«أكتوبرُ جديد؟».. أم إبريلٌ يطرق الأبواب؟.. ثورتان هما حصادُ خروج السودانيين على طاعة الحكام، بينهما 21 عاماً 1964- 1985 حكامهما عبود ونميري جنرالان صدرهما الجيش إلى قلب مشهد السياسة وهلّل لهما الشارع الذي لا يرى في غير العسكريين مُخلصاً، ليجني الشعب الهشيم من تجارب سرقت من عمره عقوداً. 30 يونيو 1989.. تقطع الإذاعة والتلفزيون الرسميان بثهما المعتاد. ماذا هناك؟: إنّه البيان الأول العميد عمر حسن أحمد البشير يدشّن ثالث العهود العسكرية بتخطيط «الإخوان»، ولا يورث مواطنيه بعد 24 عاماً قضاها حاكماً أوحداً التهلكة حتى إذا ما خرج عليه قومه قائلين: «أرهقنا الفقر وأعيا صبرنا العوز نسألك الرفق»، أتى الرد بما يفهمون ولا يفهمون: «في السماء رزقكم وما توعدون»، فرددت الشوارع صدى هتاف الثائرين: «ليس أمامك سوى الرحيل». هو سبتمبر إذن يخطب «ود الثورة» دماً أسيل على الطرقات والأرصفة برصاص الأمن السوداني، عنفٌ مفرطٌ بدأ في مدينة ود مدني «مهد العصيان» مُردياً بها قتلى لا لذنب سوى أن صرخوا «كفى» في وجه النظام، ولم ينته في الخرطوم التي شُقت أراضيها لحوداً تحتضن رفات الشهداء وتعبت أكتاف مشيعيها من طابور جنائز لا تنتهي، وبينهما عويل الأرامل والأمهات على شركاء الرحلة وفلذات الأكباد. حصاد رصاص حصد رصاص الأمن الأرواح الثائرة في الشوارع على السياسات الاقتصادية التي يصفونها ب «الخاطئة» ما أسقط قتلى قدّرتهم المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان بما لا يقل عن 210، ولم تتجاوز الأعداد 34 فوق الإحصاءات الحكومية. فجّر سقوط القتلى غضباً مضاعفاً في الشارع المحتقن فخرج المزيد من المتظاهرين إلى الميادين، أمرٌ قابلته السلطات بالغاز المسيّل للدموع الرصاص الحي في محاولة لوأد الاحتجاجات. ربط بطون نفد الصبر وفاض الكيل كما يقول معارضون بشعب اتخذ طوال عقدين ونصف من «أيوب» أسوة «شد الحزام» و «ربطَ الحجارة على البطون» قرباناً لما قيل له إنّه «المشروع الحضاري»، لكن الحقائق لم تستغرق كثير وقت لتتكشف أمام البصائر برأيهم حكم قوي في بشطه لكل من لا يقول «سمعاً وطاعة»، ولم يردع كل غير أمين عن خزائن الأرض التي أعمل فيها الفساد وصار المال العام نهباً دون رقيب أو حسيب لتغتني قلّة ويُفقر شعب. جذور «إخوان» من أين أتى هؤلاء؟، سؤالٌ معقّد تتطلّب الإجابة عليه «نبش التاريخ» وتجاوز «حدود الجغرافيا» في العام 1949 ظهر أول فروع جماعة الإخوان المسلمين في السودان تشرّب طلابه في مصر الآيدلوجيا وعادوا مبشّرين بها، ليبدأ نشاطهم داخل الجامعات وطلابها الذي مثّلوا الدعم الأكبر، ليصعد فيما بعد المفكّر الإسلامي حسن الترابي إلى صدارة المشهد قائداً ويمر التنظيم بعدها بكثير تطوّرات تغيّر خلالها اسمه بسبب تعرّض حركات الإخوان المسلمين حول العالم إلى الهجوم والقمع من الأنظمة، فدلف إلى حيز الوجود ما اصطلح عليه «جبهة الميثاق الإسلامي» عام 1969 انسلخ الترابي عن جماعة الإخوان المسلمين وشكّل في العام 1986 الجبهة الإسلامية القومية التي انقضت على السلطة في العام 1989 عبر انقلابها على النظام الديمقراطي القائم آنذاك بزعامة رئيس الوزراء الصادق المهدي، ويفسح التاريخ الطريق أمام سليل المؤسسة العسكرية عمر البشير إلى اعتلاء سدة الحكم مدفوعاً بالإسلاميين ما يعيد إلى الذاكرة مقولة الترابي الشهيرة للبشير: «اذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً». سوءات نظام إنّ سوءات النظام طابور لا ينتهي وفق منتقديه فلم يكتف بالسيطرة على مفاصل الدولة بمصادرة السياسة واحتكار الاقتصاد مطبّقاً سياسة الإقصاء عنفاً وبطشاً، حوّل النزاع مع الجنوب إلى حرب دينية مسلمين في مواجهة كفار قتلاه في الجنّة وقتلاهم في النار وفجّر إقليم دارفور نزاعات بتأليب وتسليح قبائل في مواجهة أخرى في تطبيق حرفي لنظرية «فرّق تسد» كما يتهم. رأى مُنظّر الإسلاميين وأحد قياداتهم من معسكر «الحمائم» لا الصقور غازي صلاح الدين العتباني ملء عينيه رصاص أشقاء الفكر