عندما ينعطفُ القطار عن سهول جنوب ويلز، قادماً من كمبردج الانجليزية، تبدو الألواح الجيرية الضخمة ماثلة للعيان في طرف مدينة نيو بورت، تخبر عن حضاراتٍ عمدتها حروبٌ وإحن. ديريك ماكفورد كان هناك : جئت من عند الانجليز الملاعين..، قالها مبتسماً. في ويلز الأغلبية ترتعدُ عندما تسمع كلمة "انكليزي"..كما هو الحال عند الاسكتلنديين والايرلنديين، تدلفُ إلى مدنهم ، فتجد لغتين: الانكليزية واللغة المحلية.. الانكليز حفزهم الذكاء الاجتماعي لاستيعاب تطورات العقل الجمعي الطامع إلى التحرر والسيادة، امتصوا الثورات والغضب والطموح بتنازلاتٍ، يخالها المرء زهداً ، بيد أنها، فلسفة المسيطر الحديث: امتلاك أدوات العلم والنفاذ فيه، والثروة والاقتصاد والتجذر بهما، لتتحقق السيادة وفق القانون..الملكة إليزابيث منذ عشرين عاماً، تخلت عن أملاكٍ وقبلت بدفع ضرائب، وخفضت مخصصاتها،وفعلت الكثير لتستوعب نهوض تيارات الفكر الديمقراطي النخبوي الجديد كما اسماها دالتون. تتربع الآن " ملكة" يتجنبها الأعداء والكارهون.. لم تبلغ كمال الرضا من العامة الحمقاء...لكن القبول قل الإعجاب أو الاستسلام، لحسن إدارة صراعٍ لاتخلو بقعة في الأرض من ويلاتها، فلا تكاد ترى إلا سفكاً للدماء وفساداً. استعلاء واستكبار تتراكم عداوات الماضي ومعاركه للسيطرة والاستئثار، تعلو قيم استعلاء واستكبار للقوي، فيسكن الضعيف ويركن، فلا يقرأ المسيطر ما يعتمل وراء الصمت.. فيأتي الانفجار وتسيلُ دماء كثيرة كما يحدث في السودان اليوم..، فتعلو وتستبدُ روح استئصال الآخر. في ستينيات القرن الماضي نسبت لقائد الجيش السوداني حسن نصر، ظللنا نرددها بفخر: حل مشكلة الجنوب يتأتى بحرقِ الأرض ومن فيها.. نضجنا عمراً..فرأيت كبار السياسيين يرددها غضباً من مآل الحال.. وفرار الحل. نزفت دموع وداعٍ غزيرات في شوارع الخرطوم..والجنوبيون يرحلون فراداً وجماعة..إلى وطنهم الذي تكاد ترى سارية استقلاله تعلو في أفق ليس بالبعيد.. أغلبيةٌ رمى بهم الفقر في أطراف عاصمة السودان عندما اشتد أوار الحرب منذ أواخر الثمانينات وحتى وسط التسعينات، فعلقوا بهامش الحياة، وقلة توزعتها أحياء الخرطوم المتوسطة والغنية حيثُ يسكنُ الشماليون، فالتئموا في تمازجٍ اجتماعي. تآلف لم ينبت علاقات عميقة بأشكالها كافة..وبقي عدم التزاوج عبر العصور..سمةً تعكسُ عدم استواء الوشائج. النخبة الجنوبية عموماً تتفق أن الأمر مرتبطٌ بتخلفٍ وروح استعلاء زائفة عند الشماليين وأن عدم تزويج الشماليين بناتهم أو غياب نزوع أبنائهم لزواج الجنوبيات..لا يؤرق الجنوبيين بسبب اعتدادهم بأنفسهم وتقاليدهم وذواتهم ونسائهم.. انقاذ الشماليات من أول عملية استرقاق تكادُ رائحة الدم تشتمُ على ضفاف النيل في نهايات عام 1978..أي قبل نحوِ 110 سنوات.. قبائل غرب السودان تكدست حول الخليفة ودولته، الشماليون وسكان الوسط وأغلب الشرق، ناهضوه سراً وعلانية..وتحدثوا عن سعي أنصار المهدي لاستئصالهم واذلالهم.. في أمدرمان ، وقف التاريخ عند منظرٍ حينئذٍ ألب وجدان شماليين كثر ليصطفوا ضد المهدية: "إذا اتخذتم الجعليات سراري (عبيداً)...فستشتعل أمدرمان ناراً..الموت أهون لنا من أن نشهد ذلك " ..هذا معنى ما قاله محمد مختار..بعد أن لطم داؤود سكرتير الأمير يعقوب، رئيس وزراء دولة المهدية حينئذٍ..