أعاب بعض مثقفي دولة جنوب السودان على الروائية (إستيلا قتيانو) الكتابة باللغة العربية، وهي اللغة الوحيدة التي تجيدها (إستيلا) إجادة تامة وتستطيع من خلالها صياغة منتوجها الإبداعي والفكري. كما عبرت عن ذلك (إستيلا) نفسها. وقالت لبعض الكتاب الذين يكتبون بالإنجليزية من الجنوبيين، بإن الإنجليزية ليست لغتهم ولكنها اللغة التي يستطيعون التعبير من خلالها. فاللغة هي أداة من أدوات التواصل إن كانت عربية، أو إنجليزية، أو لغة الواق واق، أو حتى (لغة الراندوك)، فهي ليست قيمة في حد ذاتها أو مفهوما غارقا في التحيز حتى تصبح مادة لفرض التمايز بين البشر والعرقيات والهويات. وإن كان الاحتجاج على الكتابة أو حتى الخطاب ليس له ما يسوغه لأن السودان بطبيعته فيه العديد من اللغات أو اللهجات أو الألسنة (إذا أردنا المعنى الاختصاصي أو التقني الحرفي لمسألة اللغة) فهي الأداة التي يتواصلون من خلالها فيما بينهم بعيدا عن الهويات والأعراق المتعددة كما لا يخفى على ذي بصيرة. أما الذين يحتجون على أن اللغة العربية هي لغة القرآن (وهي كذلك) لأن الله سبحان وتعالى ما أرسل نبيا إلا بلسان قومه، وإن كان هناك من يغالي أن للقرآن لغته الخاصة وهي لغة القرآن نفسها. ومع ذلك فالإسلام لم يطلب من الناس أن يتركوا لغاتهم حتى يدخلوا في دين الله افواجا، فالدين يفهم ويفسر بأي لسان من ألسنة الدنيا التي جعلها الله تعالى آية من آياته الكونية. والعربية السودانية (إن جازت التسمية) هي أيضا لها خصوصيتها لأنها مما شك فيه كما تؤثر اللغة في الآخر تتأثر به. فالعربية في شمال السودان متأثرة بالنوبية في الشمال أيضاً. وفي غرب السودان متأثرة باللهجات المحلية. وفي جنوب السودان تأثرت بألسنة الجنوب فكان عربي جوبا. والذين يدعون أن العامية السودانية فصيحة ليسوا مخطئين تماما وليسوا مصيبين تماماً أيضاً، لأن هناك عربي أم درمان أيضاً وهي لغة مزيج من ألوان ألسنة كل السودانيين. صحيح أن اللغة يمكن أن تكون أداة هيمنة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، لكنها ليست بالضرورة أن تخلق تمايزا عنصرياً يعلي من شأن قوم ويحط آخرون مها أدعي المخالفون ذلك. فاللغة هي الماعون الواسع الذي يتسع تبعا له أفق الإنسان، فتتسع معه فضاءاته الثقافية والاجتماعية والفكرية، وهي الأداة الأمثل للتعبير عن الخلاف والاختلاف والتعدد في الرأي والرؤية.