عراقي يصطحب أسداً في شوارع بغداد ويُغضب رواد منصات التواصل    ليلى علوى توشك على الانتهاء من "المستريحة" وتواصل "جوازة توكسيك"    حسن الذي عرّف كويلو بمصر    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    محمد خليفة، كادر حزب البعث والقحاتي السابق، يتكلم عن الحقيقة هذه الأيام وكأنه أفلاطون    الدوري الخيار الامثل    عائشة الماجدي تكتب: (جودات)    أهلي جدة يكسر عقدة الشباب بريمونتادا مثيرة    الهلال يحسم لقب الدوري السعودي    اشادة من وزارة الخارجية بتقرير منظمة هيومان رايتس ووتش    القوات المسلحة تصدر بيانا يفند أكاذيب المليشيا بالفاشر    الجيش السوداني يتصدى لهجوم شنته قوات الدعم السريع على الفاشر    المريخ يعود للتدريبات وابراهومة يركز على التهديف    برباعية نظيفة.. مانشستر سيتي يستعيد صدارة الدوري الإنكليزي مؤقتًا    يوكوهاما يقلب خسارته أمام العين إلى فوز في ذهاب نهائي "آسيا"    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    مخرجو السينما المصرية    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أكثر من 450 تريليون جنيه مديونيات..الحكومة تقرر سداد ديونها الداخلية في 100 عام وتنقل أزمتها للأجيال القادمة
نشر في الراكوبة يوم 11 - 10 - 2013

(الاجراءات الاقتصادية الأخيرة جاءت لتفادي انهيار الاقتصاد بعد زيادة التضخم واختلال سعر الصرف) .. هذا هو رد الرئيس البشير على التظاهرات التي عمت الشارع السوداني أخيراً، لكن الاقتصاد انهار مسبقاً، كما فشلت كافة محاولات السيطرة على التضخم ومعالجة اختلال سعر الصرف، وسيكون مصير هذه الاجراءات المزيد من الفشل، فهي لن تنجح فيما عجزت عن تحقيقه المحاولات السابقة لأن أسباب المشكلة تظل باقية ولا يمكن احتوائها إلا من خلال معالجات سياسية لن تجرؤ الحكومة على الاقدام عليها.
مؤشران خطيران يؤكدان أن السودان أصبح في قلب الانهيار الاقتصادي وليس مقبلاً عليه كما تحذر الحكومة، وأول هذه المؤشرات أن السودان يغرق في بحر من الديون الداخلية والخارجية تفوق قدرته على السداد، فالدين الخارجي المتراكم يقترب من 55 مليار دولار(نحو 450 تريليون جنيه سوداني بالقديم و15 مليون نصيب الفرد)، وهذه التقديرات تشمل ديون السودان العربية وغير العربية، بما نسبته نحو 95% من الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ نحو 58.77 مليار دولار بالأسعار الجارية عام 2012، ويتراوح دخل الفرد بين 1800 -2000 دولار، في مؤخرة الدول العربية قبل اليمن وموريتانيا .
وفيما تزعم الحكومة أنها ورثت هذه الديون من الأنظمة السابقة، يبين التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2012 أن السودان حصل على مدار عقدين من الزمان على 19.4 مليار دولار من إجمالي المساعدات الإنمائية الدولية، وبنسبة تبلغ 8.6% من إجمالي المساعدات الموجهة للمنطقة العربية، أي أن السودان خلال هذه الفترة حصل على مساعدات سنوية في المتوسط تقدر بنحو مليار دولار في العام. ويعكس تراكم الديون فشل الحكومة في ادارة هذا الجانب، حيث عجزت عن سداد الديون المستحقة عند حلول آجالها، كما فشلت في المفاوضات التي سبقت انفصال الجنوب في اقرار توزيع هذه الديون بين الدولتين. وما يثير الاستغراب أن الحكومة ظلت تقترض من الخارج حتى في أوج التدفق النفطي، حيث يشير التقرير السنوي لبنك السودان إلى أن القروض التي قدمتها مؤسسات التمويل العربية ناهزت خلال الفترة ما بين 2008 و2012 قرابة 952.1 مليون دولار، وبلغت قيمة المنح السلعية من المؤسسات نفسها نحو 84.1 مليون دولار.
