أ. غازي محي الدين عبدالله كباشي الأغنية السودانية الجادة المجازة من قبل لجان النصوص والألحان ظلت منذ فجر السودان الحديث (سودان الاستقلال) تمثل التزاما رصينا بالفن الراقي و تعبيرا حقيقيا للحس الرفيع ومحاولة جادة لترفيع الذوق بهدف الوصول الى أعلى سلم الذوق السليم وتقديم سياحة تروحية تهيم بالمستمع في المساحات والفضاءات الواسعة فينعكس ذلك على أداء الفرد في حياته العامة والخاصة... و هكذا ساعدت مساحات الإبداع الرفيع في النهضة الثقافية و التعليمية في المدارس والجامعات والأحياء فنشطت الجمعيات الثقافية والأدبية ومراكز الشباب و الإبداع فحققت نتائج ملموسة ظهر على اثرها الأدباء والفنانين من الرعيل الأول أو ما يعرف بفترة غناء الحقيبة بشعرائها الأفذاذ (خليل فرح ، محمد بشير عتيق ، ود الرضي، سيد عبد العزيز وغيرهم) ومن الفنانين (كرومة ، سرور، عبد الحميد يوسف وباراهيم الكاشف ، حواء الفلاتية) وغيرهم مرورا بعهد الصفوة (مبارك المغربي ، مصطفى سند ، صلاح احمد ابراهيم) ومن الفنانين (عبد الدافع عثمان، عبد العزيز محمد داوود، حسن عطية ، صلاح محمد عيسى ،أحمد المصطفى ، وابراهيم عوض)... ولم ينقطع فيض الإبداع فظهر جيل ذهبي رائع روعة أسلافه المبدعين فحلق في سماء الإبداع أذكر منهم من الشعراء (اسماعيل حسن، ابوقطاطي ، الدوش والفيتوري) .. ومن الفنانين قامات سامية من أمثال الراحل( محمد وردي، محمد الأمين ، ابراهيم الكابلي ،صلاح بن البادية ، صلاح مصطفى‘، رمضان حسن، رمضان زايد، ) ثم لحقت بهم كوكبة من أهل الفن الأصيل بقيادة شاعر الحب والجمال الرائع (اسحق الحلنقي ، هلاوي) وملأت ساحات الطرب أصوات وضعت بصمتها في مسيرة الفن السوداني وخلدت اسمائها باحرف من نور المبدع الراحل (زيدان ابراهيم، الاستاذ ابوعركي البخيت، محمد ميرغني، التاج مكي ، ابراهيم حسين، عبد العظيم حركة ، عبد العزيز المبارك)وغيرهم .. و يعتبر الفنان الراحل الاستاذ مصطفى سيد أحمد آخر عمالقة الفن الملتزم والرصين الا من رحم ربه من أمثال الهادي الجبل ، وعصام محمد نور و الراحل محمود عبد العزيزمن الجيل الحالي... ثم بدات الأغنية السودانية تتخذ لها مسارا غريبا حرفها تماما عن خط الملتزم والذوق الرفيع وانحدر بها الى الدرك الأسفل في حضن المجون والتفسخ وأكتظت الساحة بغثاء من المغنين و المغنيات لم يعرفوا من قيمة الفن الا عدادات المال التي يتكسبونها من فنهم الرخيص والذي تتضاءل واصبحت عباراته مستمدة من مستنقع الإنقاذ الذي تطاول على قيم التسامح و السلام فجاءات أغاني "قنبلة" و " رصصني بمسدك" "كلاشنكوف" مودعين اغاني مسامحك يا حبيبي مهما تجور علي قلبك عارفوا ابيض وكلك حسن نيه .... وهبط الذوق الشعري لادنى مستوياته فجاءات أغنية " حرامي القلوب تلب و أنا في نومي بتقلب" لتؤكد على عمق الأزمه العاطفية التي يمر بها الشباب السوداني حيث اصبحت سمة الحب الغش و الخداع ... وضاع الحب الطاهر مع الزمن الجميل زمن " انا صادق في حبك " و غيرها من الروائع التي تتغنى بوفاء الحبيب و المحبوبة ... و أصبح الحب الطاهر ماركة قديمة لا تسمن و لا تغني المصلحة في زمن أصبح فيه شرف البنت يساوي جنيهات معدودة (بالقديم).. أو وريقة (الزواج العرفي) لا تضمن