من الملاحظ، ثراء القاموس العامي السوداني بمفردات لا تتوافر إلا في داخله وحده، وهي مفردات ذات قدرة وفاعلية عالية في التأثير ووصف المراد، وربما لا يصل المعنى المقصود إلا عبرها فقط، وإن استخدمت أية عبارات أخرى لأفسدته تماما.. وتدهشك هي ذاتها احيانا، واخرى يدهشك مستخدموها ومقام ومناسبة ذكرها، فإما ضحكت حد القهقهة او أوجعتك المفردة حد الألم.. وكثيرا من القصص الطريفة التي يتداولها الناس بكثير من الإستطعام والسخرية، ترتبط أساسا بهذا القاموس الذي يصفه البعض ب (العجيب).. هذه المفردات كغيرها تجد طريقها بسهولة لتصبح ضمن الأساس اللغوي للأوساط الإجتماعية والإكاديمية المختلفة وحتى على المستوى السياسي، وكثيرا ما يذكر البعض في هذا المقام قفشات الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي الذي تتسلل مثل هذه المفردات إلى خطاباته وتصريحاته فتصبح أكثر التصاقا بالذاكرة وتغلغلا في الاوساط المشابهة، ومن ذلك استخدامه مفردات شعبية على شاكلة (الحنكشة) و(أحلام زلوط)، والكثير من الأمثال الشعبية، كما طالب اخيرا بألا يبقى السودان (ضقلوم).. وكثير من السياسيين السودانيين، يستخدمون هذا القاموس الموغل في المحلية، وقد بعث الرئيس عمر البشير عن قصد أو دونما قصد منه مفردة لم تكن كثيرة التداول، ربما على المستويات الأعلى على الأقل، فالرئيس في خطابه مطلع الأسبوع الماضي بولاية القضارف جدد تمسك الدولة بحدود الله والشريعة الاسلامية وتطبيق كافة الحدود دون مجاملة او حرج على كل من يتعدى حدود الله، ووردت المفردة خلال قوله: اذا حدث انفصال للجنوب _ لا قدر الله_ فان الدستور سيعدل في كل شي كان يخص الجنوب، وسنبعد منه (العبارات المدغمسة) وتصبح الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، والاسلام هو الدين الرسمي للدولة واللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، ولا مجال للحديث عن دولة متعددة الاديان والأعراق والثقافات. مفردة (الدغمسة) التي وردت كما هي في النقل الحي والسريع عبر وكالات الأنباء والفضائيات والصحف السيارة في الداخل والخارج، حيرت البعض من الذين كانوا في حاجة للبحث حول أصل العبارة ومعناها، وربما فهمها قليل منهم ومازال آخرون يبحثون في قاموس العامية السودانية، ووجدت (الدغمسة) نفسها تتداول طوال الأسبوع الماضي على مدى واسع، ويتم تبادلها واستخدامها وفقاً لزاوية النظر والموقف من السياق الذي ذكرت فيه، ولكنها ترتبط هنا بقضية مهمة متعلقة بالقوانين، حيث نشط البعض في وصف القوانين السارية بأنها (مدغمسة). وتعني الكلمة في معناها البسيط الإبهام والتداخل وعدم الوضوح الكافي، إلى جانب إمكانية استخدامها في أي مقام يفيد ذم ما يذكر قبلها، ويرى منتقدو مسيرة القوانين ودوائر الحكم في البلاد ان الأولى بوصف (الدغمسة) هم المعنيون بتطبيق القوانين الحالية، باعتبار أن القوانين (المدغمسة) جيدة الصياغة والسبك، رغم أن السودانيين من أشهر من عرف بجودة صياغة القوانين وضبطها داخل السودان، وحتى في الخارج اعتمدت بعض الدول المجاورة، ودول أخرى اوروبية وغيرها على السودانيين في صياغة القوانين. ويشير البعض إلى أن (الدغمسة) والتراجع الذي حدث في جانب القوانين، سببه عدم الإستقرار السياسي وفقدان كثير من الكفاءات في المجال، ويشير البعض إلى أن الدغمسة قد تكون لأسباب موضوعية غير مقصودة وقد تكون لأسباب مقصودة بهدف خدمة جهات بعينها. من الذين يعتقدون أن المشكلة مشتركة د. عبد المتعال قريشاب الخبير في الإصلاح القانوني، رئيس المجموعة الوطنية للإنتخابات والديمقراطية، يذكر