أما الديون الداخلية(والتي سيأتي ذكرها لاحقاً) ومصدرها النظام المصرفي المحلي فقد بلغت نحو 6 تريليون جنيه سوداني بالقديم أي ما يعادل نحو 750 مليون دولار ما يعادل نحو 1.3% من الناتج المحلي الاجمالي للسودان، وهكذا نجد أن الديون الداخلية والخارجية أصبحت تكبل السودان في غياب أي أفق لتدفق المزيد من القروض الخارجية.
المؤشر الثاني هو سعر صرف العملة الوطنية، حيث انخفضت قيمة الجنيه السوداني من 12 جنيه مقابل الدولار الأمريكي في السوق الموازي عام 1989، إلى 8000 جنيه وأكثر حالياً، بزيادة تقارب 70,000%، وبالطبع هذا رقم فلكي لم يشهده العالم من قبل، ويمكن الجزم أنه من غير الممكن حدوثه في أي مكان آخر في العالم. وقد انعكس انهيار العملة على كافة قطاعات الاقتصاد التي تعيش أسوا مستويات الأداء في تاريخها لدرجة ان أسعار المنتجات الغذائية في السودان(دولة زراعية) أصبحت أعلى من نظيراتها في أسواق الدولة المستوردة.
رفع الدعم
بعيداً عن هذه المؤشرات الخطيرة يتناول المسؤولون أزمة الاقتصاد السوداني، وقديماً قالوا أن التعرف على المشكلة هو نصف الحل، وهؤلاء إما أنهم لم يعرفوا حقيقة المشكل الاقتصادي في، أو لا يدركون الحقيقة ويخفونها عن المواطن، وهذا هو الأرجح. فما لم يقله الرئيس وهو يقدم حزمة الاصلاح الاقتصادي للمواطنين مثلاً، هو أن هذه الاجراءات وغيرها من السياسات التي تتبناها حكومته، تأتي بتوجيه حازم من صندوق النقد الدولي الذي أصبح يتحكم بكل ما يتعلق بالاقتصاد السوداني، مع الخضوع التام من قبل الحكومة، ما يعني أن البلاد لم يعد بمقدورها الخروج عن قبضة الصندوق!!
يمكننا القول ضمن هذا السياق، أنه لا يوجد دعم حقيقي أصلاً للسلع في السودان حتى ترفعه الحكومة، وما يحدث هو مجرد استكمال لبرنامج التنمية السالبة(على عكس النهضة التنموية التي وعد بها الرئيس الشعب السوداني في برنامجه الانتخابي)، حيث التخلي عن المواطن وتجاهل متطلبات حياته الأساسية، وهذا التوجه بدأ في تسعينيات القرن الماضي حينما الغت الحكومة التعليم والصحة من جدول الانفاق، وذلك ضمن تنفيذها لما سمي بسياسة التحرير الاقتصادي.
منذ ذلك الوقت أصبح على كل مواطن توفير هذه الخدمات الأساسية لنفسه ولأفراد اسرته، وفي نفس الوقت امكن للنظام التخلص مما يعادل نحو ربع الموازنة السنوية، وأصبح السودان بذ لك من أقل دول القارة الأفريقية دعماً للتعليم بنسبة تقل عن 3% من الناتج المحلي الاجمالي. ووفقاً للسيد اسماعيل حسين رئيس كتلة نواب المؤتمر الشعبي بالمجلس الوطني، فقد بلغ نصيب التعليم في الموازنة المالية الحالية 2% فقط، وكذلك الصحة، فيما بلغ نصيب القطاع الاجتماعي 5%، ما يعني أن الانسان يأتي في مؤخرة أولويات الدولة.
