الحلقة الاولى.. الحرب مجزرة تدور بين اناس لا يعرفون بعضهم البعض، لحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض، ولا يقتلون بعضهم البعض. بول فاليرى.. شاعر وفيلسوف فرنسى. *** توريت يا وكر الدسائس والخديعة والدم قد طال صمتك في الدجى هل آن أن تتكلمي الغاب مطرقة الغصون على دجاك المعتم والصمت والليل الرهيب وخادعات الأنجم لا شئ غير الريح تنفخ في رماد المأتم ومغارة فيها المنايا السود فاغرة الفم ونعيق ضفدعة تنوح بليلك المتجهم يا قطة أكلت بنيها وهي ظمأى للدم أمعنت قتلا في النساء وغيلة للمحرم لم ترحمي حتى صغارهم، ولم تترحمي والشيخ والحبلى، فأي جريمة لم تجرمي حتى غدوت مع الدجى وكر الطيور الحوم ومناظر الأشلاء تنهضها الغيوم فترتمي الهادى آدم. نبوءة الهائم الغامض.. اوشينا. تقدم اشرف وامسك بالبندقية مركزا بصره على اللوحة التى تقف على بعد مائتى ياردة امامه، ومنتصبا فى وقفة عسكرية استعدادا لاطلاق النار تجاهها.. اصلح من وقفته بان انحنى الى الامام قليلا وضغط بسبابته على الزناد ثم شرع فى اطلاق النار.. اصابت كل تصويباته هدفها، سوى طلقة واحدة تغير مسارها جراء اهتزاز السلاح عند بدء انطلاق الاعيرة النارية. انهدهش غير مصدق انه افلح فى اصابة تسعة من العشرة اهداف التى يتوجب عليه اصابتها.. لم يتوقع انه حاذق الى هذه الدرجة، واستغرب نجاحه فى هذا الامتحان الذى ظن انه غير ناج من الفشل فى اجتيازه.. صفق الحاضرون مهنئون براعته، وهمس له صلاح ضاحكا: الم اقل لك من قبل انك ستصبح واحدا من اميز افراد قواتنا المسلحة؟. شكر صلاح بابتسامة عريضة وهو يعود الى مكانه مفسحا المجال لرامٍ آخر.. توالى الرماة واحدا تلو الآخر، فكنت لا تسمع الا لعلعة السلاح تخرج الطلقات من فوهته مصيبة هدفها حينا، وحينا تذهب ادراج الرياح، وما اكثرها. انتهى برنامج الرماية بانتهاء آخر مجند لطلقات سلاحه، وقفل المجندون راجعين الى المعسكر وهم يرددون فى (الجلالات ) والاناشيد فرحا بقرب موعد التخرج. انتصف، او كاد نهار اليوم الثانى من سبتمبر من العام 2002 عند عودة المجندين من مهمة الرماية، وقد لوحظ بان هناك حركة وجلبة غير عادية بالمعسكر، فوجود قادة عسكريين من كبار الرتب بما فيهم وزير الدفاع، مشهد لم تالفه اعين المجندين من قبل، ودخول اسطول من السيارت العسكرية وخروجها محملة بالمستجدين يضع جملة من علامات الاستفهام، سأل اشرف رفيقه صلاح مندهشا: ألم تلاحظ شيئاً؟ - رد صلاح: قصدك السيارات التى خرجت من المعسكر محملة بالجنود؟ - نعم.. ووجود مريب لضباط من الرتب العالية.. - ربما هناك امر جلل.. - لاحظت قبل ولوجنا المعسكر ان السيارات قد ذهبت فى الطريق المتجه الى مطار وادى سيدنا.. - لنستفسر عن حقيقة ما يجرى.. واصلا سيرهما وصادفا فى طريقهما احد المجندين وسالاه عن سبب النشاط الزائد فى المعسكر، اجابهما هامسا وهو يتلفت يمنة ويسرة كمن يريد ان يبوح بسر خطير: الا تعلما؟ واستطرد فى خبث وعياناه تومضان ببريق غريب: لقد سقطت توريت فى ايدى المتمردين. - متى حصل هذا؟ سأل اشرف بنبرة حاول ان يخفى فيها توتره.. - امس ام اليوم لا ادرى.. قالها بابتسامة ماكرة وهو يتفرس فى وجيهيما كانه يستقرأ ما ظهر على قسماتها من ردة فعل. شكرا له مدهما بالعلومة المبتورة ثم انصرفا نحو خيمتهما وقد عقدت الدهشة لسانيهما، فالمتمردون والحكومة وقعا قبل نحو اربعون يوما على اتفاق اطارى يبشر بوطن جديد خالى من الحروب، واتفقا على وقف اطلاق النار تمهيدا للوصول الى سلام دائم، فما الذى حدا بالحركة الشعبية الى خرق ما توصل اليه الطرفان؟ قال اشرف بحزن: اذن اتفاق ( مشاكوس ) كان مجرد ضحك على الذقون.. رد صلاح: لم يكن كذلك.. - كيف لا، ومتمردى الحركة يستأنفون اطلاق النار، ويسقطون مدينة ؟ - فعلوا ما فعلوه للانطلاق من ارضية صلبة حتى يحققوا اجندتهم.. - إذاً سيتجدد القتال وستعود الحرب الى المربع الاول.. - بالتاكيد، فالحكومة لن تسكت، وستحشد كل قوتها لاسترداد المدينة، ولعل ( المستجدين ) الذين رأيناهم يغادرون المعسكر قبل قليل هم الآن فى طريقم الى مطار وادى سيدنا لترحيلهم الى الجنوب.. - كيف يتم ذلك وفيهم من لم يتدرب على اطلاق النار؟. - سيكون ذلك بالقرب من ارض المعركة.. لقد تم من قبل كثيرا!! - هذه ارتجالية.. الآلاف ستُحصد ارواحهم بعدم الدربة والدراية، ناهيك عن الخبرة التى تنقصهم والتى لابد منها فى مثل تلك الاحراش.. - على العموم هذه مجرد تخمينات، واضاف صلاح بلهجة غلب عليها طابع المرح؛ فالنبِلّ رؤوسنا، قالها ضاحكا، ثم اردف وهو ينظر الى رفيقه: ان صحت توقعاتنا، حتما سياتى الدور علينا. وصلا الى خيمتهما، وقبل ان يغيرا ملابس التدريب سمعا زعيق صافرة النداء، فقفلا راجعين الى باحة المعسكر حيث اصطفت الجموع وهى فى حالة وجوم تام انتظارا لما ستسفر عنه الدقائق القادمة.. انبرى ضابط برتبة عقيد وبدا حديثه عن تاريخ المؤسسة العسكرية والانتصارات التى حققتها منذ نشأتها، ومعددا مآثرها فى الذود عن وحدة البلاد، ومثمنا ما يقوم به افرادها من تضحيات حفاظا على تراب الوطن واهله. واصل العقيد حديثه قائلا فى حزن: بالامس قام المتمردون بالهجوم على مدينة توريت، فانسحبت منها قواتنا تكتيكيا حفاظا على الارواح والممتلكات، وقد تقرر وقف المفاوضات مع المتمردين والاستعداد لاسترداد المدينة، قال ذلك ثم صمت برهة قبل ان يمضى فى حديثه وقد تغيرت نبرة الحزن التى كانت تعلو صوته، فقال بحماس: ان القوات المسلحة وايمانا منها بدورها على الحفاظ على امن الوطن لن تالو جهدا، ولا تدخر وسعا فى ان تحشد كل طاقتها لردع كل من تسول له نفسه المساس بتراب ووحدة الوطن، ونحن هنا فى هذه الساعة لشحذ همم الشباب للدفاع عن الدين والارض والعرض، وليس لمثل هذه المقاصد النبيلة سواكم. تأخر العقيد وتقدم ضابط آخر برتبة ملازم اول.. حيا الجموع تحية عسكرية وخطب فيهم خطبة حماسية حركت فى الصفوف روح القتال، ارتفعت الحناجر بالتكبير والتهليل.. استغل الملازم حماس المجندين فقال: وحدكم انتم من يستطيع ردع الخونة والمأجورين والعملاء ولا غرو، فانتم درع بلادنا الذى تتكسر عليه نصال اعدائنا الذين يتربصون بنا، فالعالم كله يشهد ببسالة جنودنا الذين يقدمون ارواحهم رخيصة فداء لتراب الوطن الحبيب .. غدا سترجع توريت الى حضن الوطن، وسوف يتم ذلك بسواعدكم الفتية وعندها فقط سيعلم الذين ظلموا اى منقلب ينقلبون. التفت الملازم وراءه وتحدث الى عسكرى كان يقف خلفه، فمد له الاخير باوراق يبدو انها تحتوى على بعض الاسماء التى تم اختيارها للذهاب الى الجنوب. تلى الملازم الاسماء، وكان من بينها اسم اشرف ورفيقه صلاحا الذّيْن اسقط فى ايديهما واسماهما يقعان على آذانهما.. تسمر اشرف فى مكانه غير مصدق اذنيه، ورجع بذاكرته الى ما قبل سبعة عشرة سنة خلت.. فقد تذكر فجأة تلك الحادثة التى طوتها ذاكرته مع ذهاب الايام والسنين. الامين ابراهيم احمد ارباب [email protected]