لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    شغل مؤسس    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أنتم؟ نحنُ كادوقلي ! ..
نشر في الراكوبة يوم 30 - 07 - 2017

" الدم هو أسوأ شاهد على الحقيقة ! ": هكذا تكلم زرادشت – كتاب للجميع ولغير أحد. فردريك نيتشة.
" نيييمنج ألمانْ ...دلنجْ سُودان " ...صاح فرحاً سائق بص النيسان سفريات الميراوي؛ الأُبيض - الدلنج - كادوقلي وبالعكس؛ وذلك عندما لاحت لنا في الأفق مدينة الدلنج مثل بستانٍ أخضر، وتُحيط بها جبال قصيرة، أنيقة، ومُعطرة برائحة دعاش أواخر الخريف، موسم الدرتْ، وخاصرات الجبال ترفُل في سحبٍ بيضاء كأنها ترتدي فساتين زفاف. كان ذلك في أو حوالي الربع الرابع من العام 1988 عندما كُلفتُ، وشُرفتُ، بالقيام في مأمورية لمدة ستة أشهر كقاضٍ مقيم بمدينة كادوقلي، وقد فرحت بها، وشرعت في تسليم ما بعهدتي من قضايا جنائية ودعاوى مدنية للقاضي المُقيم بالأُبيض، وبأسرع ما يكون انطلقت نحو كادوقلي، وكأن هنالك مغنطيساً ضخماً يجذبني، ويشدني، وبقوة إلى عاصمة جبال النوبة، وكأني مساقٌ إلى قدري، وقدري مساقٌ إلى سوقاً.
وبعباراته المختصرة، والسريعة، عرفني السائق الذي كنت أركب معه وبجانبه، واسمه حمودي، بمدينة الدلنج، وهي مسقط رأسه، كما أنه من قبيلة نوبة الجبال "النيمنج" وحاضرتهم هذه المدينة أو القرية الكبيرة؛ التربة طينية رملية ..حيثُ فارقنا التربة الرملية الذهبية لعروس الرمال، وما حولها. والمنطقة زراعية، تحفها وديان وخيران.. وبالقرب منها يقع مشروع هبيلا الزراعي ومنطقة سلارا وكلارا.. جبل أبوزمام.. ميدان المصارعة... السينما ... محالج القطن ...الرديف والملكية ..حي المك..المرافيت.. قعر الحجر .. السوق والقشلاق..الخ :
- ويا مولانا لازم تجي تحضر سِبر الِنيِتلْ بعد كم أسبوع. كانت هذه دعوة منه لحضور أضخم مهرجان للحصاد وللمصارعة في السودان، ويقام في مثل هذه الأيام من كل عام بمنطقة النيتل شرق الدلنج. و حتما سأحضر يا سيد حمودي فأنا مولعٌ بمثل هذه الطقوس والكجور والأسبار ورقصات الكمبلا.
- ويا مولانا هل حصل أعدمت زول ؟ هذا السؤال تحديداً لدي إجابة جاهزةٌ له إذ أنه مطابق لسؤال جدي ما أن يشاهدني في إجازاتي السنوية بقريتي الصغيرة بأقصى الشمال حتى يفاجأني بسؤال كل عام: "ها أجنا أعدمت كم زول؟".. وسأجيب إجابتي المعهودة لجدي :
- ولا واحد ..ما هو أصلاً القانون ما بخليك تعدم زول إلا بعد خبرة عشرين سنة.
كيف يمكنني أن أشرح لهما أن هنالك محاكم كبرى تُشكل من ثلاثة قضاة تنظر في القضايا التي تكون عقوبتها الإعدام أو السجن المؤبد، ويسبقها تحقيقاتٍ قضائية غير إيجازية لتوجيه التهم عند ثبوت بينةٍ مبدئيةٍ تبرر ذلك، ويسبقُ هذه التحقيقات القضائية غير الإيجازية إجراءات التحقيق والتحري الجنائي الذي تتولاه الشرطة تحت إشراف ورقابة قاضي الجنايات المختص، ثم أخيراً هنالك المحكمة العليا التي تُراجع وتفحصُ وتدققُ في كل هذه الإجراءات القضائية والقانونية، وعموماً فقد استحسن تماماً إجابتي، ومثل جدي عقب بقوله: أحسن.