لم يكن للمتابع لشعارات الانقاذ في بداياته، توقع ما حدث على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فمن كان يظن أن تتبنى حكومة ظلت تدعو إلى مقاطعة دول الاستكبار والكفر، سياسات تخضع السوداني المسلم لتلك الدول وقوانينها الوضعية الجائرة(كما يقولون) طمعا في منحها ومعوناتها وقروضها الربوية؟
ليس من المستغرب والحال كهذا، أن يتم تصنيف السودان في تقرير لمنتدى سياسة الطفل الأفريقي ACPF صدر عام 2010، كأسوأ الدول الأفريقية من حيث الصرف على الأطفال والتعليم والصحة. فالسودان وفقا للتقرير ينفق نحو 6.3% من ميزانية التنمية على الصحة، ولكن السجل الأسوأ للسودان حسب التقرير، هو في مجال الصرف على التعليم حيث يصرف ما نسبته 0.3% من ميزانية التنمية، ولا يماثله في هذا أية دولة أخرى حيث تليه في السوء غينيا الاستوائية التي تصرف 1.4% من الميزانية على التعليم.
المفارقة أن يقوم برنامج الرئيس البشير في الانتخابات الأخيرة على أساس ما سمي ب"استكمال النهضة التنموية، لكن عملياً حدث العكس لجوهر الفعل التنموي(زيادة قدرة المجتمع على الاستجابة لحاجاته الأساسية من خلال الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة)، ويبدو أن التنمية في مفهوم السيد الرئيس وحزبه الحاكم لا شأن لها بالإنسان ولا بمأكله(مع تحرير القمح ارتفعت أسعار الخبز بعد الاجراءات الأخير بنسبة 50%)، ولا مسكنه، ولا تعليمه أو صحته، فيما أصبحت كافة الحاجيات الأساسية الأخرى مثل الوقود والسكر خارج نطاق التغطية. ومع ذلك فقد وعد الرئيس شعبه باستكمال نهضة تنموية لم تبدأ بعد!!.
للعلم فإن استيراد القمح يكلف السودان حالياً نحو مليار دولار سنوياً، وذلك على الرغم من مرور نحو ربع قرن على التوجه نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية(نأكل مما نزرع)..!!
لم يتوقف معاناة المواطن عند حد حرمانه من حقوقه في المأكل والمسكن والتعليم والصحة وتوفير المواد الغذائية الرئيسة، وتلك هي حقوق المواطنة وأساس ما يسمى بالعقد الاجتماعي، ولا تتخلى عنها الدول في أسوأ الظروف، فالحكومة ماضية في اجراءاتها لفرض المزيد من الضرائب والرسوم والجبايات، وكلها لها انعكاساتها على مستويات المعيشة المتدنية أصلاً.
صندوق النقد يحكمنا
في ظل هذه الأجواء الملبدة بغيوم اليأس، ألقت الحكومة بحزمة "الاصلاحات الاقتصادية" وهي كما أشرنا ليست ابداعاً خالصاً للنظام، لكنه برنامج تطبقه الحكومة مرغماً أخاك لا بطل، وذلك على الرغم من شعارات الاعتماد على الذات واستقلالية القرار الوطني. فصندوق النقد الدولي يتولى زمام إدارة الاقتصاد السوداني والأشراف على رقابة أدائه منذ عام 1998، أما نظام الانقاذ الذي يتشبث بما تبقى من قشور مشروعه الحضاري فقد أصبح أداة طيعة للصندوق، يستجيب لإملاءاته مقابل الحصول على قروضه وشهاداته في النمو لجذب ما أمكن من رؤوس الأموال الأجنبية عسى ولعلها تنجح من خلالها في القيام باختراق لهذه الحلقة المفرغة من الأزمات التي تعيد إنتاج نفسها .