انهم قاموا بعمل العديد من الورش لتجنب أي نوع مما يسمى بالدغمسة التي يشير إلى انها مصطلح جاء مع حكومة الإنقاذ، ويشير إلى أنه من الضروري عند الحديث عن قوانين الشريعة الإسلامية معرفة أي إسلام يتم الحديث عنه، ويؤكد أن الدستور الحالي يؤيد ويكرس للتعددية الثقافية ولكرامة الإنسان، وهو مستمد من الإسلام ومن العادات والتقاليد الأخرى، ويوضح أن الإختلالات التي تقع سببها غياب الوعي لدى المواطن. ويرمي د. عبد المتعال الإنقاذ بأنها جاءت بالمشاريع (المدغمسة) التي لم تكن واضحة وإنما تكشفت وتتكشف لاحقا. إشكالية القوانين وترديها وضبابيتها، عبارة عن حلقة إذا اختل جزء منها وقعت مشكلة في أحد الأركان إما في الصياغة والسبك والضبط او المواءمة مع الواقع الإجتماعي، أو في التطبيق والتنفيذ، ومن هذا الباب ينتقد البعض الحكومة، ويؤكد أن الغموض ليس في القوانين الوضعية وإنما في تفسير القوانين السارية. ويرى المحامي المعروف نبيل أديب أن القوانين تواجه إشكاليات وغموضا في الصياغة والتطبيق، في وجود مواد يصعب تفسيرها وتحتمل التأويل في التطبيق والتنفيذ، وفي بعضها تتم الإدانة وفق الترجيحات والإحتمالات وليس عقابا على عمل وقع فعلا، بجانب وجود ما سماه اديب ب (قوانين تمييزية) تترك مجالا لأفراد الضبط التفسير والتنفيذ. وهي عقوبات وضعها البرلمان في الحكومات السابقة والحالية لأن الشريعة واضحة الحدود المعينة. ويؤكد أديب أنه ليست هنالك دغمسة وتعارض مع الشريعة في القوانين الأخرى الصادرة من السلطات والخاصة بالتعدد والتنوع وأصحاب العقائد الأخرى في وجود مفوضية لحقوق غير المسلمين، لأنها تستوعبهم جميعا ولأن الحديث هنا عن المعاملات وليس عن العقائد. ومسيرة تطور القوانين في السودان وبالذات في الحقبة الأخيرة وبصورة أخص ما بعد نيفاشا، تبعد شبهة الدغمسة عما يتم تطبيقه على أرض الواقع، ويتتبع عمر الفاروق شمينا القانوني المعروف هذه المسيرة منذ نشر مبادئ الإيقاد في 1992م، والتي قالت إنه إذا كان السودان سيحكم بطريقة علمانية فيجب ألا يكون هنالك تقرير مصير، وعرض ذلك على المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وأكد الوطني تطبيق الشريعة الإسلامية، ولذلك صدر بروتوكول ميشاكوس الذي أقر دولة واحدة بنظامين قانونيين، تطبيق الشريعة في الشمال والقوانين العلمانية في الجنوب، ويضيف أنها وفقا لذلك أفرغت في الدستور الإنتقالي وعلى وجه التحديد في المادتين (5) و(6)، واللتين تتحدثان عن الشريعة الإسلامية والإجماع كمصادر تشريع في الشمال، والتوافق الشعبي والمعتقدات الدينية والتقاليد التي تؤخذ في الإعتبار في الجنوب. لكن شمينا يشير إلى أن التنوع في السودان يؤخذ بعين الإعتبار فيما يتعلق بالقوانين، وينبه إلى إنشاء مفوضية لحقوق غير المسلمين. ويقول إن الشاهد في الأمر ان تطبيق الشريعة الإسلامية ورد بأوضح العبارات والتعابير - كما لم يحدث من قبل- بنصوص اتفاقية السلام الشامل والدستور وقبلها بمبادئ الإيقاد وبروتوكول ميشاكوس، بل وأضيف إلى الحدود حد الردة، والنصوص التي تمنع الربا، وبقيت قوانين الشريعة التي صدرت كما هي ولم تعدل، وبالتالي يؤكد شمينا أنه لا يرى قوانين (مدغمسة). وكيفما كان الأمر، فإن مفردة (الدغمسة) التي خرجت إلى سوح العمل العام، شبهة منكورة عن القوانين السودانية التي يؤكد أكثر الخبراء انها ليست سيئة، ولكن علاتها في التفسير والتطبيق، وإن الضبابية تلتحق بأمور أخرى مهمة في تفاصيل الحياة السودانية اليومية، تنتظر أن يعمل فيها الخبراء جهودهم من أجل بلد ليس في قاموسه كلمة بهذا المعنى. الرأي العام