وكنا قد تركنا خلفنا المدينة الصغيرة التي أحببت ُ الدلنج، وانطلقنا مخترقين منطقة السافنا الغنية، والخضرة تكسو الجبال المحيطة بالطريق من جميع الاتجاهات، والطريق يضيقُ ثم يتسع ليضيق مرة أخرى، ويصبحٌ أكثر وعورةً كلما توغلنا أكثر، وبصنا النيساني الميراوي الهمام يرتفع ويهبط، ويتلوى ويئنُ، وإلى أن وصلنا لمركز شرطة الكُرقُلْ المدخل الوحيد لمدينة كادوقلي، وبوابة العبور الوحيدة إلى قلب كادوقلي من ناحية الشمال. وما أنْ عبرنا هذه النقطة حتى لاحت لنا المدينة ودخلناها من ناحية القصر الأبيض ثم مقر محافظة جنوب كردفان وذلك من خلال نفقٍ أخضر محاط بالأشجار الضخمة المورقة، وتفوح منه رائحة اللافندر المنعشة للروح، وإلى أن وصلنا السوق الكبير حيث موقف باصات الركاب واللواري السفرية وعندها توقف البص السفري.
أول انطباع لي، ولأول وهلة ٍ؛ وكأننا قد وصلنا إلى مدينة أسبرطة الحربيةSparta) ) بسبب المظاهر العسكرية المسلحة، والجنود بكامل زيهم العسكري وسلاحهم يتجولون في سوق المدينة، و العم" توتو كورو" في كامل أناقته الجسدية وهو عارٍ تماماً كما ولدته أمه، ولا يثير انتباه أحدٌ، ونزلت ثم استلمت حقيبتي الصغيرة وكرتونة كتبي ومسجل وشرايط كاسيت (عثمان حسين، وردي)، وودعت الأخ حمودي بوعدٍ مني أن أعود معه في رحلة العودة إلى مدينة الأُبيض بعد انتهاء مأموريتي، وذلك لأنني لا أحبذ السفر بسيارات القضائية الرسمية، والمملة، وأستغل مثل هذه الفرص للتحرر من قيود وتقاليد المهنة التي كثيراً ما تكاد تخنقني؛ ثم غادرت راجلاً نحو مباني محكمة المديرية ومحكمة القاضي المقيم والقريبة من السوق الكبير، وقد انتابني إحساسٌ طاغٍ بأنني مراقبٌ، ولم يخب هذا الإحساس.
انصرفت إلى عملي الذي كلفت به، وبدأت بترقيات وعلاوات وبدلات الموظفين التي كانت مجمدة لمدة طويلة، ودبت الحياة في المحكمة، وأصبحت قلعة لكل مضيوم. وبمرور الزمن أصبحت المدينة أليفة لدي، كما أصبحت مألوفاً لأهلها، وأطمان الجميع إلى أنني لست طرفا في نزاعاتهم وصراعاتهم؛ وما كان يزعجني حقاً، ويزعج الجميع، هو الحرب الأهلية الحامية الوطيس التي كانت تدور في جنوب السودان وقتئذٍ، وسقوط العشرات من الحاميات العسكرية، وبدأ الجنود ينزحون بالألاف نحو كادوقلي وأقرب منطقة لجنوب السودان، وقد بدأت عليهم مظاهر الجوع والمرض وهم يلبسون أثمالاً باليةً. وكيف يمكن لحكومة أن تُزج بجيشها الوطني في أتون معارك عسكرية طاحنة وبدون تموين وعدة وسلاح وعتاد حربي.. وفي ذات الوقت ترفض السلام ؟ فإما أن تجنح للحرب وتستعد لها وإما أن تجنح للسلم وتحقن دماء الملايين من ضحايا الحرب الأهلية عبر التسويات السياسية؛ أمران لا ثالث بينهما، ولكن حكومتنا السنية المركزية في الخرطوم كان لها رأيا ثالثاً، وغريباً: إذ قامت بتسليح القبائل العربية الموجودة في المنطقة، عرب الحوازمة والمسيرية الزُرق والحُمر والرزيقات في مواجهة الدينكا باعتبارهم عماد التمرد والحركة الشعبية، ووصفت تلك الحكومة مشروع الدمار الشامل هذا بالحزام العربي من أم دافوق بدارفور وحتى الكرمك بالنيل ألأزرق– قوات المراحيل؛ ويا لها من عنصرية ومؤسسيَة وبغيضة! وقد أثار تسليح القبائل العربية هذا ذعر أبناء نوبة الجبال، وحدثت عدة مذابح قام بها مسلحون من قبيلة الحوازمة، وأكثرها ترويعاً تلك التي حدثت في قريتي "فاما" و "كاتشا".