في عام 2009 كشف تقرير للصندوق أن الاقتصاد السوداني ظل لأكثر من 10 سنوات تحت رقابته، مشيراً إلى تنفيذ الجانبين اتفاقات عديدة تتعلق بمراقبة أداء الاقتصاد السوداني من قبل الصندوق والاشراف على برامج اقتصادية متعددة للدولة وصولاً إلى مرحلة كسر عظم المواطن العام الماضي 2012 من خلال تنفيذ المرحلة الأولى من سياسات رفع الدعم وتعويم العملة السودانية.
لإرضاء "الصندوق" تتجاوز الحكومة حتى سقف ما هو مطلوب منها، فلا مبادئ ولا يحزنون، فهي تكذب حين تزعم أن برنامج الاصلاح سيعيد توزيع الدخل لصالح الفقراء، لأن رفع الدعم عن الوقود مثلاً سيلقي بظلاله على مستويات الأسعار لكافة السلع والمنتجات، ولن يصلح "الاصلاح" ما أفسده صندوق النقد. كما أن الحكومة تمارس الخداع وتتحايل على القوانين السائدة وفقاً لما يقوله صندوق النقد في تقرير له، حيث يشير الصندوق إلى أن حكومة السودان تحايلت على قانون يمنع تجاوز استدانتها من النظام المصرفي سقف 1.5 بليون جنيه(ما يعادل 1.5 تريليون بالقديم) في الموازنة الحكومية. وكشف الصندوق أنه لما تجاوز حجم هذه المديونية سقف 4 تريليونات من الجنيهات(بالقديم)، تحايلت الحكومة(وهذا تعبير الصندوق في تقريره) من خلال بنك السودان على القانون الذي يحمي مصالح المواطنين من خلال اصدار قانون جديد يعطي الدولة فترة سماح لجدولة ديونها التي تراوحت عام 2011 بين 4-6 تريليون جنيه تريليون جنيه(تعادل نحو 2.3% من الناتج المحلي) على مدى 100عام.
هكذا تنقل الحكومة عبر هذه الطريقة، جانباً من أزمتها الحالية للأجيال القادمة، علماً بأن التمويل بالعجز هو من الأسباب الرئيسة لهذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة لأنه تمويل تضخمي يصب الزيت في نار الغلاء المستعر أصلاً، حدث كل ذلك في غياب تام للمواطن وفي ظل تعتيم اعلامي مقصود، ما يعني عدم صحة القول بأن ما تتخذه الدولة من اجراءات كفيلة بتصحيح المسار الاقتصادي، لأنه أصبح لدينا قنابل اقتصادية موقوتة في الطريق بسبب مثل هذا التحايل ما يؤكد عدم مصداقية المسؤولين واخلالهم بمبدأ الأمانة المطلوبة!!
جانب آخر من جوانب التحايل على القوانين، يتمثل في ما حدث لقانون الحكم الفيدرالي، الذي كان يفرض على الحكومة تحويل 50% من الايرادات الكلية للدولة لصالح الولايات المختلفة، بما يوفر لها المال المطلوب لتمويل المشروعات على تواضع جدواها الاقتصادية، لكن بأمر مباشر من الصندوق تم خفض ذلك الى 30% وهكذا أصبح المركز يستحوذ على 70% من ايرادات الدولة، ما جعل الولايات تبحث عن وسائل تمويل جديدة ومن ذلك ما قامت به الولاية الشمالية مؤخراً من فرض رسوم جديدة بلغت 5% لكل مواطن يغادر الولاية!!. وعلينا ألا نستغرب من ذلك أو من أية رسوم جديدة قد تبدعها ولايات أخرى، لأن هذه الولايات ليس أمامها سوى اللجوء للمواطن لسد الفجوة بين ايراداتها الشحيحة واوجه الانفاق المختلفة علماً أن جزءاً كبيراً من هذه الايرادات تصبح رهينة الفساد المالي ما لم تعمل الدولة على كبح جماحه!!
