٭ قبل حوالي عامين كلفت ضمن مجموعة من الاقتصاديين والمهندسين الجيولوجيين بإعداد دراسة عن تطوير قطاع المعادن والتعدين بالسودان من قبل الأمانة العامة لهيئة المستشارين بوزارة مجلس الوزراء، ركزت على الجوانب الفنية والاقتصادية لموارد البلاد في هذا القطاع غير المتجدد. ٭ تلك الدراسة الشاملة لقطاع التعدين والمعادن والتي أجريت في فترة أول وزير للمعادن وطبعت مجلداتها ووزعت للمجلس الاستشاري للوزارة في عهد ثاني وزير لها، غطت جوانب عديدة فنية واقتصادية بالعمق العلمي الذي وضع في الاعتبار أهمية هذا القطاع من الناحية الاقتصادية، وهو أمر وشأن لم يهمله الرواد الأوائل من حكام السودان منذ أول حكومة وطنية ديمقراطية، حيث جرى تعيين المرحوم المحلاوي نائب عطبرة الشهير كأول وزير لها، وظلت وزارة الثروة المعدنية موجودة خلال عهد حكومة نوفمبر، حيث تولاها المرحوم اللواء مهندس أحمد رضا فريد والمرحوم الأستاذ زيادة عثمان أرباب. وخلال حكومة الديمقراطية الثانية دمجت داخل وزارة واحدة جديدة تولاها لأول مرة الأستاذ عز الدين السيد، وظلت هكذا لأكثر من عشر سنوات، حيث دمجت مرة ثانية مع الطاقة والتعدين وتولاها لأول مرة المرحوم الرائد مأمون عوض أبو زيد، واستمرت هكذا لحوالى أربعة وثلاثين عاماً، حيث أعيدت مرة أخرى بوصفها وزارة منفصلة باسم وزارة المعادن وتولاها كأول وزير لها الدكتور عبد الباقي الجيلاني ثم وزيرها الحالي الأستاذ كمال عبد اللطيف. وقصدت من هذا التوضيح في تسلسل الوزارة المسؤولة عن قطاع المعادن والتعدين أن أثبت اهتمام كل الحكومات والأنظمة الديمقراطية والشمولية التي حكمت البلاد منذ عام 1954 وبعد الاستقلال، بهذا القطاع، وان تكون له وزارة منفردة خاصة بشؤونه وتطويره. ٭ خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة وبعد انفصال الجنوب في يوليو 2011 وضياع حوالى أربعة أخماس الايرادات بالعملة الأجنبية والمحلية، اتجهت الدولة نحو تعدين الذهب للتعويض عن فقدان ايرادات البترول، وحدثت نفرة شعبية أهلية للتعدين عن الذهب بالطرق التقليدية في مناطق عديدة، وبقدر ما جلبت من فوائد وإيجابيات أدت لسلبيات عديدة ومتنوعة، من بينها أن هجر مئات الآلاف من القوى العاملة التقليدية مهنهم في الزراعة والري وقطاع المباني والتشييد، كما أثرت على البيئة والآثار ....الخ. ٭ كل ما يهم الدولة تركز في تحقيق أكبر قدر من العائدات بالعملات الأجنبية، ومن أجل ذلك أنشئت وحدة خاصة لشراء وتصدير الذهب بالبنك المركزي، وحددت مجموعة محدودة قليلة من الوكلاء المحظوظين بشروط محددة لشراء الذهب منهم، وظل كل هذا يحدث في ظل ارتفاع يومي لأسعار الذهب حتى قارب سعر الوقية الواحدة منه خلال فترة عامين من أقل من ألف دولار أمريكي إلى الفي دولار امريكي في حدود (1998) ألف وتسعمائة ثمانية وتسعون دولار امريكي، ويعتبر هذا السعر قمة الأسعار في تاريخ هذه السلعة. ٭ ومع الازدياد المطرد في أسعار الذهب اشتعلت تصريحات التفاؤل بأن عائداته للبلاد سوف تصل إلى ثلاثة أو أربعة مليارات دولار، وصحب ذلك تدفق مئات الآلاف لمناطق التعدين التي استوعبت أيضاً الآلاف في الخدمات المساعدة لعمليات التعدين، وحدث العديد من الاحداث المحزنة مثل انهيار الآبار وخلافه، وصولاً للمشكلة الكارثية في التعدين في مناطق جبل عامر والتي أدت لوفاة المئات من أبناء القبائل وسكان المنطقة، وبالرغم من كل ذلك لم يتحقق الهدف المعلن بجلب ثلاثة أو أربعة مليارات دولار امريكي من صادرات الذهب، رغم التضحيات الكبيرة بالمال العام بدخول البنك المركزي مشترياً ومصدراً، رغم الإعلان الاستراتيجي للدولة بخروجها من قطاع التجارة والأعمال بشكل مباشر نهائياً. ٭ اليوم وفي ظل الانهيار الكبير لأسعار الذهب بحوالى (750) سبعمائة وخمسون حوالى (42%) اثنين وأربعون في المائة من أسعاره في نهاية العام الماضي ومطلع العام الحالي، فدون شك أن هذا الانخفاض الكبير في الأسعار يجب أن