يمثل الإقتصاد لأي أُمة العمود الفقري والركيزة الأساسية للدولة , فإن صَلُحَ حاله و مآله فهذا يعني الكثير و السير على الطريق القويم ، وإن فَسدَ و تَلفَ فإن ذلك يعني فساد الساسة و السياسة وجهاز القانون الذي ُيشِرع و يُسن و يطبق القوانين . إن معظم المشاكل و الحروبات التي تعاني منها الدول داخلياً و خارجيا ً اليوم بسبب دوافع و صراعات إقتصادية على الموارد تحركها رياح الحفاظ على الأمن و الإستقرار و القضاء على الإرهاب – والأوضح من ذلك تتحالف الدول من أجل تحقيق مصالحهاعلى الرغم من إختلاف العقائد و الروابط التاريخية و الإثنية وحتى الجغرافية بينها .و تمثل الرؤية الإقتصادية الشاملة لإقتصاد أي دولة مثل الشخص الراشد الذي يُدْخِل يده في جيبه أو خزينته أو (حصالته ) فيسحب النقود ويضعها أمامه ثم ينظر ويفكر في كيفية توزيعها تحقيقاً لرغباته و مصالحه الشخصية وبل و التفكير أيضا في وسائل جمعها المستقبلية قبل الشروع في إنفاقها . إن المعالجات التي تضعها الدولة للتحكم في الإقتصاد و أدواتها يجب أن تُحَدْد نتائجها و عواقبها مسبقاً و إلا نتجتْ عن ذلك مشاكل متعددة و متلازمات يصعب التعامل معها في المستقبل . في هذا الصدد نستعرض طريقتين لمعالجة مشكلة اقتصادية واحدة ، فقط تختلف الأمكنة و الشخوص – حيث نتناول التجربة السودانية في سد عجز الموازنة مع قرينتها موازنة الولاياتالمتحدةالأمريكية . المنهج السوداني: قبل إنفصال جنوب السودان عن شماله كان الإقتصاد السوداني يتمتع بسمعة طيبة و بمعدلات نمو متزايدة انْ لم تكن مستقرة ، و رغم أن الأقلية من السودانين كانوا يتمتعون بهذه الميزات و الرخاءات –إلا أن باقي الشعب السوداني (الفضل) أيضا كان يحظى بالقليل ، على الاقل سلامة أجر أو راتب الموظف من الإستقطاعات و ثبات الدعومات المزعومة و تهديد إرتفاع الأسعار ، وكانت الحكومة غارقة في إستعراض عضلاتها و ظنت أن إقتصادنا لن (يُذَلَ و لن يُهَان ) ولم و لن يمسه سوء ، و في ذلك الوقت كانت هنالك تقلبات عالمية في أسعار الدولار مقابل العملات الأخرى، فأصدر بنك السودان قراراً بربط الإقتصاد بحديث الولادة (اليورو) آنذاك و فك الإرتباط بالمدعو (أبو الجورج ) فصدقت مؤسسات كثيرة شائعة وفاة الدولار إلى رحمة مولاه دون رجعة وإن رجع فسيكون شبحاً فقط ، و بدأ الكل يتخلص من إحتاطيه من الدولار و إستبداله باليورو، وظنت الحكومة بذلك أنها تحارب أمريكا إقتصادياً و تزنقها بتلك الفرصة الذهبية – و هذا لعمري جهلٌ كبير ممن يمسكون بزمام الأُمور الإقتصادية بالبلاد , ؛ وكل فرد عادي يدرك بحقيقة قوة و سيطرة الإقتصاد الأمريكي و بالتالي قوة وصلابة عملتها ، و المتشكك في ذلك يراجع تاريخ الولادة المتعثرة للدولارالأمريكي . و يقوم الدولار الأمريكي بدور عملة الإحتياطي العالمي حيث تحتفظ البنوك المركزية في معظم دول العالم بإحتياطيات كبيرة من الدولارات الأمريكية لتلبية احتياجاتها من السلع و الخدمات المستوردة ، و بذلك يستولي الدولار على ثلثي احتياطيات النقد الأجنبي في العالم و 80% من مبادلات سعر الصرف الأجنبي، ولا يتمنى