بفضل الانصياع لتوجيهات وتوصيات الصندوق، أصبح النظام يحظى برضا الصندوق الذي عبر في تقرير له عن ذلك، مشيراً إلى أن تجاوب الخرطوم لوصفاته جاء (مشجعاً جداً) وأن السودان حقق من خلال ذلك كما يزعم الصندوق، انجازات عديدة منها تحسن في استعادة استقرار الاقتصاد الكلي وتحرير الاقتصاد وتطوير قدرة إدارة الاقتصاد. ومع ذلك فقد لاحظ الصندوق وجود ضعف في الإدارة المالية والنقدية وفي تحريك أو التعامل مع الايرادات، لكنه قال أيضاً انه سيواصل دعم ما يسمى بالإصلاحات الحكومية من خلال المساعدات الفنية واقتراح السياسات المناسبة.
ويتوقع الصندوق استمرار صعوبة الأوضاع الاقتصادية حتى نهاية العام الجاري 2013، فيما يرى ضرورة استمرار الاصلاحات لتحقيق تحسن تدريجي في العام القادم 2014، وصولاً إلى خفض التضخم الى رقم عشري واحد وخفض عجز الموازنة الى 1.5% من الناتج المحلي ولكن (هيهات) أن يتحقق ذلك ..!!
ينفون علاقة الصندوق بالإصلاحات
وعلى الرغم من كل شواهد الخضوع للصندوق، ينفي المسؤولون أن يكون صندوق النقد الدولي وراء حزمة "الاصلاحات"، لكن من يقرأ تصريحات المسؤولين عند اعلان مثل تلك القرارات يجد تطابقاً في الكلمات والمعاني مع صياغة الصندوق لتوصياته، ما يؤكد ولتطبيق الحرفي لتوصياته، ومن ذلك: زيادة الضرائب من 15-17 بالمية، ورفع ضريبة التنمية من 10 الى 13 بالمائة، ورفع ضريبة الأعمال من 15-30 بالمية، وغير ذلك من الاجراءات التي تهدف إلى توسيع مظلة الرسوم والضرائب، والتي تضمنت تحريراً كاملاً لسعر السكر، وكلها توصيات مشددة من الصندوق.
بإعلان رفع سعر جالون البنزين بما نسبته 43% من 12 إلى 21 الف جنيه(بالقديم)، واقرار الزيادات الكبيرة في الرسوم الجمركية تكون الحكومة قد اوفت تماما بالتزامها الأخيرة تجاه الصندوق وزيادة، لكنها أخلت من جانب آخر بكافة وعودها للمواطن باستكمال النهضة التنموية. لكن ما لفت الأنظار في المؤتمر الصحفي للرئيس عند اعلان قرار رفع الدعم عن الوقود هو التركيز على دول الجوار واشارته لتهريب الوقود السوداني اليها، ولدينا في مصر على سبيل المثال يقل سعر جالون البنزين عن دولارين(1.73 دولار)، ما يعادل بسعر الصرف الرسمي(4.42 جنيه للدولار) نحو 8800 وهو يقل 26% عن السعر السائد قبل تنفيذ قرار رفع الدعم عن المحروقات، علماً بان مصر تستورد هذه المحروقات أيضا من الخارج. فهل ترفع مصر مثلاً أسعار الوقود لنفس المبرر؟
حتى تاريخه لدينا نتائج كارثية لسياسات صندوق النقد الدولي، حيث يشير التقرير السنوي الأول للتنمية البشرية في السودان أن نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل نسبتهم إلى نصف السكان تقريباً حيث يقل دخلهم عن 113,8جنيها أي ما يقل عن 14 دولار شهرياً ولو أخذنا في الاعتبار الفئات الأخرى ألتي يقل دخلها عن 500,000 جنيه أي نحو 60 دولار شهرياً فقد تصل نسبة الفقر إلى نحو 80% من السكان!!
