ما كان قرار الحكومة الأمريكية باستمرار «وليس تمديد» العقوبات على السودان، سيثير كل هذا اللغط والغضب، لولا أن أركان الحكومة كانوا يتحدثون عن الثاني عشر من يوليو وهو موعد انتهاء المهلة الممنوحة للسودان من واشنطن ليثبت حسن السيرة والسلوك، وكأنه ليلة القدر، وبالتالي اعتبروا استمرار العقوبات حتى 12 أكتوبر أبشع ألوان الغدر ما لا أفهمه هو: لماذا كانت الفرحة العارمة ب»احتمال» رفع العقوبات عن السودان في يوليو هذا؟ لماذا تبارى الوزراء والكتاب لإيهامنا بأنه سيتم فك ساجور البلاد بمجرد رفع العقوبات؟ بالتأكيد هناك فوائد مرجوة من العفو الأمريكي عن السودان، وأنقل هنا ما جاء على لسان الخبير الاقتصادي د. هيثم محمد فتحي عضو هيئة المستشارين بمجلس الوزراء من أن رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن البلاد ستكون له آثار إيجابية، فيما يتعلق بتوفر النقد الأجنبي، وإنعاش قطاعي الصحة والتعليم بالبلاد، إضافة لعودة الروح للسكة الحديد والنقل البري والجوي والبحري. واحدة واحدة وبالهداوة: هل وصلت الخدمات الطبية والتعليمية الى الحضيض بسبب العقوبات الأمريكية، أم العقوبات السودانية على المواطنين؟ هل واشنطن هي التي جففت المستشفيات وسحبت الكراسي من تحت أرداف الطلاب، وفرضت على عيالنا مناهج هزيلة وسلما تعليميا ملخلخا؟ هل هي التي قالت إن الإنجليزية هي لغة الاستعمار والإمبريالية وأوعزت لوزير التربية السوداني بإهمال تلك اللغة في المقررات المدرسية؟ وهل واشنطن هي التي سدت ولوثت مصارف المياه؟ وهل رفع العقوبات سيحول الاسهال المائي الى صحراوي جاف؟ وما علاقة فرض او رفع العقوبات بحال النقل البري والبحري والسكك الحديدية؟ «الجوي» مفهومة، لأن اسطول سودانير للرحلات الخارجية كان يتألف من طائرات بوينغ، ولكن إيران خضعت لعقوبات اقتصادية أمريكية لست وثلاثين سنة، ولم تنسحب الخطوط الجوية الإيرانية من سوق النقل الجوي الدولي، فقد لجأت الى مختلف الحيل للحصول على قطع غيار لأسطولها الجوي، وعمدت إلى ما يسمى في الميكانيكا ب cannibalization وهي أن تشيل طاقية هذا وتضعها على رأس ذاك، أي أن تحول بعض الطائرات الى مصدر لقطع الغيار لغيرها من الطائرات، ورجاء لا تقل لي إن إيران غنية بمواردها النفطية، ولهذا استطاعت ان تباصر أمورها، فقد تم نحر سودانير في وقت كان فيه السودان دولة مصدرة للنفط، بدرجة أن قيل لنا إننا بصدد التحول الى دولة عظمى تناطح كوستاريكا. كوريا الشمالية محاصرة من قبل العالم كله منذ أكثر من ستين سنة، وهي الآن قوة إقليمية كبيرة في شرق آسيا، وواشنطن تقول هذه حمامة فتقول بيونغ يانغ إنها عنزة ولو طارت، والشاهد من تجربتي إيرانوكوريا الشمالية مع العقوبات الأمريكية أن حكومتي البلدين، لم تمارسا الكبكبة مع واشنطن، بل عمدتا الى الصمود والتحدي، فإيران ابتزت أمريكا بتسريع برنامجها النووي، حتى نالت تسوية منصفة قامت على تنازلات من الطرفين، وكانت إيران هي الرابح الأكبر، ويكفي أنه تم وسيتم الإفراج عن مليارات الدولارات التي تخصها كانت مجمدة في البنوك الأمريكية، وكلما هددت أمريكاكوريا الشمالية ب»يا ويلك وسواد ليلك»، أطلقت الأخيرة صاروخا متوسط المدى او بالستيا، وهي عملية ليّ ذراع من المؤكد أنها سترغم أمريكا على التوصل الى تسوية مرضية لكوريا الشمالية، التي يحكمها شخص يعتبر القذافي مقارنة به، نلسون مانديلا. وبالمقابل، وكما جاء على لسان وزير خارجية السودان، فإن الخرطوم قدمت لواشنطن كل ما يمكن تقديمه، ولم يعد لديها جديد تقدمه لها، فإذا كنت تعطيني أو اعطيتني سلفا كل ما أريده منك دون ضمانات من جانبي، فعلام اتعجل لرد الجميل إليك؟ ثم إذا لم يكن عندك ما تقدمه لي بعد «الآن» فهل هذا يحفزني على تقديم ما تطلبه، أم يحملني على الطناش؟ تخيل حسناء عاجباها روحها، والكل يتهافت لخطب ودّها، ومن بينهم واحد يعطيها كل ما تريد وتشتهي، أليس من الطبيعي أن تتدلل وترفع مناخيرها، ثم تطنشك أو حتى تعطيك شاكوش عندما تعرف أنه لم يعد لديك ما تعطيه لها؟ الصحافة