ومحمد مختار من قبائل الرباطاب الشمالية ... وكان من القلائل الشماليين الذين بقوا على إخلاصٍ للدولة المهدية.. خصوصاً رئيسها الخليفة عبد الله التعايشي. داؤود كان يعود محمد مختار لمرضه..وعندما هم بالقيام، قال إنه سيذهب للخليفة التعايشي ليمنحه إمرأة من الجعليات يتخذها "سراري" أو أمةً. جيء بالنساء الجعليات أسرى في قوارب ضخمة الى أمدرمان عاصمة المهدية ..بعد أن هاجمت جيوش المهدية مناطق قبيلة الجعلية في وسط السودان الشمالي انتقاما لعصيانها..وقتلت رجالاً كثير وفر من فر.. وأنقذ محمد مختار بضربه داؤود النساء الجعليات من أول عملية استرقاق كانت ستتم لشماليات في العصر الحديث..فقد ذهب داؤود ليشكو للامير يعقوب ما فعله به محمد مختار..فأمر الأمير يعقوب بأن تسلم النساء لأقاربهن في امدرمان. المهدية التي أطلقها محمد أحمد عبد الله وهو شمالي من قرية الأشراف "لبب" كما سميت. المهدي نفسه وجد في الشماليين عنتاً عندما أطلق دعوته القائمة على فكر المهدي المنتظر، وهاجر الى غرب السودان ليجد في قبائلها السند..خصوصاً وأن استبداد الترك بلغ ذروته.. وحال الناس مبلغاً مدهشاً: شهدت مدينة في غرب السودان زواج ذكور من ذكور. الشماليون بعد انطلاق معارك المهدي انضموا له، وبعد وفاة محمد أحمد المهدي بوقت قصير على السيطرة على الخرطوم وخروج الانجليز والأتراك.. دب الخلاف والصراع..وقضى خلقٌ كثير من الشماليين وُنفي بعضُ قادتهم أو قتلوا.. أنصار المهدية وعبد الله التعايشي..رأوا أن معارضة الشماليين، مستمدةٌ من روح استعلاء وعنصرية وازدراء .. تجرد الآخر من إنسانيته وتسجنه في قيود العبودية..!! ولا ترى فيه قدرة أبعد من ذلك.. تآلف الشمال والنوبة تآلف أهل الشمال انطلاقا من سنامهم في أقصى الشمال من الحلفاويين والسكوت والمحس والدناقلة..حيثُ الحضارة النوبية العريقة إلى الشايقية والجعلية والرباطاب وغيرهم من القبائل. يعودُ هذا التآلف إلى التداخل عبر القرون، بين النوبة كدولةٍ وحكومات وعائلات مع من وفدوا إلى هذه المناطق من عرب أو قوميات سودانية أخرى.. على مبدأ الاستيعاب الإيجابي من منح للأراضي والتسهيلات والحقوق المدنية ليشاركوهم إحن الدفاع عن هذه المناطق من الغزوات المستمرة من الشمال أو غيره.. أما الشنآن والعداوات مع أو من الآخر في مناطق السودان الأخرى، فأساسه ضعف الحكومة المركزية الموحدة على أسس الدولة الحديثة..من خدمات وتعليم وحفظٍ للحقوق وتمكين للواجبات. وهذه الدولة في ركوعها ومرضها، ربما يحرك دولابها واقتصادها شماليون في كمهم وعددهم بحكم تمكنهم المبكر من التعليم الذاتي التمويل في أغلب أحواله، ووجودهم التاريخي في مناطق باتت هي حواضر الدولة الحديثة.. لكنَ الحكم كان في أغلب فتراته شراكة بين صفوة أهل القوة في الشمال ومؤسسات الدولة من جيش وأمن وشرطة وبين المتحكمين في الجموع الشعبية في هذه الأطراف.. رضوا جميعاً بالذي هو أدني..فلم يصلح حال شمالٍ أو جنوب.. ولا تجد فيهم رشيداً يقر بذنبٍ أو تقصير فيبسطُ الأسباب ليعقد الحلول: الاستئصال.. فيجيشُ لقيم الكراهية والنبذ. فلا تكفي العداوات التاريخية الناجمة عن حروبٍ سحيقة وأفعال منكرة طوتها قرون لوراثة ما تراه من استعداد في مناطق عدة في السودان تتربص للانسلاخ في مطلبها المتواضع والانقضاض لنزع ما تسميه الحقوق من الأقلية الشمالية الاستعمارية.. حتى وإن سالت دماء غزيرات أكاد أشتم رائحتها. العربية