الصندوق لا يرى سياساته التي تطبقها الحكومة سبباً للأزمة الاقتصادية في السودان، لكنه يعزي ذلك إلى انفصال الجنوب مقدراً خسائر السودان في السنة الأولى من الانفصال ب 12 مليار جنيه سوداني(بالجديد) ما يعادل 6.25% من الناتج المحلي، فضلاً عن التدهور الحاد للاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، وارتفاع عجز الموازنة الى 1.3% من الناتج المحلي مع تراجع الايرادات 30% مقارنة بمعدل تنفيذ 95% على صعيد الانفاق. وحالياً يقر المسؤولون في السودان بتداعيات انفصال الجنوب على الاقتصاد السوداني وذلك على عكس تصريحاتهم في مرحلة ما قبل الانفصال، فقبل حوالي شهر من الاستفتاء صرح السيد نافع على نافع لبرنامج "بلا حدود" على قناة "الجزيرة" أن الوضع الاقتصادي قد يكون أفضل حالا بعد انفصال الجنوب بسبب اكتشاف آبار النفط ومناجم الذهب في الشمال، مشيراً إلى أن التداعيات ستكون محدودة بالنسبة للشمال ولن يتأثر اقتصاده. وفي منتدى أقامه مجلس الوزراء قلل وزير المالية بدوره، من مخاوف تناقص موارد النفط حال الانفصال، معتبراً البترول واحدا من موارد الدولة (الزراعية والصناعية والخدمية )، ومبيناً أن النفط يمثل 7% من الناتج الإجمالي الكلي. ومن جانبه قلل محافظ بنك السودان المركزي آنذاك، صابر محمد الحسن، من تأثير انفصال الجنوب على الاقتصاد ورأى أن أثره لن يكون(أكبر من الأزمة المالية العالمية)، وتحدى أي شخص يرى غير ذلك.
وتواصلت المزاعم التي تتحدث عن مستقبل باهر ينتظر السودان المنقسم على تفسه، حيث نشر مركز الخدمات الاعلامية تقريراً خيالياً بتاريخ 11 يوليو 2011، يزعم أن عائدات الذهب والمعادن ستفوق ما يفقده السودان من البترول بملياري دولار، ورسم عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين والمحليين الماليين الذين استطلعهم المركز ، صورة مشرقة للوضع الاقتصادي على المدى القريب والبعيد حال تحقق السلام والاستقرار بعد انفصال الجنوب ، حيث أكدوا أن عائدات المعادن والذهب تقارب ضعف ما كان يتحصل عليه السودان من نصيبه في البترول قبل الانفصال.
لكن كل تلك المزاعم راحت أدراج الرياح، وعادت نفس الأصوات تلقي باللائمة على انفصال الجنوب واعتباره السبب الرئيس في الأزمة الاقتصادية الحالية، وبذلك يكون الصندوق بريئاً من الدم السوداني المراق في الطرقات، علماً بأن الجنوب انفصل على أيديهم. ويبدو من قراءة الواقع الاقتصادي أن المدخل الحقيقي لحل المشكل الاقتصادي، سياسي بالدرجة الأولى ويتعلق بإعادة هيكلة أجهزة الدولة بما يعيد السودان دولة لكل السودانيين وليس لفئة محددة أو شريحة صغيرة تتحكم في رقاب الآخرين، تصرح وتطلق الوعود الكاذبة، وتتحايل على الدولة ومنظومتها من القوانين وتتخذ أخطر القرارات بلا حساب، وإلا فان الاستمرار في تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي التي أثبتت فشلها في السودان وغيره من الدول، من شأنه أن يؤدي الى إنتاج المزيد من الأزمات الاقتصادية التي ستلقي بظلالها على كاهل المواطن.
والأجدر بالحكومة البحث عن سبل تحقيق التوزيع العادل للموارد المالية المتاحة على ضآلتها، والحد من هدر المال العام وترشيد استخدامه، ذلك أن الوطن بحاجة إلى سلام حقيقي من الداخل لاستعادة قراره الاقتصادي المرهون حالياً لصندوق النقد، وما لم يتحقق ذلك فستظل البلاد فاقدة لحريتها السياسية أيضاً.. ألم يقال لنا من قبل أن (من لا يملك قوته لا يملك قراره)؟، هل تصدق الحكومة هنا أم تواصل اطلاق الشعارات على عواهنها؟
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.