أما ثالثة الأثافي فقد تمثلت في وجود قوات الأنانيا 2- تو ( القوات الصديقة للقوات المسلحة السودانية والمكونة من أبناء قبيلة النوير) داخل مدينة كادوقلي بقيادة الفريق/ كونق كونق بول، وهي اصلاً قوات متفلته، ولا يحكمها قانون أو أعراف أو تقاليد عسكرية، وقد حدث أن طلب مني قائدها تطبيق قانون القوات المسلحة / المنشور القضائي رقم (19) على أفرادها المتفلتين ومثيري المشاكل؛ وكان ردي عليه، وبحسم :
- أنت قوات بتاعك دا ما في قانون بيحكمه وأنا ما بطبق قانون الديش السوداني عليهو ..أنت شيال قوات بتاعك دا وأطلع بره كادوقلي. وقد كان.
ومن ملاحظاتي، ومن خلال تجربتي استنتجتُ أيامها أن كل هذه الصراعات و النزاعات والحروب المدمرة تدور حول موضوع واحد: "الهوية المفقودة" أو "الهوية المتوهمة" أو "الهوية المستوردة "، وهنالك مشكلة ما حول موضوع " الهوية "، والجميع يحملون مصابيح "ديوجين" ويبحثون عنها في رابعة النهار؛ ويا أيها السوداني الحزين .. لا حاجة بك لأن تقطع الصحارى والفيافي والقفار والبحور، و الغابات والأحراش، بحثاً عن هويتك المفقودة، والمتوهمة في العقل الجمعي وفقط ما عليك سوى أن تحفر باطن الأرض التي ولدت على ظهرها، وتمشي عليها، وتعيش فيها، وتأكل من غلتها، وستدفن في باطنها، وحتما ستجد هويتك وجذورك المفقودة مدفونة هنالك في الأعماق، طبقة وراء طبقة، وممتدة لنحو سبع الف سنةٍ، وهي عمر الدنيا.
كلما أشرقت الشمس على مدينة كادوقلي، أيامها، ازداد يقين السكان وكل مسؤولٍ فيها بأن هنالك كارثة ما آتية لا ريب فيها؛ زلزال، أو بركان، أو الاجتياح العسكري للمدينة.. الجو العام للمدينة يسوده القلق، والخوف، والترقب لما هو آتٍ. وفي صباح يوم من تلك الأيام العصيبة حضر ضابطان من الاستخبارات العسكرية للمحكمة وأبلغاني بأن الاستخبارات العسكرية بكادوقلي قد اكتشفت تنظيماً سرياً من أبناء نوبة كادوقلي، ويهدف للقيام بتفجيرات وباغتيالات للعناصر الشمالية التي تعمل بالمدينة، وتحديداً، محافظ المديرية، وقاضي المديرية، وشخصي الضعيف! وأن هذا التنظيم السري مكون من فلان وفلان واسمه.. " نحنُ كادوقلي "..وكان ردي، وبهدوء :
- عموماً أنا كلام شفاهي ساكت ما باخد به..انتو لوعاوزين إجراءات قانونية رسمية اكتبوا كل ما ذكرتم من اتهامات في خطاب رسمي موجه للقاضي المقيم وأنا بفتح بلاغ جنائي ..الإشراف على التحقيقات والتحريات ستتم بواسطة الشرطة.. وتحت إشرافي ورقابتي.. أوامر القبض و التفتيش وإخلاء السبيل سُيوقع عليها القاضي المقيم.. كل الإجراءات يجب أن تتم وفقا للقانون..