ينعكس فوراً على أسعار الشراء المحلية للصادر بالنسبة لبنك السودان من وكلائه المحظوظين المحدودين بشروط، ويجب أن يقلل من الخسارات الناتجة عن شرائه للذهب من السوق المحلي بأسعار الحافز خلال الفترة الماضية والتي كتب عنها بالصحف عدة مرات وقدرتها تلك الكتابات بحوالى واحد مليار جنيه في الشهر مقارنة بالاسعار العالمية وقتها بهدف جلب عملات أجنبية للبلاد. ٭ انهيار الأسعار العالمية للذهب بحوالى (42%) اثنين وأربعون في المائة خلال فترة الشهور الستة الأخيرة صار يستوجب من الدولة وقفة عاجلة فورية لمراجعة السياسات الحالية في تشجيع استخراجه وشرائه وبيعه للصادر، سواء أكان عن طريق التعدين الأهلي أو بواسطة الشركات المحلية والأجنبية لأسباب عديدة نوجزها في الآتي: أولاً: إن الذهب كغيره من المعادن ثروة ناضبة وغير متجددة، ويجب التأكد من حسن ادارة استغلالها والحفاظ عليها وعلى العائد منها للأجيال القادمة بدون أنانية ونرجسية. وبالتالي يجب تحديد الكميات المنتجة منه سنوياً تخفيضاً في ظل انهيار أسعاره العالمية الحالية، لأنه لا يعقل اقتصادياً ومنطقياً أن نزيد من إنتاج سلعة سعرها العالمي في حالة انهيار يومي في البورصات العالمية مسجلاً خسارات عالية للمتعاملين في تجارته. بالتالي هذه نقطة مهمة جداً يجب التوقف عندها والاهتمام بها، لأن ذهب السودان بوصفه مخزوناً قومياً للأجيال الحالية والقادمة ليس معروضاً في الدلالة بأسلوب (دار أبوك كان خربت شيلك منها شلية).. وبالرغم من أن انتاج السودان من الذهب لا يشكل نسبة كبيرة من الانتاج أو المخزون العالمي، لكن دون شك فإن التحكم في إنتاجه في ظل انهيار الاسعار العالمية الحالية سوف يقلل من حجم العرض العالمي بنسبة قليلة جداً، لكنها في الأمد المتوسط سوف تؤثر على ارتفاع أسعاره وفي هذا خير للبلاد والعباد. ثانياً: إن حجة أن الذهب سوف يكون البديل لعائدات البترول التي فقدتها البلاد بعد انفصال الجنوب والزخم الكبير الذي لازم ذلك خلال عامين، أثبتت بالبيان بالعمل عدم جدواه بالقدر الذي صور به.. فمثلاً سعر الدولار في يوليو 2011م كان في السوق الحر في حدود (4.000) أربعة آلاف جنيه بالقديم، وبالرغم من الزخم حول صادرات البلاد من الذهب خلال العامين الأخيرين وسياسات دعم شرائه بواسطة البنك المركزي فإن صادرات البلاد الحقيقية والفعلية بكل تقديراتها التي نشرتها الصحف لم تتمكن من ايقاف انهيار قيمة الجنيه خاصة بعد القرارات الكارثية المدمرة لقيمته والتي خفضتها في مايو 2012م بنسبة (91%) واحد وتسعون في المائة لسعره الرسمي و (63%) ثلاثة وستون في المائة لسعره في السوق الحر، حيث نجده اليوم وصل لحاجز (7.500) سبعة آلاف وخمسمائة جنيه مقابل الدولار الامريكي رغم كل الزخم حول صادرات البلاد من الذهب؟!! إذن مادام رغم كل التضحيات من جانب السلطات النقدية وسلطات المعادن فإن انتاج البلاد وصادراتها من الذهب لم تفلح في إيقاف انهيار قيمة الجنيه، فإن الواجب القومي العاجل جداً يحتم على السلطات المختصة مراجعة سياسات إنتاج وشراء وتصدير الذهب في ظل أسعاره المنهارة حالياً. ٭ لأن الأجدى لبلادنا وأجيالها القادمة الحفاظ عليه بوصفه ثروة ناضبة غير متجددة، يجب عدم المجازفة ببيعها في ظل ظروف أسعاره العالمية المنهارة الحالية مهما كانت أسباب ذلك، سواء أكانت حاجة قومية أو للمظاهر النرجسية الشوفانية، لأن كليهما لا يرقيان للتضحية ببيع ذهب السودان في ظل انهيار اسعاره العالمية بنسبة قاربت النصف خلال فترة نصف عام. ٭ المطلوب تحرك القطاع الاقتصادي في السلطتين التنفيذية والتشريعية عاجلاً وتقييم الانهيار الحالي لأسعار الذهب عالمياً وخسارة السودان من ذلك، واتخاذ القرارات العاجلة الواقعية، وتوجيه سلطات المعادن للتركيز على انتاج المعادن الأخرى العديدة المطلوبة في الأسواق العالمية للصادر كبدائل عاجلة. وأرجو وأتمنى أن يتم التحرك عاجلاً وبشفافية. «نواصل إن شاء الله تعالى». الصحافة