كائنٌ من كان هبوط وبهدلة الدولار لأن هذا ببساطة يعني إنهيار الإقتصاد العالمي . و توالت الأزمات – ومن المعروف أن الآثار الإقتصادية التي تنجم عن اتخاذ أي قرار يتعلق بالإقتصاد – لا تظهر إلا بعد مُضي أشهر او و ربما سنوات ؛ فتورطت الحكومة في مشاريع رأسمالية ضخمة من تدفقات رؤوس أموال أجنبية ليست بالأولوية بمكان(سد مروي مثالاً) لا تخدم إلا المموليين فقط دون الأخذ في الإعتبار القدرة على سداد المستحقات و الفوائد المترتبة حيال هذه المشروعات ؛ بالإضافة للترف و البذخ الحكومي ، و الصرف على إدارة الحروب و التفاوض لحلها و الكثير من الممارسات التي تأخذ من خزينة الدولة بلا مقابل . و تمثل العجز عن سداد فوائد الديون على مشاريع راسمالية كبيرة ، واحدة من الأسباب التي عصفت بالإقتصاد اليوناني و أدت إلى إفلاس حكومة بكاملها في العام 2010 . انفصل جنوب السودان فإنكشف المستور، و تمنى الجميع الذهاب و العيش في القبور ، و بنيت ميزانيات وهمية – تخيلوا أن ميزانية سنة 2012م- 2013 م قائمة على تكاليف و أجور ترحيل بترول جنوب السودان عن طريق أنابيب و موانئ الشمال ، و تم تفصيل سعر ترحيل البرميل على ما تهوى الأنفس ، بل وتم تضمين تلك التقديرات بالميزانية المايلة ، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفِنُ – إختلف الطرفان واصبحت الميزانية صفراً كبيراً ، فتمت الإستعانة بالمواطن وتوالت القرارت تباعاً وكان المستهدف هو جيب المواطن المقدود أصلا ، و تآكلت قيمة الجنيه السوداني و فقد 40% من قيمته حسب الإحصاءات الأخيرة للجهاز المركزي للاحصاء , ، و الخبر المحزن أن الجنيه يموت سريرياًوسيُوارى الثرى قريباً) إذا لم يتغير شئ و استمر الحال على ما هو عليه . فقد المواطن السوداني 60% من قيمته بالبلاد و ذلك عن طريق الهروب الجماعي من جحيم إرتفاع الاسعار و ثبات الاجور مما دفع به قبول عروض مخزية و مذلة للعمل بالخارج و بأي ثمن و اصبح الهدف الأساسي لاي سوداني اليوم هو الفرار بجلده من هكذا واقع وإذا ما استمر هذا السيناريو(التدهور الإقتصادي) , فان الإقتصاد السوداني سوف يصل إلى درجة الإنهيار الكلي و تتوقف عجلة الإنتاج كلياً نتيجة للركود. و مع خواء الجيوب من المتوقع أن تنعدم هذه السلع من الأسواق ويصبح الحال ( ميتة و خراب ديار ) ، و لا لن تجدي هذه المسكنات التي تنتهجها الدولة لإصلاح الاقتصاد نفعاً و هي أشبه بعملية ضخ دم لمريض ينزف داخلياً أكثر فأكثر . المنهج الأمريكي: تتشابه المشاكل الإقتصادية للدول عموماً ، فمثلما هناك ركود و كساد و تضخم و إفلاس في أي دولة فقيرة مثلها توجد في الدول الغنية و لكن يكمن الفرق دائماً في أن الدولة الفقيرة تمثل هذه الظواهر الإقتصادية أمراض و عاهات و متلازمات (Syndromes ) لم يُراع لها الحساب من زمن مبكر ، بينما في الدول المتقدمة تمثل علامات ظهور المرض (Symptoms ) فيتم التعامل معها باكراً فتعقد الإجتماعات و يتداول في الأمر الكبار ويستثنى حتي رأي رأس الدولة في مثل هذه الحالات . تتمثل الأزمة الأمريكية هذه الأيام في أن مجلس الشيوخ الأمريكي