- وأما فيما يخص خطة اغتيالي .. شخصياً أنا حقي عافي منه. ولم تنطل علي الخدعة والكذبة البلقاء. وحدث تماماُ ما وجهت به وتم فتح البلاغ الجنائي الأشهر في تاريخ مدينة كادوقلي " بلاغ نحنُ كادوقلي". ومضت ثلاثون يوماً وعدد أوامر القبض و المتهمين في ازدياد ولم تقدم أية بينةٍ تفيد بطريق مباشر أو غير مباشر بأن أياً من المتهمين قد شرع في شن الحرب ضد الدولة أو ..أو .. أو حتى التحريض على ذلك ، ولا حتى أن ما نسب إليهم يرقى لدرجة الأعمال التحضيرية لارتكاب جريمةٍ ما؛ لا سلاح ولا منشورات ولا معروضات، وكل ما حدث أن بعضاً منهم كان يفكر بصوتٍ عالٍ تحت أحد أعمدة إضاءة مدينة كادوقلي؛ ومتى كان التفكير جريمة ؟؟
وفي يومٍ ما، حدث ما كنت أخشاه تماماً، الكارثة، إذ نما لعلمي أن متهمي بلاغ "نحن كادوقلي" قد تم نقلهم لحامية كادوقلي العسكرية، وهرعت نحو الحامية، مفزوعاً، وبدون تفكير، وجدت نفسي داخل حامية مدينة كادوقلي العسكرية: ها هو شبح الموت بدأ يُحلق ويحوم حول "الدروة" وما أدراك ما الدَروة .. هل تعرفون ما الدَروة ؟ حسنا إنها حائط مستطيلٌ من الاسمنت المسلح/ الخرساني ارتفاعه حوالي أربعة أمتارٍ وعرضه حوالي عشرة أمتارٍ. وهل تعرفون ما هي مهام هذا الحائط الاسمنتي المسلح: الإعدام.
هنا حيث تزهقُ الأرواح البريئة ..هنا حيثُ ُينتزع الحق في الحياة خارج نطاق القضاء والقانون! وحشٌ خرافي متشحٌ بالسواد القذر، ويكشر عن أنيابه، وغطى بصدره مباني حامية كادوقلي العسكرية، مثل سحابةٍ سوداء، ويُقطر منها دم أحمرٌ قاني. وها هي الأرواح البريئة، والهائمة، وقد بلغت الحلقوم، بعد أن أيقنت أن لا مفر من هذا الوحش الخرافي، ولا نجاة. فأين المفر؟ واستسلمت تماما لقدرها في أن ترحل، الأرواحُ، وكانت غاية الأماني الأخيرة، ولكل روحٍ؛ رحمتك يا أبا ساطور ..هب لنا بضع لحظات انتظار يا أبا ساطور .. قف تمهل يا أبا ساطور؛ في أن ترحل بدون تعذيب، وبدون ألم... وبدون صراخ أو عويل، أوليس في مثل هذا الموقف تُختبرُ عزائم الرجال؟ بلى. وسُتغني لهم غداً الحكامات، ويستدعى أرواحهم الكجور. أسرعت وخاطبت الضابط ، قائد حامية كادوقلي، أبو ساطور، هؤلاء المتهمين مسؤوليتي ..أنا الوحيد المسؤول عنهم أمام الله وأمام ضميري وأمام القانون .. هنالك بلاغ جنائي مفتوح ضدهم، وأنا الذي أشرف عليه، وليست لديك سلطة عليهم، ورد بصلف وغرور:
- يا مولانا بلاغات شنو ؟ العبيد ديل متمردين ..متمردين.. وحنفسحهم (نقتلهم) !
وكان ردي سريعا وغاضباً :
- عبيد ! أنا ايضاً عبدٌ....تعال فسحني معاهم !
- يامولانا دا كلام شنو !
- وأشار لىشعر رأسه بأصابع يده اليُمنى، بخبثٍ وخسةٍ ودناءةٍ، وبما يفيد بأن شعر رأسي ليس مفلفلاً (قُرقٌدْ) ومعناه بأنني لست بعبدٍ – إذن هذا هو المعيار هنا ؛ فعلقتُ بدون تردد، وبصوتٍ عالٍ :
- نعم عبدٌ حبشي وله زبيبة في رأسه كمان..عجبك ولا ما عجبك! هل فهمها؟ لا أظن !
