كتب الأستاذ يوسف مختار دفع الله بتاريخ 29 سبتمبر مقالاً نشرته صحيفة الراكوبة. تناول فيه التغير الكبير الذي شهدته جريدة الصحافة السودانية بعد ابتعاد رئيس تحريرها النور أحمد النور، لصالح الكرنكي. فمباشرة بعد ظهور الأخير اختفت أقلام ميّزت الصحيفة لفترات طويلة، واختفى أيضاً عدد من مراسلي الصحيفة الجيدين الذين اجتهدوا في الوصول إلى مصدر المعلومة التي تهم الناس وحرص القراء على متابعتهم لأنهم اقتنعوا بمهنيتهم. ظهرت الصحافة بمانشيتات تشبه ما كان يكتب على الصحف الحائطية بالمدارس المتوسطة والثانوية.. وأصبحت بوقاً للنظام؛ فبعد خروج التظاهرات الاحتجاجية على غلاء الأسعار، وما تبع ذلك من قمع من السلطات أدى لمقتل المئات، جاءت الصحافة بمانشيت أكد للقراء أنها وصلت الى درك سحيق جدا ، فبدلاً من الحديث عن الشهداء الذين سقطوا برصاص مليشيات الأمن والشرطة، اهتمت الصحيفة بما حدث لمحطات البنزين، وألف باء الانسانية والمهنية الإعلامية تقول إن النفس البشرية أغلى من كل الماديات، وبالتالي تكون لها الأولوية عند تناول الأحداث، وهو أمر أصبحت الصحافة بنسخة الكرنكي لا تعيره بالاً. كان الأستاذ يوسف مختار، حسن النية جداً وهو ينصح الكرنكي بإعادة كتاب الأعمدة من جديد للصحيفة بعد أن وصفه بالديمقراطي الذي يجيد الاستماع للآخرين. وهاتان الصفتان جعلت من الأجدى إلقاء الضوء على شئ من تاريخ الرجل.. فالكرنكي وأسمه عبد المحمود نور الدائم الكرنكي، تخرج من جامعة الخرطوم في كلية الآداب، وعمل ملحقاً إعلامياً في سفارة السودان بلندن، حيث كانت له قضية شهيرة في التسعينات عندما تم اتهامه باسترقاق خادمته ولكنه تحصل على حكم بالبراءة بل تقاضى تعويضاَ كبيراً. وعاد الكرنكي للسودان. ونال لقباً جديداً .. إذ يصفه بعض الصحفيون ب"النحس". والسر وراء ذلك بسيط جداً... فالرجل كان آخر رئيس تحرير لصحيفة الأنباء الحكومية، جلس على تلها، أغلق أبوابها، وسلم مفاتيحها للدولة بعد ان تراجعت مبيعاتها للصفر في عهده. أيضا كان رئيس تحرير لصحفية الرائد التابعة لحزب البشير الحاكم، وهي الاخرى أيضا أجهز عليها. والآن أصبح رئيس تحرير للصحافة والجميع يحبس أنفاسه وينتظر أن يعلن الكرنكي عن وفاتها بعد ان قتلها إكلينيكياً ونجح في ظرف شهر واحد أن يجعل توزيعها يتراجع لأكثر من 50% مما كانت عليه قبل ان يأتيها غازياً . ويعيش الكرنكي أوقاتاً متميزة هذه الأيام، فالرجل نجح في أن يتبادل الأدوار مع النظام الحاكم، فهو يتحدث بلسان لا تستطيع الحكومة في بعض الأحيان الجهر به بسبب استخدامها فقه التقية. إذ تتفق معه الحكومة جهراً إذا كان الرأي يخص الشعب المغلوب على أمره (شأن المانشيت الذي ينال من المتظاهرين)، بينما يتم تكذيبه ودحض الأخبار التي لا تستطيع الحكومة قولها جهراً، شأن الحديث عن وقوف السعودية وأمريكا وراء التظاهرات الأخيرة. خلاصة الأمر أن الصحافة تم تأسيسها على أن تكون مستقلة. ولكن الواقع يقول أنها لن تكون كذلك، فحكومة البشير تمتلك الآن 55 في المائة من أسهمها، بينما يمتلك رجل الأعمال صديق ودعه 35 في المئة، والعشرة في المئة تمتلكها شركة الإعلاميات المتعددة وأفراد. وإذا كان جهاز الأمن يتدخل في الخط التحريري لكل الصحف السودانية بغض النظر عن امتلاكه لنسبة فيها أو لا، فكيف يكون الحال وهو يمتلك أكثر من نصف أسهمها؟!!