رفض مشروعاً لرفع سقف الدين للخزانة الأمريكية ,، هذا السقف الذي أن حدده المجلس ذاته وذلك بأن لا تتجاوز الفترة المسوح بها للحكومة الفيدرالية بالإستدانة 17 /10/2013 ، وحان الوقت للتوقف عن الإستدانة ، ولكن حتى هذا التاريخ لم تجد الحكومة بُداً منها ، حتي تفي بإلتزاماتها المالية ، و تتمثل المعضلة من ناحية أن رفض رفع سقف الإستدانة يعني (الإفلاس ) مثلما حدث في اليونان العام 2010 . ونتيجة لذلك توقف دولاب العمل العام في أمريكا في معظم المرافق الحكومية وتم إغلاق الكثير من المؤسسات الحكومية طيلة فترة إنعقاد مجلس الشيوخ ، و رفض الموظفون الذهاب إلى العمل و ذلك لعدم وجود ميزانية مجازة ، الأمر الذي يعني العمل بدون مقابل حتى إِجازتها . من ناحية أخرى تمديد هذا السقف حسبما يرى مجلس الشيوخ يعني ضخ المزيد من الدولارات أو فيما يسمى بالتيسير الكمي والذي يعني في النهاية موجة كبيرة من التضخم الأمر الذي يعرض الإقتصاد العالمي للإنكماش . كانت مستويات الدين الدين الحكومي الأمريكي معقولة نسبياً لا تزيد عن نصف اجمالي الناتج القومي قبل سنين خلت ، لكن مغامراتها العسكرية و تزايد إنفاقها في مجالات أُخرى كالتسليح ، زاد من الدين العام إلى معدلات قياسية حرجة وصل حتى الآن إلى (14.29 تريليون دولار) . ولوكان استمر الجدل حول تمديد أو عدم تمديد سقف الدين دون حل ليومين أو اكثر، فستقوم وكالات التصنيف الإئتمانية (AAA ) مثل (Standard and Poor's) و ( Moody's ) بخفض درجة مأمونية تصنيف الحكومة الأمريكية و هذا يؤثر بدوره على سمعة الدولار و الإقتصاد الأمريكي حيث أن الكثير من الدول الغنية لها استثمارات في سندات الخزانة الأمريكية مثل الصين و الدول الأوربية و قطر و الإمارات . و لكن لأن أمريكا لا تمرر قراراتها عبر أفراد أو جهة واحدة , فقد صادق كل من مجلس الشيوخ أولاً و البرلمان ثانياً ثم الرئيس ثالثاً على قانون جديد يمدد سقف الإستدانة الفيدرالي حتي 7 فبراير 2014م ، و كذلك تمديد تمويل المؤسسات الحكومية حتي 15 يناير الأمر الذي يعني السماح برفع سقف الدين اإلى (16.7 تريليون دولار ) و هذا يعني أن السادة الأمريكان قدموا سمعة بلدهم و إقتصادها على كل شئ و اختاروا التضخم بدلاً عن الإفلاس ، بل وشرع مجلس الشيوخ مباشرة و بعد المصادقة علي القانون- في خطة تقتضي بتكوين لجنة مشتركة بين مجلس الشيوخ و النواب تتكفل بالتخطيط للإتفاق على ميزانية طويلة الأمد . الخلاصة : يحمل الشعب الأمريكي الثقة الكبيرة في من يمسكون بزمام أمورهم لطالما تسير الأمور عندهم بهكذا اسلوب ويبقى الإقتصاد الأمريكي الأقوى دائما . الأزمة الاقتصادية في السودان: اإلى متى يختلف البرلمان و مؤسسة الرئاسة في شؤوننا الإقتصادية الأمر الذي يعني في النهاية تمرير ما يراه وزير المالية ( بكيف كيفو) و إصراره على أن ما يراه دائماً هو الأصح ؟ ويبقى الأسىي دائما لطالما أننا لا نجد فيمن نثق فيه ، وتظل مشاكلنا تتفاقم يوماً بعد يوم و نترحم على إقتصادنا المريض دائماً. أستاذ /آدم إبراهيم حامد جامعة بحري – كلية الإقتصاد [email protected]