ساد المكان صمتٌ رهيب، العيون تُحملق نحوي، وفي ذهول، وفي رجاء، وأمل. وحالات تبول لاإراديٍ، وانهيارات عصبية، ورائحةُ عفونةٍ تملأُ المكانْ. وترًاخت يدا الضابط، وتعرًقت يداه، ما الذي حدث لأبي ساطور؟ فقد تجمد في مكانه! عيونٌ كأنها جمرٌ أحمر، وأكثر من أربعمائة جمرةٍ حمراء، وفي اتساع الفنجان. تحدقُ فيَ.. وفي الأمل والرجاء، وفي آخر ثانية . وهنا توقف الزمان. كفت الأرض عن الدوران حول نفسها، وحول الشمس، وها هي وقد أصبحت ثابتهٌ تماماً تحت قدمي، وزمجر الوحش الخرافي، ويريد أن ينهي مهمته، فليس لديه وقتٌ للانتظار، ولا لهذا الجدل العقيم. وحدث ما لم يكن في حسبان أحد، ولا في حسباني، أو حساباتي، ولست أدري كيف حدث ذلك، وأنا أعزل وسلاحي قلم حبر بيق أزرق، والمهم حدث ما حدث :
- في لمحة البصر أسرعت نحو صنبور المياه/الحنفية النحاسية التي تبعد مني حوالي ثلاث خطوات، حنفيةٌ ضخمة، ومتسخة، وبها أثار دماء، وتحتها حوض للمياه مربع الشكل بحوالي متر في متر وبارتفاع نصف مترٍ؛ وقمتُ بفتحها بقوة، وتدفقت المياه مع صوت شخيرٍ؛ ثم غسلت يدي جيداً، وقفزت فوق الحوض بحيث أصبح المشهد أمامي مكشوفاً تماما ..الدروة وامامها الصف الطويل ..هنا أكون أو لا أكون .. فرقة الإعدامات متأهبة ٌ ..الجلادون بالبنادق الآلية سريعة الطلقات ، والأصابع جاهزة للضغط على الزناد ..وفي بداية صف الموت ، وفي مواجهة الدروة تماماً، وقف المتهمون: تلفون كوكو، كافي تيه، كوكو طيارة، أبو جلحة، صندوق الماشا جلامي، كودي، تيه، دانيال، كوكو، و...و... الخ.. وفي نهاية صف الموت كان يقف ولا يقف المتهم هارون إدريس كافي - نائب دائرة كادوقلي الغربية والرُحلْ بالبرلمان- الديمقراطية الثالثة.. بعد أن غسلت يدي جيداً؛ صحت بأعلى ما لدي من صوت وكأني في يوم القيامة و أمام الله، وخُيل لي بأن بي صممٌ، وأريدُ أنْ اسمع صوتي مباشرة للمولى عزً وجلً:
- لقد غسلتُ يديً تماماً من دماء هؤلاء الأبرياء .. أنا بريءٌ من دمكم أيها الناس! ..سأذهب إلى مكتب وقاية النباتات التابع لوزارة الزراعة وأرسل من جهاز اللاسلكي التابع للوقاية برقية عاجلة لرئيس القضاء ولقائد الجيش السوداني.. بأن المتهمين في البلاغ الجنائي الموصوف ببلاغ " منظمة نحن كادوقلي " رقم .. تحت المواد ...لسنة 1988..وقيد التحقيق والتحري.. قف.. وجدت الآن الضابط فلان والملقب بأبي ساطور، في حامية الجيش بكادوقلي وقد قيدهم بالسلاسل وأخذهم للدروة لتصفيتهم / ليفسحهم/ لقتلهم...قف.. يداي بريئتان.. ذمتي بريئة من دماء هؤلاء الناس ..مائتان و أكثر من الأرواح.. الأنفسُ البريئة .. بريءٌ أنا من دماء هؤلاء الأبرياء.. قف .. نُحمًل الضابط فلان، والملقب بأبي ساطور، بحامية كادوقلي المسؤولية كاملة عن أرواحهم.. قف.. تحركوا عأجلاً لإنقاذ أرواح هؤلاء الأبرياء....قف.. القاضي المقيم بكادوقلي.
وأسرعت نحو لاندروفر المحكمة وكان خلفي تماماً، وانطلقت به خارجاً من الحامية نحو مباني وقاية النباتات، والمسافة ما بين حامية كادوقلي ومبانى الوقاية لا تتعدى العشرُ دقائق كنت قد قطعتها في عشر ثوانٍ، أو هكذا خُيل لي. وما أن أوقفت اللاندروفر وانطلقت نحو بوابة مبنى الوقاية حتى لحقت بي ثلاث سيارات لاندروفر تابعة للجيش ق.ش.م.، لحامية كادوقلي، وخرج من الأولى أبو ساطور، وصاح بصوت مبحوح :
- سعادتك نحن الناس دي خلاص خليناهم...وما في داعي لإرسال برقية !!