حقا شريعا لمن ارادت تحصنا... هذه هي الأرضية الثقافية التي يتغذى منها شعر هذا العهد البليد.. بعض النقاد من جيل الشباب وقليل جدا من المخضرمين يحاولون إلباس الأغنية الهابطة ثوب يستر عورتها البائنة وذلك بإطلاق مصطلح الأغنية الشبابية على هذا النوع من الغناء تمعنا في ترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب لطمس هوية الإبداع الرسالي وتعميق أزمة الأغنية لتشبه تماما التشوه الخبيث الذي أحدثته معاول الحكم الشمولي الإنقاذي بعد ان طمسته بثقافة الأغنية الجهادية حينا في بداياتها والهبته بسقط الكلام ورزيل اللمام بعد التمكين..... ولكن فات على هؤلاء أن لباسهم شفافا أكثر مما يجب فلم يستر عورة الأغنية الهابطة بل جعلها أكثر إثارة وفتنة وسقوطا.... لأول مره أعرف أن الأغنية لها تصنيف شبابي وآخر عجائزي... لكن يمكننا أن نقول أن الفنان فلان عجوزا أي كبيرا في السن وأن ذلك الفنان شابا... لذلك عندما كان الفنان الرائع عثمان حسين (رحمة الله عليه) في عز شبابه تغني بروائع مثل (لا وحبك، أحبك أحبك وغيرها من الأغاني الرصينة وظل يتغنى بتلك الأغاني بعد أن تخطى سن الشباب ولم أعرف له جديد بعد سن الشباب فصل بين أغانية في مرحلة الشباب وما بعدها...وهكذا سار كبار الفنانون من أمثال الراحل وردي ، أحمد المصطفى، عبدالعزيز محمد داوود وغيرهم كثر ومن الأحياء الرائع محمد الأمين، ابوعركي البخيت في درب الأغنية الرصينة ...لا فرق ابدا في مستوى أغانيهم في فترة الشباب او ما بعدها... وهكذا تظل الأغنية الرصينة منذ ولادتها صرخا شامخا لا يصيبها الزمن بداء الشيخوخة او الفناء.. بل تتجدها أوصالها مع كل جيل وتخضر أوراقها مع كل مبدع و لا يغشاها ابدا سفر الرحيل.... اما الأغنية الهابطة فسوف تذهب جفاء و لا يبقى من ذكراها إلا سفاهة تظل تطارد صاحبها وخوف من أن لا ينحرف بنا قطار الإبداع الى زمن الإنحطاط اللئيم... ان التدني الذي تشهده الساحة الفنية في مكنون منتجها وذوق المستمع العام لا ينفصل ابدا عن المشروع الحضاري الذي بشرت به الإنقاذ في نهاية القرن الماضي .. ولأن المشروع قائم على الدجل والوهم والابتزاز الاجتماعي والشعارات الدينية القشرية الزائفة كانت نتائجه فطيرة و مردوده شباب سطحي المعرفة، قشري الدين لا يعرف الدين الا شعارات استهلاكية وأصبع يُرفع مرتجفا يهتف دجلا الله أكبر ... وكيف لا يتدنى الذوق العام وقدوة هذا المشروع الحضاري الخجول يفتقد خطابه لأدنى قواعد الذوق و الأدب ... وسلوكه يفتقد لأدنى مقومات الاحترام والوقار حيث اصبح ديدنه الرقص بعد كل خطبة حتى أصبح "حنان" بلولو زمانه ... وكان العرب قد قالوا قديما "إذا كان رب البيت بالدف ضارب .. فشيمة أهل البيت الرقص و الطرب".... سوف لن ينصلح حال الفن السوداني ما لم ينصلح حال مشروعنا الحضاري المائل... ويذهب أهله الى مزبلة التاريخ..... و مالم يدخل جرابيع شعراء وملحني عصر المال في علبهم .... كل هؤلاء الذين اصبحوا شعراء و ملحنيين بمالهم لا بابداعهم وموهبتهم الفطرية... وما لم ينزوي المطبلين وحارقي البخور من الصحفيين الجهلاء من الفاقد التربوي .... والى حين ان يتحقق توقعوا الخدش والايذاء السمعي.... أ. غازي محي الدين عبدالله كباشي