1911م شهدت مدينة شندي ميلاد طفل جميل لأسرة حنفي، تواطأ والداه على تسميته ب(محمود)، ولكن أبيه كناه ب(مسعد) المشتق من (السعادة)، وذلك لكسبه قضية مدنية يوم مولده، فكان ذلك اليوم من أسعد أيام حياة العم (حنفي)، أن يكسب قضيته وينجب مولوداً ذكراً. لا أحد الآن ينادي الطفل الصعير إلا ب(مسعد)، ويعتبر مسعد حنفي أحد أهم الشعراء الذين أرخوا لشعراء الحقيبة في مذكراته التي ظلت حبيسة الأضابير زمناً طويلاً، ولعل أهم ما ورد في مذكرات مسعد حنفي هو أنه قال إن أغنيتي (وجه القمر سافر والناعسات عيونن) المنسوبتين لشاعر الحقيبة المعروف صالح عبد السيد الشهير بأبي صلاح هما من أشعاره، وحكى (حنفي) عن ذلك بوضوح وشفافية، فدعونا نقرأ ما ورد في مذكراته. اللقاء الأول قلنا في الحلقة الأولى أن صاحب المذكرات الشاعر مسعد حنفي كان بصدد تجميع أغاني تلك الفترة من (الحقيبة) في كتاب، بإيعاز من مزمل ومدثر أبو الريش، أصحاب مكتبة ومطبعة أبو الريش الشهيرتين في أم درمان آنذاك، وذكرنا أن (مسعد حنفي) حاز على موافقة كل من سيد عبدالعزيز، وعبيد عبدالرحمن عن طريق مصطفى بطران، ولكنه ذكر أنه كان يخشى من عدم موافقة أبو صلاح على المشروع لثلاثة أسباب ذكرناها في الحلقة السابقة، وتوقفنا عندها. وفي هذه الحلقة يسلط (مسعد حنفي) الضوء على لقائه الأول بالشاعر صالح عبد السيد، وهل تحقق ما كان يخشاه، ثم ننتقل إلى تطور علاقته بأبي صلاح التي تبلغ ذروتها حين سيذكر الشاعر مسعد حنفي في الحلقة القادمة إنه - وليس أبو صلاح - شاعر أغنيتي الناعسات عيونن ووجه القمر سافر، دعونا نقرأ سوياً.. ذهول ودهشة يقول مسعد حنفي في مذكراته: دُهشت وذهلت عندما قابلت أبو صلاح للمرة الأولى، فحين كنت أتوقع أنني سأقابل رجلا مغروراً ومتغطرساً، فإذا به بسيطاً متواضعاً ولطيفاً، حلو الحديث مرحاً غير متعالٍ ولا متكبر، أفهمته مهمتي فرحب بي ولم أبرحه إلاً وقد توطدت العلاقة بيننا وأطلعته على بعض أشعاري فقال مجاملاً، هذا شعر جيد، لماذا لا تحاول تقديمه للمطربين، أجبته، ليست لدي صلة بأي منهم، بالإضافة إلى أنني لا أعتقد أن مطرباً كبيراً سيغامر بالغناء لشاعر مجهول وغير معروف مثلي، ردّ، هذا مقدور عليه، فقط حاول أن تنظم شعراً يتماشى مع روح الغناء الحديث، إذ يبدو أنك نظمت هذه الأشعار بروح ريفية ساذجة، قلتُ، فعلاً، قال، على كل أنا واثق إنك تستطيع تقديم أشعار تعبر عن ثقافتك العالية، وأنا مستعد أن أتردد معك على المطبعة لأعاونك على مراجعة البروفات، ومن ثم تتاح لنا فرصة جيدة للتفاكر فيما ستنظمه من أشعار. شكرته وانصرفت، وقد توطدت بيننا صداقة حميمة. جود بالطيف يا أخا البدري يواصل (حنفي): شمرت عن ساعد الجد، وطفقت أنسخ القصائد وأُرتبها ثم أدفع بها إلى المطبعة التي سرعان ما دارت عجلتها، وبدأت تطبع البروفات، وقد برَّ الشاعر أبو صلاح بوعده، وظل يتردد باستمرار عليَّ ويعاونني في التنسيق والمراجعة، وكنا نقصد سوياً غرفتي عقب الانتهاء من العمل، وذات مرة سألني في سياق الحديث (الونسة) عن الجديد من شعري فأطلعته على قصيدة (قسيم الريد ليّ.. جود بالطيف يا أخا البدري) والتي غناها لاحقاً الفنان خضر بشير، وناقشنا أبياتها بيتاً بيتا، وكان حكمه النهائي أنها جيدة، وسألني عما إذا كنت أريد أن يقدمها نيابة عني إلى (كرومة)، لكني قلت له لا، وإن بوسعي نظم أفضل منها. وأضفت، أنت تعرف أن لكل مطرب كبير مستوى معين، وليست هذه القصيدة في مستوى (كرومة)، فأمهلني قليلا، فقال، أنت على حق ولكن لدي فكرة أخرى، ولا سيما أن الفرصة سانحة أمامك الآن، قلت، أي فرصة؟ قال: كلفني أحد المعجبين، سيتزوج بعد أيام، أن أنظم له قصيدة بمناسبة زواجه، وأن أقارن في القصيدة بينه وبين غريمه الذي كان ينافسه في حب خطيبته، وكانت هذه عادة متبعة حينذاك، ثم ختم قوله باستعداده للتنازل لي عن هذه الفرصة. كانت فكرة أبو صلاح – يواصل (حنفي): إنّ استغلالي لهذه الفرصة وكتابة هذه القصيدة في هذه المناسبة تجعل كرومة يتقبل مني أشعاري ويتغنى بها لاحقاً، لكنه (أي أبو صلاح) أضاف: سأقدم لكرومة هذه الأغنية على أساس أنها من نظمي (أي من نظم أبي صلاح)، وما أن يغنيها وتنجح حتى أصارحه بالحقيقه فيُدرك أنك شاعر أصيل، وثق أنه هو الذي سيسعي إليك لتزوده بغيرها. في الحلقة الأخيرة، سنرى ماذا حدث، ولماذا ظلت هاتان الأغنيتان مقيدتين تحت اسم أبو صلاح وهما لمسعد حنفي – كما ذكر هو شخصياً في مذكراته، تابعونا غداً اليوم التالي