- أحضروهم الآن الى المحكمة..سلموهم لي داخل قاعة محكمة القاضي المقيم بكادوقلي. كان هذا ردي. وقد كان؛ حيث قمت بفتح أبواب المحكمة حوالى الساعة الخامسة مساءً، وتقاطر الموظفون والشرطة، و عشرات المئات من أهل كادوقلي نحو المحكمة، وأُحضر المتهمين من حامية الجيش إلى قاعة المحكمة، وتأكدت تماما من إحضارهم جميعا...ثم بدأت في تلاوة قرارتي القضائية امام كل متهم منفرداً بأن لا بينات أو أدلة مبدئية قد قدمت في مواجهته في ما يخص الاتهامات الموجه له، وذلك بعد أن انقضت ستون يوماً من التحريات والتحقيقات، وبإشرافي ورقابتي؛ وقد قررت انا قاضي الدرجة الأولى والقاضي المقيم بكادقلي، والمشرف على التحريات والتحقيقات الجنائية، وبناءً عليه شطب الاتهامات في مواجهته وإطلاق سراحه فوراً ونهائياً، وهكذا الواحد تلو الاخر.. وكان آخرهم السيد / هارون إدريس كافي. ونطقت بآخر عبارتي والجميع في حالة صدمة وذهول: من أراد أن يستأنف هذه القرارات فدونه محكمة المديرية في المبنى المجاور لي. ولم يستأنف أحدٌ – والمقصود الشاكيين في البلاغ.
وصلتُ إلى منزل القاضي المقيم بحي الموظفين الغربي حوالي العاشرة مساء، وما أن جلست في أقرب كرسي مسترخياً حتى سمعتُ أصوات رقصات الكمبلا... كشكٌ...كشكٌ...كشكٌ.. أمام باب المنزل تماماً.. ليست رقصة واحدة، ولا بضعة راقصين؛ كشكٌ...كشكٌ ...كشكٌ؛ بل المئات من راقصي الكمبلا حول منزلي.. وشاهدتُ منظراً لم يشاهده إنسٌ ولا جنٌ من قبلي، ولن يشاهده إنسٌ أو جنٌ من بعدي، ومن حيث لا حيث، ومن بعد لا بعد؛ تم إشعال الملايين من أعواد قصب الذرة اليابسة في جميع أحياء كادوقلي: حجر النار، حجر المك، حجر بليلة، قعر الحجر، كليمو، كُلبا، الجكو، الفقرا، مرتا، الرديف، الملكية، السرف، تلو، وحي السوق الخ...وبدت المدينة التي تحيط بها سلسة من الجبال، وأبرزها جبل اسمه كادوقلي، ومنزلي في مركز هذه الدائرة ، كما لو كانت كُرةً بلوريةً متوهجةً تحفها الأغاني والأهازيج ورقصات الكمبلا كشكٌ...كشكٌ ...كشكٌ ورقصات وأغاني إبره ودر.. رقصت جميع قبائل نوبة الجبال، ولكل قبيلة بكجورها، ومع صيحات الكجور، وكما لم ترقصُ من قبل: نوبة هيبان، فاما، كاتشا، كاشا، شفر، تيرا، كاركو، كنجورية، كرتالا، فندا، ليري، و ميري، ألخ...المدينة كلها إنغمست في حفل صاخب، وراقص، ومضاءٌ بآلاف الثريات، والأنجم، والمنبعثة من وهج أعواد القصب المشتعلة في الجباريك.. فإذا بها تدور.. وتدور؛ كشكٌ...كشكٌ ...كشكٌ، وفي غمرة نشوتها وفرحها تنطلق وبجبالها الراسيات، وتنفك من إسارها المغروس ومن سلاسل قيودها في باطن الأرض وتدور ..وتدور وتنطلق نحو السماء، نحو الفضاء اللانهائي، الكون، وكأنها كوكبٌ دريٌ ، وكجورها يصيحُ مبتسما ً:
نحنُ كادوقلي؛ فمن أنتم ؟
++++++
مجدي إبراهيم محجوب – قاضٍ سابق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.