وشركاء الآيدولوجيا يخترق الرؤوس فقال: «إني بريء منكم» وتبعه آخرون ممتعضين على قمع السلطات للمتظاهرين عبر مذكّرة خطّها قلم 19 قيادياً. ولم ير الحاكمون في الثائرين سوى مخرّبين تحرّكهم أيادٍ لا تريد بالسودان وأهله سوى الشر، لقد أحرقوا المحال ومحطات الوقود وكثير ممتلكات عامة وخاصة بما أضر مصالح البلاد والعباد، فحق التظاهر السلمي مكفول بموجب الدستور لمن التزم فكان الرصاص جزاء من خرجوا حاملين «أغصان زيتون». خفايا حكايا في باطن المشهد وخفاياه التي لا تجد طريقاً إلى الناس حكايا أخرى يموت فيها شباب غض ويوأد مستقبل أجيال إعداماً برصاص لا يعرف من الجسد مناطق سوى الرأس والصدر، صعد صلاح سنهوري وإخوانه إلى ربهم في المحيا ابتسامة وأمل، وفي القلب يقين لا يتسرّب إليه الشك أنّ غد السودان أفضل. «إن تقلها تمت وإن لم تقلها تمت إذن قلها ومت».. آخر كلمات خطّها سنهوري في ردّه على خطيبته على «واتس اب» وهي تطالبه عدم الخروج في التظاهرات خوفاً عليه من بطش العسكر. تغييب إعلام لم تكن الأنفاس المصادر الوحيدة وفق مراقبين، غيّبت الصورة وكسر القلم للي عنق الحقائق وضمان نقل ما يتفق والأهواء، فطالعت صحف الخرطوم قراءها بعناوين على نسق: «تبت يدا المخرّبين» امتثالاً لأوامر الحكام: «نريد إعلام أزمة» ومصطلحات لا تخرج عن فلك منفلتين مجرمين ومسلحين، إلّا أنّ الخروج على أوامر السلطان كان حاضراً والعصا لمن عصى: «احتجاب عن الصدور إلى أجل غير مسمى». مكتسبات خروج خرج السودانيون من تظاهرات الأيام السبع بحزمة مكتسبات كما يرى مراقبون، أولها كسر حائط الخوف من بطش السطات الذي كبّل الجماهير طويلاً، وفرضوا أنفسهم طرفاً مؤثّراً في المعادلة السياسية بعد أن فضّلوا الهامش عقوداً. تجاوز الشارع السوداني عجز المعارضة وتآكل آلياتها فكان سيد القول الفصل في معادلة «التظاهر على السلطات» سبق الجميع ولم يلحق به أحد وحده استقبل الموت بصدور عارية ولم يبخل النظام. لم يخرج المتظاهرون من أجل أسعار وقود على ما يرى محلّلون .. نعم كانت الشرارة التي أشعلت النار، لكن تراكم المظالم والغبن وممارسات «الإنقاذ» طوال 24 عاماً ويزيد فجّر المشهد وأكّد مقولة: «لا يجني عنباً من زرع الشوك». ارتعاد فرائص إنّ فرائص الإسلاميين في السودان ترتعد كلما أتى ذكر «وتلك الأيام نداولها بين الناس» على ما يقول معارضوهم ليسرفوا في إعداد العدّة تسلّحاً وإنفاقاً غير معقول على الجيش والأمن بمخصصات تصل إلى ما فوق ال 70 من ميزانية الدولة، أوضاع لا تحظى فيها قطاعات حيوية على غرار الصحة والتعليم بما لا يتعدى 2.5 في المئة مجتمعتين. اعتقالات نفّت السلطات في الخرطوم حملة اعتقالات واسعة في أوساط الناشطين السياسيين والثوريين وقيادات الأحزاب السياسية، فضلاً عن إعلانها اعتقال ما لا يقل عن 600 ممن أسمتهم «المخرّبين» الذين أحرقوا المنشآت العامة والخاصة في مناطق متفرّقة من الولاية. وطالت الاعتقالات عدداً من القيادات الحزبية على رأسهم مسؤولون في حزب المؤتمر السوداني. فشل حشد سعت السلطات السودانية وكعادتها عند كل ملمّة إلى «الحشد المضاد» لتبيان قوتها في الشارع إلّا أنّ محاولاتها فشلت فشلاً ذريعاً وفق ناشطين، إذ امتنع الموظفون والعمال الذين كانت تكدّس بهم الميادين عن الحضور إلى الساحة الخضراء مكان التجمع المزمع. ولم تقف الأمور عند هذا الحد إذ تلقت الحكومة دعوات عبر مذكرة من قيادات داخلها يرفضون فيها استخدام العنف في مواجهة المتظاهرين. تشكيل تنسيقية وفي ظل المشهد المخضّب بالدماء تنادى الحزبيون والنقابيون والشباب إلى كلمة سواء بإنشاء «تنسيقية التغيير» والتي تطرح إسقاط النظام هدفاً معلناً وحل كل أجهزته التنفيذية والتشريعية، وتكوين حكومة انتقالية تضم كل أطياف الشعب تتولى إدارة البلاد لمرحلة انتقالية، والمحاسبة والقصاص لكل من شارك في جرائم القمع والتعذيب والقتل وإيقاف الحرب الدائرة فوراً، ووضع الأسس للسلام المستدام عبر عملية مصالحة وطنية شاملة تخاطب بذور الأزمة. البيان