنوات نضج الكهولة ،وحكمة الشيخوخة، ورد الجميل لهذا الشعب المكلوم. وهي سنوات، بالنسبة للسودان، خطا فيها العالم من حولنا خطوات جبارة بفعل العلم وثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ونحن لا زلنا نعاني من أمراض التخلف المريع مثل الكوليرا، وأمراض انهيار الدولة واستهتارها بالمواطن وحريته وحقوقه الأساسية، وبيئته وصحته وغذائه وشرابه، مثل السرطانات والفشل الكلوي. والنظام يهدر موارد البلاد بالفساد المستشري والمكشوف، وتخريب الاقتصاد الوطني الممنهج، ورشوة "المتحاورين" والمتعاونين والمرتزقة. يتعمق حزني أكثر وأكثر حين أنظر إلى حال أجيال من ولدوا بعد نهاية السبعينيات، وقد بلغ معظمهم الآن سن النبوة، أو كادوا، ولم يروا إلا الإنهيار المضطرد في كل شئ من حولهم، والكذب والتدليس باسم الإسلام، وانهيار القيم، والعسف الغاشم، والعنف المجاني، وتفريغ البلاد من الكفاءات، وبتر الجنوب، واشتعال أطراف السودان الأخرى بحروب مدمرة عبثية تحرق الأخضر واليابس، وتُسمم مستقبل البلاد والعباد. يتعمق حزني على هذه الأجيال وهي تفقد الأمل في إصلاح الحال، وتبحث عن الخلاص في ما وراء البحار (أو في جوفها): خيارها إما ركوب الموجة والإنضمام لركب النفاق والفساد، أو في ركوب الأمواج هربا من مستقبل يزداد قتامة، ومن انقطاع العشم في بلادهم. حسرتي على هذه الأجيال التي أمضت كل سنوات عمرها الواعية ممزقة بين الخطاب الديني الذي يحضّ على الصدق والأمانة والعدل والحرية والرحمة، والفعل الحكومي المتسم بالكذب الصراح والتدليس المتواصل، وسرقة المال العام، والظلم الأعمى، والقمع العنيف، والقسوة؛ الخطاب الرسمي الذي يتغنى بالسلام والتعايش والتعدد، والفعل الحكومي والحزبي والشخصي الذي يؤجج الحروب ويعمق التفرقة والفرقة ،ويُمزق النسيج الاجتماعي. لا غرو ان أحدثت هذه الإزدواجية بين الخطاب والفعل، إرباكا في نفوس الأجيال الشابة دفعت بعضها إلى اعتناق الأفكار والافعال المتطرفة، ودفعت بعضا آخر إلى الكفر بحميد الأخلاق والقيم السودانية، بينما أجبرت أعدادا غفيرة على هجر البلاد والبحث عن أوطان بديلة تُوفر لهم الحد الأدنى من الحرية ولقمة العيش، أو إلى الالتجاء إلى مغيبات العقل من مخدرات (تم توفيرها لتكملة التغييب الذي أورثه اياهم تعليم هو إلى التجهيل أقرب)، والخمور وغيرها. حسرتي على كهولنا وشيوخنا الذين ذاقوا مرارة ذُل الفقر والسؤال، وخشية ما يحمله الغد تحت هذا النظام، بعد أن عاشوا حياة كريمة وعزيزة لا يقلق منامهم ما يأتي به الغد، تؤرقهم حيرة عميقة وهم ينظرون حولهم ويتساءلون: من هؤلاء، ومن أين أتوا، وإلى أي جحيم يقودون هذه البلاد التي كانت ملء السمع والبصر، ثم أضحت بعد أن استباحوها ونهشوها وأذلّوا شعبها مثل عزيز قوم ذُل بين الأمم. حين أنظر في مقدار الخراب الذي سببه هذا النظام في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية والروحية، وفي هيبة الدولة وسلطتها وسمعتها داخليا وخارجيا، وفي تنسيل أنظمة الحكم والإدارة والقانون والقضاء، وفي تشجيعه وتستره على الفساد، وفي إهداره لثروات البلاد ومداخيلها، وتفريطه في سيادتها، وبيعه لأراضيها التي هي مستقبل أجيالها المقبلة، أكاد أفقد العشم في التغيير والخلاص. بيد أنني لا أملك إلا التعلق بالأمل في فجر قادم، والتمسك بما كنت أردده دائما: "كل أول وليه آخر"؛ والأحوال غير الطبيعية (مثل هذا النظام الشائه) قد تستمر، ولكنها قطعا لا تدوم! عوض محمد الحسن